كان نظام القطبين النتيجة المباشرة للنصر الذي حققه الحلفاء على المحور بعد الحرب العالمية الثانية، فبعد هذه الحرب &برزت الولايات المتحدة الامريكية كاقوى قوة على الأرض وخصوصا بعد امتلاكها للأسلحة النووية وبما كان يتمتع به اقتصادها من قوة ومتانة ،لأنه لم يتعرض للتدمير جراء الحرب كما حدث للدول الكبرى قبل الحرب في اوربا. ولكن هذه الريادة لم تبقى لاميركا لان دول أخرى مثل الاتحاد السوفياتي ، قد تمكن سريعا من اللحاق عسكريا بالولايات المتحدة الامريكية لا بل كاد يسبقها لو لم تتدارك الأمور وخصوصا بعد ان سبقها في ارسال اول قمر صناعي الى الفضاء الخارجي. منذ عام 1948 ظهر الانقسام الواضح بين الدول التي كانت حليفة في الحرب العالمية الثانية. واولى بوادر هذه الانقسام كان قيام الحلفين اللذان ضما الحلفاء من كل طرف ونعني به حلف شمال الأطلسي (الناتو) وحلف الدول الاشتراكية (وارشو). ورغم اتفاق الدول الكبرى حينها على سياسيات معينة مثل إزالة الاستعمار، فرض الانسحاب على بريطانيا وفرنسا من مصر، في حرب عام 1956 وانسحاب بريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول الاوربية من اغلب مستعمراتها في افريقيا واسيا. الا ان التنافس بين الحلفين، دعم استمرار القوى الموالية لاي حلف وان كان هذه القوى دكتاتوِرية ولا يهمها بالأساس وضعية الشعب. فالشعارات التحررية والعدالة المفترضة التي نادت بها اغلب الدول الحليفة للاتحاد السوفياتي، لم تكن في الحقيقة الا شعارات على الورق، فداخليا كانت تمارس ابشع أنواع القمع (سياسيا وقوميا ودينيا) ونفس الشئ كان يحدث لدى حلفاء الدول الغربية في الدول التي سميت تلطفا بالدول النامية.
وكان كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الامريكية يدعمان حلفاءهما لكي لا يخسران وبكل السبل، والحقيقة ان الشعوب لم تستفد من هذا الدعم ابدا، الا الحكومات. وكان التفاهم الغير المعلن قائما بين الدولتين العظيمتين في الحرب بالوكالة، لامتصاص أي مظاهر الخلاف بينهما. الا ان النظام الدولي القائم منذ الحرب العالمية الثانية وتوفيره اليات اللقاء والحوار رغم الخلافات والحروب، وفر الأسباب والظروف لتوقيع الخصوم اتفاقيات ملزمة قانونيا واخلاقيا ،مثل اتفاقية هلسنكي التي اضطرت الاتحاد السوفياتي ليفتح ولو كوة صغيرة في حدوده الحديدية. قيام الاتحاد السوفياتي بتمويل انزمة فاشلة والحرب في أفغانستان والقمع الداخلي الذي بات مفضوحا اكثر بعد اتفاقيات هلسنكي، انهك الاتحاد السوفياتي جدا، مما اضطره ليس للتخلي عن حلفاءه الابعدين في افريقيا واسيا والتي شاهدنا مظاهرها في أوائل الثمانينات، وليس فقط للتخلي عن أعضاء حلف وارشو ممن رغب بذلك، بل الى تفكيك الاتحاد السوفياتي نفسه.
ومع اجتياح العراق للكويت وتداعيات ذلك، ادرك العالم انه ليس هناك الا قوة عالمية واحدة والبقية توابع، وهذه القوة هي الولايات المتحدة الامريكية. هذه القوة في الغالب او على الأقل في العلن لا تفرض نفسها على احد، بل يكاد العالم كله يطلب منها التدخل للمساهمة، لانه بات يدرك انه ان لم تساهم الولايات المتحدة في أي مشروع ، سواء كان للحرب او للسلم، فان مصيره الفشل. ولعل وقوف اوربا عاجزة امام الحرب الاهلية في يوغسلافيا كان درسا كافيا للجميع، والتي لم يتمكنوا من حلها، حتى تم استداع الولايات المتحدة الامريكية لحل المشكلة.
اليوم لم يعد تقريبا (وعندما نقول تقريبا) فاننا ندرك متطلبات السياسية اليومية وعدم قدرة أي طرف ان يحل كل المشاكل العالمية بضربة عصا، بل لابد للكثير من المشاكل ان تختمر وان تنضج والا ان نتائج حلها قبل اوانها قد يكون اوخم عاقبة من بقاءها غير محلولة. لم يعد هناك غطاء أيديولوجي يغطي ممارسات الحكومات القمعية. وصار مكشوفا كل ما يتعلق بحقوق الانسان، وهناك عشرات القضايا تم التحقق منها وإصدار الاحكام بحقها، ولعل اشهرها قضية الرئيس السوداني عمر البشير. والقيود والمطالب التي باتت تفرض على الدول العربية، اكثر الدول انعزالا بعد كوريا الشمالية، من المشاركة في الانفتاح الإنساني، محتمية بالدين.
من الصعب ان نقول لمن اكتوت يداه بالنار اصبر، هذا واقع ولكن ليس امامه الا الصبر، فالخيارات صعبة جدا. او بالحقيقة لا خيار أصلا. من هنا وفي محاولة لتناسي الواقع المؤلم نلجاء الى نوستالجيا، متصورين واقعا غير الذي كان قائما، او مجردا من عوامل الضغط التي كانت قائم حقيقة حينها. ونقول ان عالم متعدد الأقطاب او العالم القطبين كان افضل. أي نعم انه كان افضل للحكومات الدكتاتورية والشوفينية والتي وجدت لها حماية من احد قطبي العالم حينها، ولكن بالنسبة للشعوب كان مؤلما، وكان الباب الذي اوصلنا الى الواقع الحالي.
الواقع الحالي، المعاش في منطقتنا، منطقة الشرق الأوسط، هو نتاج، هو اختمار للمعاناة والمظالم التي لم تجد لها حلا، رغم كل الثروات التي هباها الله للمنطقة. انه، (الواقع) اعلان افلاس كل النظريات المستوردة (القومية والدينية، والاشتراكي) وعندما أقول المستوردة، لان أي منها لم يراعي التعدد القومي والديني والتطلع الإنساني نحو المزيد من الحريات والمشاركة والتفاعل مع العالم.
لقد تبنت اغلب دول المنطقة، القومية العربقية، كاطار لنضالها او ما ادعته، ولكن بالحقيقة، ان ما وصلت اليه هو المزيد من الانقسام والتشرذم، لان هذه القومية العربية كانت، حالة مفروضة من جهات استلغت هذا الشعار الذي حى فيه القوة المفترضة لمحاربة العالم ونشر ثقافة معينة يمكن اختصارها بما نسب الى عالم الاجتماع العراقي علي الوردي حينما قال (لو خيروا العرب بين دولتين دينية وعلمانية، لاختاروا الدولة الدينية وذهبوا ليعيشوا في الدولة المدنية). انها لمفارقة عجيبة وهي حقيقية أيضا، انها الرغبة المكبوتة لفرض الايمان، رغم تطلعنا للتخلص من فرائضه.
انا مدرك لمدى الألم الذي يعتصر الكثيرين، حينما يرون واقع بلدانهم وشعوبهم، ولكن المشكلة ان المسيرة قد لا تلاحظ كل هذه الأمور، فلكي تصل وتفرض ارادتها او تزيل الحواجز من امام التقدم الإنساني، لا يمكنها ان تتوقف لبعض الالام، فالطبيب لا يأبه للام حينما يريد ان يزيل الورم.
ولذا فاننا نرى اليوم الكثيرين يلقون اللوم على حقوق الانسان، وعصر حقوق الانسان، متناسين لو اننا كنا قد الزمنا انفسنا بما وقعت دولنا عليه، لما مررنا بالكثير من الالام التي نمر بها اليوم. باسم الأيديولوجية القومية او الدينية، تم سحق كل الاخرين، ولم يعطى لهم حق التنفس. وباسم امتلاك الحقيقة، تم كبت كل معارضة، وإزالة كل من يشتبه به منافس، مما افقر بلداننا من أناس كفؤة للقيادة او للحلول محل القائم حاليا، في حالة خلو مقامه. لقد وضعوا بلداننا امام خيار اما القبول بالموجود او الذهاب الى الهاوية. ان قادة اليوم والام اليوم وتخبط اليوم، هم النتيجة الطبيعية لممارسات الامس، من الكبت والظلم وفرض الراي الواحد والنموذج الواحد والانغلاق عن العالم.