&التقدير السليم القاضي بإزالة الأفكار المجانبة للصواب قد يتعارض بآراء لا تستند إلى دليل ثابت الهم إلا الأعتماد على إرث سقيم لا يرقى إلى تبيان الأمور على وجهها المراد، ومن الأمثلة على ذلك اتفاق الجم الغفير من الناس على روايات باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، ولهذا ترى أن المنهج المتبع لدى أولئك الناس الذين اقتصر اهتمامهم على التوفيق بين الروايات وبين ما يطرأ على أصل خلق الإنسان لا يتعدى إلى أكثر من الابتعاد عن الحقائق المنصوص عليها في كتاب الله تعالى ومن هنا فقد عمد هؤلاء إلى الأخذ بالروايات التي تبين أن الله تعالى قد خلق ألف ألف عالم وألف ألف آدم أو ما يقرب من هذا العدد على اختلاف في اللفظ علماً أن هذه الحداثة في الطرح لا تصل بالإنسان إلا إلى النتائج التي تضاف إلى الجدال القائم بين العلم والدين على فرض استقلال أحدهما عن الآخر، وعند التسليم بهذا الفصل يظهر أن الأمر لا يخلو من التناقض في جميع أبعاده التي يظن بعض الناس أنها ترفع الشك الذي ينسب إلى العلماء إذا ما ظهرت مجموعة من الحقائق العلمية ترمز أو تشير بوضوح إلى آدم الذي ذكر في القرآن الكريم وهذا ما جعل القسم الأكبر منهم يذهب إلى أن الرواية التي أشارت إلى أن هناك ألف ألف آدم هي السبيل الوحيد الذي يُرجح الأخذ به لأجل التخلص من الأحداث المتناقضة التي تثار بين حين وآخر.
والحقيقة التي نميل إلى التسليم بها على فرض صحة تلك الروايات لا تخرج عن تطابق الأسماء التي تشير إلى المخلوقات الأخرى مقارنة بآدم الذي ورد ذكره في القرآن الكريم وهذا ما بينه الله تعالى على لسان الملائكة في قوله: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) البقرة 30. ويظهر من السياق أن الرد المقابل لهذا الاعتراض كان متلازماً مع ما بدر من سؤالهم كما هو ظاهر في قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة 30. وبناءً على ما تقدم لم نجد ما يشير إلى وجود آدم آخر يشبه الإنسان من قريب أو بعيد ولا أقصد التركيبة البدنية فتأمل. ولو ثبت صحة ما ذهب إليه العلماء لما تأخر ابن آدم القاتل فترة من الزمن دون أن يواري سوءة أخيه. فإن قيل: ربما كان الإنسان الأول يقوم بحرق الموتى أو اتباع طرق أخرى للتخلص منهم كما هو متبع اليوم لدى بعض المجتمعات؟ أقول: لو كان الأمر كذلك لأخذ به القاتل ولمّا عزب ذلك عنه علمنا أن ليس هناك آدم آخر فتأمل.
ولأجل أن نختصر الطريق أمام اصحاب هذا الرأي يجب أن نبين أن الله تعالى قد أخفى خلق الإنسان عن الإنسان نفسه فكيف يتمكن بعد ذلك من الاطلاع على التفاصيل الأخرى التي تفرق بين خلق وآخر أو بالأحرى بين آدم وآخر، وهذا ظاهر في قوله تعالى: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً) الكهف 51. فإن قيل: إذا سلمنا بوجود آدم المشار إليه في القرآن الكريم دون غيره من المخلوقات التي قيل إنها على شاكلته فما هي الطريقة التي تكاثر بها البشر؟ أقول: ذهب المفسرون إلى مجموعة من الآراء أهمها:
أولاً: تم التناسل بين أبناء آدم وبين الحور العين أو الجن على اختلاف درجاتهم.
ثانياً: إن التناسل قد حصل بين أبناء آدم والمخلوقات السابقة لهم.
ثالثاً: حصل التناسل بين الذكور من أبناء آدم وبين أخواتهم.
وعند نقاش هذه الآراء فإن الرأي الأول لا يثبت أمام متفرقات القرآن الكريم، كما هو ظاهر في قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) النساء 1. وكذا قوله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم 21. وهذا يصلح أن يكون رداً على الرأي الثاني الذي ذهب أصحابه إلى حصول التناسل بين أبناء آدم والمخلوقات السابقة، وقد بينا فساد هذا الرأي من خلال البحث. فلم يتبق إلا الرأي الثالث الذي يشير من ذهب إليه إلى أن التناسل قد حصل بين الأخ وأخته، وهذا هو الحق المبين الذي ذكر في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (وبث منهما) النساء 1. وكذا قوله: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) النحل 72. وقوله: (فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً) الشورى 11. فإن قيل: ألا يعتبر هذا العمل من السفاح؟ أقول: الفرق بين النكاح والسفاح وإن شئت فقل بين النكاح والزنا لا يخرج عن رضا الله تعالى أو سخطه علماً أن الأحكام التشريعية تكون تابعة للمصالح وليس العكس إلا ما يخرجه الدليل، وهذا خلاف الأحكام التكوينية التي لا تقبل التبديل، ثم إن الأمر يقتضي أن يكون كذلك لعدم توفر القابل الذي يساعد في إخراج البشر عن طريق آخر وأنت خبير من أن الأصل في الأشياء إباحتها إلا إذا ظهر ما يدعو إلى حرمتها عن طريق آخر، إضافة إلى أن الله تعالى يحكم لا معقب لحكمه، كما بين ذلك في قوله: (والله يحكم لا معقب لحكمه) الرعد 41. وكذا قوله: (إن الحكم إلا لله) يوسف 40. وقوله: (ولا يشرك في حكمه أحداً) الكهف 26. وكذلك قوله: (إن ربك فعال لما يريد) هود 107.&
من هنا يظهر أن البشر قد تكاثر بهذه الطريقة "أقصد التناسل بين الأخ وأخته" ثم بدأ الشرع يحدد مراتب التحريم، وبناءً على هذا فقد وضع القرآن الكريم حداً للأعراف التي كانت سائدة في حضارات البشر قبل البعثة كزواج الرجل من امرأة أبيه وكذا الجمع بين الأختين وما إلى ذلك، وفي نفس الوقت تعرض إلى مواضيع أخرى تجنب الإنسان الوقوع في أمور مشابهة لتلك الأعراف علماً أن هذه الأعمال لا زالت تمارس من قبل الكثير من المجتمعات بغض النظر عن إلزامهم أنفسهم بما هو مشرع في الكتب الأخرى، ومن هنا فقد بين الله تعالى جميع الحلول المناسبة للقضاء على تلك الأعراف، كما هو ظاهر في قوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً... حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً... والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليماً حكيماً) النساء 22- 24.&
فإن قيل: لمَ أطنب القرآن الكريم في هذا السرد، أليس الأولى أن يختصر الأمر؟ أقول: على الرغم من الإطناب الظاهر في الآيات آنفة الذكر إلا أنها ترد إلى الإيجاز، ولأجل بيان هذا المعنى يمكن القول إن الأصناف التي ذكرت يمكن أن تتفرع إلى مصاديق كثيرة تظهر في مفهوم الآيات، وهذا يعني أن الأم لا يقتصر معناها على الأم الحقيقية وإنما يتفرع على والدة الأب فصاعداً، وكذا الحال مع البنت فهي من إتصل نسبها بالإنسان سواء كانت من صلبه دون واسطة أو بنت الابن وما نزل، وكذلك الأخت فهي من إتصل نسبها بأخيها من جهة ولادتهما من الأب أو من الأم أو منهما جميعاً دون واسطة، والعمة هي أخت الأب والجد سواء من جهة الأب أو جهة الأم، أما الخالة فهي أخت الأم وأخت الجدة من جهة الأب أو جهة الأم، وبناءً على هذا التقسيم نستطيع القول إن الإطناب قد ظهر في التفسير دون الألفاظ الواردة في الآيات فتأمل. وعند التسليم جدلاً من أن ما ورد في الآيات هو من الإطناب فاعلم أن الإطناب أخص من الإسهاب لأن الثاني يعني بسط الكلام سواء كان لفائدة أو غير فائدة أما الإطناب فهو بسط الكلام دون أن يكون للألفاظ زيادة على المعاني وقد بينا ذلك من خلال مصاديق الآيات، وهذا يكثر في آيات الأحكام لئلا يكون للناس حجة بعد ذلك، ومن هنا تجد أن آية الدين هي من أطول آيات القرآن الكريم، وكذا المقاطع الأخرى التي يشير فيها الله تعالى إلى تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، إضافة إلى ما بينه من أمر الزواج والطلاق والربا وما إلى ذلك، فهذه المواضيع لا تحتمل الإشارة أو الكناية وإنما يجب أن تبين على أتم وجه بحيث لا تصعب على كثير من الناس وإن اختلفت درجاتهم. فإن قيل: وماذا عن قصص الأنبياء التي لا تخلو من الإطناب؟ أقول: المتأمل في قصص الأنبياء يجد أنها تشير إلى أمرين مهمين أولاهما تثبيت قلب النبي (ص) باعتبار أن تلك القصص تحمل الاطمئنان والسكينة التي يحتاجها، وثانيهما يكمن في اشتمال قصص الأنبياء على بيان أدلة التوحيد التي يجري عليها ما على آيات الأحكام من حيث البيان فتأمل.
&
التعليقات