منذ ما قبل العصر العلمي والتكنولوجي الذي ساد البشرية ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي، كانت هناك أطروحات تسمى بــ " تعدد العوالم" ثم تطورت حديثاً لتتخذ مسمى الكون المتعدد Univers multiples أو تعدد الأكوان multivers. فهذه الفكرة تعود إلى عهد الإغريق القديم، فلقد تطرق إلى الموضوع الفيلسوف آناكسيموند Anaximande، وكذلك ديموقريطس Démocrite، وأتباع المذهب الذري في ذلك الوقت إلى جانب عدد كبير من مثقفي تلك الفترة الذين كانوا يعتقدون بتعدد العوالم. إلى جانب الاعتقاد بتعدد الأكوان عند آبيقور Epicure و لوكريس Lucrèce. ثم أغرق العالم بالفكر الثيولوجي القروسطي، خاصة في العصور الوسطى، حيث حوربت فكرة تعدد الأكوان أو تعدد العوالم واعتبرت من الهرطقات يعاقب من يرددها بالموت، ازدهرت مرة أخرى تدريجياً في عصر النهضة مع علماء من أمثال نيكولاس دو كويه Nicola de Cues، وقد سبقه العبقري الشهيد جيوردانو برونو Giordano Bruno الذي أعدمته الكنيسة الكاثوليكية حرقاً وهو حي سنة 1600 عقاباً له على جهره بهذه الأطروحة وتصريحه بتعدد العوالم ومناقضة أطروحة الكنيسة الرسمية بهذا الصدد والتي تقول بنظرية الخلق المباشر من قبل الله لعالم واحد مركزه الإنسان والأرض التي يعيش فوقها. ونظيره الفرنسي رابليه Rabelais هو الآخر جهر بذلك أيضاً ولكن باتجاه معاكس مليء بالسحر والصوفية. ومع الفيلسوف المتنور ليبنيز Leibinz، بدأ العصر الكلاسيكي لأطروحة تعدد الأكوان حيث بدأت الفلسفة المعاصر تتبنى هذه الفكرة. أما في العصر الحديث، أي القرن العشرين والحادي والعشرين، فإن هذه النظرية غدت منتشرة بالرغم من امتعاض واعتراض بعض العلماء التقليديين في الوسط العلمي عليها. فهناك عدد من العلماء وضع مسافة بينه وبين المقترحات والأفكار الأنطولوجية المتعلقة بعلم الكائن والبرهنة على وجود الله الخالق، والمرتبطة بمفهوم الكينونة الواقعية باعتبارها كائناً حياً. ومن هذه الزاوية اعتبر بعض العلماء أن الخوض في هذا الجدل بلا طائل لعدم وجود تبعات أو انعكاسات ونتائج عملية تترتب على ذلك. ولكن حتى لو لم تتمكن البشرية لحد الآن، ولا في المستقبل المنظور، الذهاب لأكوان أخرى، فضلاً عن عجزها ولوج مناطق بعيدة جداً في كوننا المرئي ذاته، إلا أن إثبات وجودها من شأنه أن يؤثر جوهرياً على قناعاتنا وطريقة تقويمنا لما يحيط بنا. فلو حاولنا، على سبيل المثال، معرفة ما إذا كانت نظرية ما تصف، على نحو جيد ودقيق وعلمي، كوننا المرئي فالأمر سوف يعتمد على عدد الأكوان التي سوف تتنبأ بها هذه النظرية العلمية الكوسمولوجية أو تلك، وهو ليس خيار جمالي بقدر ما هو وضع غير طبيعي ذو صرامة علمية، ولكن كما نعرف أن كل من يخرج على الطريق السائد والمألوف يثير الإزعاج والتشكيك.
لم تكن نظرية النسبية العامة لآينشتين على تضاد مع نظرية تعدد الأكوان. فنظرية آينشتين أظهرت لنا أن الزمكان espace-temps ديناميكي وهو ليس معطى ثابت وجامد، كما كان حسب مفهوم الفيلسوف كانت Kant والعالم الرياضي نيوتن، أي ليس كما كان يوصف سابقاً كوعاء تحدث في داخله الأحداث والظواهر، فقد وصفته نظرية آينشتين بأنه هو بذاته ظاهرة ومعطى هندسي أو نسيج جيوميتري، وكان ذلك بحد ذاته بمثابة ثورة هائلة في المفاهيم العلمية.
وعندما نطبق أفكار آينشتين على كوننا المرئي، وعلى الفضاء أو المكان فيه، فإننا نكتشف، ليس فقط بأن توسعه ما هو إلا حالة تمدد ذاتية فحسب، بل وكذلك يمكننا إدراك أو تصور هيكليته أو جيوميتريته أي هندسته. وفي سياق الحلول الممكنة في علم الكون الكوسمولوجيا، فإن المكان ذو حجم لامتناهي. ولو أطلقنا تسمية كون على مجمل النقاط المتصلة والمتفاعلة في هذا المكان اللامتناهي، عندها سيكون بالضرورة وجود عدد لامتناهي من الأكوان، أو شكل بدائي أو أولي لكون متعدد يولد بدوره ظواهر مدهشة، أي أن كل ما هو ممكن حدوثه يجب أن يحدث أو يولد ويتكرر حدوثه وولادته على نحو لانهائي، وبالتالي يمكننا العثور على نسخ منا لديها نفس الماضي ولكن ليس بالضرورة نفس المستقبل.
المعضلة التي تواجهنا هي أن هذا الفضاء أو المكان اللامتناهي مليء بنقاط غامضة أطلق البعض عليها تسمية الثقوب السوداء، ولكن ما هي الثقوب السوداء بالضبط؟ هي أجسام أو أشياء مذهلة أو ظواهر كونية تشكل مناطق منفصلة عن النسيج العام وعن التطور الكوني الفيزيائي الملحوظ والمرصود للكون المرئي. يعتقد العلماء أن من الممكن الولوج إلى الثقب الأسود ولكن من المستحيل الخروج منه كما علمتنا نظرية آينشتين النسبية العامة، وهناك من يعتقد أن كوننا ربما يتواجد داخل ثقب أسود مهول في حجمه. فهذه الثقوب غامضة وغريبة. فعلى سبيل المثال، تكون سرعة جسم في حالة سقوط حر في قلب الثقب الأسود في لحظة دخوله للثقب، في أقصى حد ممكن لها، أي ما يقارب سرعة الضوء بالنسبة لمراقب محلي بالقرب منها، في حين تبدو هذه السرعة بالنسبة لمراقب بعيد عنها، في أدنى حد لها، يقرب من حالة السكون التام. ولكن هذا التناقض ظاهرياً فحسب، فالموجود إن هو إلا وصفات تكميلية متجانسة لنفس العالم في إطار معنى أو مفهوم نسبي. فالثقوب السوداء اعتبرت بمثابة إمكانيات نظرية افتراضية في الماضي، لكنها باتت اليوم جزءاً لا يتجزأ من مكونات الفيزياء الفلكية رغم إنكار بعض العلماء لوجودها. وهي تتكون نظرياً من انهيار نجم عملاق في نهاية عمره على ذاته تحت وطأة جاذبيته اللامتناهية، وهناك تفسير علمي جديد لم تثبت صحته بعد أو يتم تبنيه علمياً يقدم تفسيراً علميا للثقب الأسود، ولأول مرة في تاريخ العلم وخصوصا علوم الفضاء المعقدة، و يبيّن أن الثقب الأسود مكوّن من الأجسام النووية الأصغر من الكواركات وهي الماغنيتونات، و إنها كتلة باردة ذات مجال مغناطيسي عالي. وقد يوجد مئات الملايين من الثقوب السوداء بمختلف الأحجام في مجرتنا درب التبانة، وفي غيرها من المجرات، وهي مرتبطة، كظاهرة فلكية، بأطروحة تعدد الأكوان، إذ أن التجلي أو التعبير الرياضياتي للبنية الداخلية للثقوب السوداء في حالة الدوران، تظهر لنا أن هناك عدداً لامتناهي من الأكوان. ولا أحد يعرف ما إذا كان ذلك يمثل حادثاً مصطنعاً أو عارضاً أم حقائق واقعية. فالبعض من الفيزيائيين قدم فرضية تقول بأن تكون الثقوب السوداء منظور إليها من داخل الكون المرئي يشبه إلى حد ما تكون أكوان جديدة أو أكوان – أبناء.
دعامتين متضادتين في الظاهر:
يستند علم الكونيات الحديث على نظريتين رئيسيتين هما الدعامة الأساسية لكافة الأبحاث في هذا المجال. الأولى هي نظرية النسبية العامة لآينشتين التي تتعامل مع الأبعاد الكبيرة للكون المرئي أي اللامتناهي في الكبر، ونظرية الكوانتوم أو ميكانيك الكموم التي تتعامل مع الأبعاد الصغيرة في الكون المرئي أي اللامتناهي في الصغر، وكلاهما تتنبئان بفرضية تعدد الأكوان.
يتبوأ مبدأ اللادقة أو عدم اليقين أو الريبة le principe d’incertitude لهيزنبيرغ، قلب الميكانيك الكوانتي أوالكمومي ويتمحور حول مسلمة تقول أنه يستحيل معرفة موقع وسرعة جسم على وجه الدقة في آن واحد، والحال أن أسس وجوهر وتفسيرات الميكانيك الكمومي أو الكوانتي هي التي تتسم بالغرابة. إقترح العالم الفيزيائي هيوغ إفيريت Hugh Everett، من جامعة برينستون، تفسيرا متميزاً يقول فحواه:" عندما يتفاعل نظام كمومي أو كوانتي مع جسم كلاسيكي، يحدث اتصال بكون موازي لكوننا المرئي لكنه غير مرئي، لأنه كون آخر. ولقد وصف البعض هذه الرؤية بالميتافيزيقية ويستحيل إثباتها تجريباً أو اختبارها مختبرياً أو يتعذر رصدها ومراقبتها. يرد إفيريت بالقول: لو افترضنا وجود كونين متوازيين الأول محتمل والثاني غير محتمل، ولنفترض عدم وجود مراقب في الكون الأول المحتمل بينما يوجد عدد كبير من المراقبين في الكون الثاني غير المحتمل، يقول التفسير الكوانتي أو الكمومي الاعتيادي أو المألوف، أننا ينبغي أن نتواجد في الكون الأول لأنه محتمل في حين يقول تفسير إفيريت العكس أي أن القليل الاحتمال هو الذي ينبغي أن يحدث في الكون الموازي وبالتالي يجب أن نتواجد في الكون الثاني رغم كونه غير محتمل.
وبفضل ميكانيك الكموم وتعديلاته ظهرت نظريات كثيرة حظيت بالكثير من الدراسات والتجارب ومنها نظرية الأوتار الفائقة التي فتحت آفاقاً كبيرة أمام العلماء مع نظيرتها حول التضخم الدائم بغية التوصل للنظرية الموحدة الوحيدة والجامعة التي تجمع بين النسبية وميكانيك الكموم. فنظرية الأوتار نظيرة أنيقة رياضياً وغنية وتستجيب للكثير من التحديات العلمية وتقوم بتوقعات وتنبؤات مهمة من الناحية العلمية وهو الأمر الذي يهم علماء الفيزياء بالدرجة الأولى. فبعض خصائصها التقنية تسمح بحل الكثير من المشاكل المختلف بشأنها بين العلماء ومنها ظهور اللانهائيات في الحسابات الرياضية. إلى جانب أنها تأخذ بالاعتبار مسألة الجاذبية أو الثقالة وبالتالي تطرح نفسها كمرشح جاد ورصين لتفسير مجمل التفاعلات والجسيمات الأولية، ولقد اجتازت بنجاح كافة الاختبارات ولكن بالرغم من مرور 45 عاماً على طرحها لم يتمكن أحد من إثبات أحد تنبؤاتها أو توقعاتها مختبرياً أو رصدياً ومع ذلك يواصل العلماء بذل الجهود في نطاق هذه النظرية فليس من الحكمة التخلي عنها وهي التي أعطت مفهوم تعدد الأكوان حيث تتغير القوانين من عالم لآخر وتضغط الأبعاد الإضافية وتتداخل ببعضها البعض،
هناك جذب وافتتان طبيعي لدى الإنسان نحو المجهول أو الماورائي ومنه فرضية الأكوان المتعددة حتى لو لن يتمكن أحد من رؤيتها أو الوصول إليها أو الاتصال بها. وهي فرضية لم تأت من فراغ أو من لاشيء. فهي نتيجة علمية رياضية ناجمة عن بعض النماذج العلمية للكون أثناء محاولة الإجابة على أسئلة اعتيادية جداً في الفيزياء الكلاسيكية أو المعيارية. فتعدد الأكوان ليس فرضية خيالية افتراضية بل نتيجة حسابية رياضية، والأكوان المتعددة مرتبطة بشكل أو بآخر بكوننا المرئي وهي جزء منه أو بالأحرى هو جزء منها حتى لو استحال الوصول إليها.
نستنتج من ذلك أن هناك، ليس فقط كون متعدد أو عدة أكوان محدودة، بل عدد لا متناهي من الأكوان المتعددة، وما كوننا المرئي سوى مجرد جسيم بسيط أصغر من جزيء الماء في محيطات وبحار وأنهر الأرض بل وماهو موجود من مياه في النظام الشمسي برمته. وهذه المنظومة الكونية المطلقة والشاملة اللامحدودة، لا في الزمان ولا في المكان، مكملة لبعضها البعض ومتداخلة ومتوازية ولا يعرف من منها يحتوي الآخر، وهي تتباين في مراتبيتها وأحجامها. وهي في حالة تفاعل وخلق وتوالد مستمر، أزلي وأبدي، ويمكن معرفة بعض خصائصها من خلال استخدام الكوسمولوجيا الكوانتية أو الكمومية cosmplogie quantique. في فرضية الكوسمولوجيا الدائرية المتكررة التي طرحها العالم البريطاني بينروز، تتعاقب مراحل كونية تنجم عن تحولات رياضية تقع عندما يكون المكان فارغاً وتترك آثاراً يمكن رصدها لو توفرت أجهزة متطورة تقنياً تقوم بهذه المهمة بعد بضعة آلاف من السنين. وفي نظرية الثقالة الكمومية أو الكوانتية الحلقية théorie de la gravitation quantique à boucle استبدل مفهوم الانفجار العظيم بالقفزة أو الإرتدادة أو الوثبة أو الطفرة العظمى grand rebond وهذا يعني أن هناك كون مرئي آخر سبق كوننا المرئي وعند حدوث هذه القفزة أو الوثبة أو الطفرة العظمى، من المحتمل أن تبقى القوانين الجوهرية نفسها ثابتة، مع احتمال أن تقوم التأثيرات الكمومية أو الكوانتية العملاقة بتغيير طفيف في الثوابت الجوهرية.
وهناك كذلك تعدد الأكوان الناجم عن تنوع الثقوب السوداء بدون تغيير يذكر في القوانين. فالتعميم الطبيعي لهندسة الثقوب السوداء الدائرة على نفسها التي رصدها العلماء في كوننا المرئي توحي بنشوء كم هائل من الأكوان المتعددة المفترضة والتي يستحيل في الوقت الحاضر إثبات وجودها حيث ما تزال حبيسة الافتراضات النظرية والمعادلات الرياضية. وكما تخبرنا نظرية الثقالة الكوانتية، فإن من الممكن حدوث طفرة في الثقب الأسود في ما يسمى بفرادة الثقب الأسود المركزية La singularité de Trou noir وعندها تنبثق المادة في كون آخر يولد من صلبه، أي "الكون الإبن" ومن الممكن أن تتغير القوانين التي تسيره عن قوانين "الكون الأب". وفي هذه الحالة هناك من يبقى على قيد الحياة وهناك من يهلك ويموت بعد الولادة أو بعد فترة قصيرة من هذه الأكوان الوليدة حسب قانون الانتخاب الطبيعي الكوني حيث تعمل قوانين الطبيعة بأقصى ما لديها من قدرات وميزات لتشكيل أكبر عدد ممكن من الثقوب السوداء. ولقد سبق لنسبية آينشتين العامة أن تنبأت بعدة صيغ جيومترية أو هنسدية للكون المرئي داخل فضاء لامتناهي مما يقودنا حتما لتصور وجود عدد لامتناهي من الأكوان مع قوانين ثابتة لا تتغير. أما في حالة نظرية التضخم الدائم، فإن هيكيلية أو بنية الأكوان المتعددة متشعبة وعلى هيئة ورقية ـ شجرية مع إمكانية تنوع القوانين المسيرة لها. وعند يتم الجمع بين نظرية الأوتار الفائقة ونظرية التضخم الدائم، فإن الأكوان الفقاعات التي تولد وتصفها هاتان النظريتان، تكون ذات قوانين وثوابت متغايرة بسبب تداخل وضغط الأبعاد المكانية الإضافية فيها. لاتتمتع كل النماذج المطروحة عن تعدد الأكوان بنفس المصداقية بالطبع، فمنها مقبولة علمياً ومنطقياً خاصة تلك الناجمة عن تفسيرات للنظرية النسبية وللميكانيك الكمومي أو الكوانتي. ومنها تأملية أو افتراضية خاصة تلك الناتجمة عن نظرية الأوتار الفائقة وبينها تأتي نماذج أخرى ناجمة عن نظريات التضخم والهندسة الداخلية للثقوب السوداء وغيرها. ويتعين أولا إثبات وجود تلك الأكوان المتعددة علمياً حتى لو يتعذر علينا زيارتها أو رؤيتها أو رصدها بأية طريقة كانت، وثانياً يجب دمج الجهود المبذولة في مجالي الفيزياء النظرية وفيزياء الجسيمات والكوسمولوجيا المبنية على المشاهدة والمراقبة والرصد من أجل تجاوز بعض الكليشيهات السائدة والمسلمات المفترضة.
التعليقات