&
هناك أمم تنظر الى التاريخ نظرة تقديس وتبجيل تجعله غير فاعل في حاضرها وعقبة كأداء في طريق مستقبلها، بينما توجد أمم اخرى تستلهم التاريخ وتأخذ منه العبر لتفعيل حاضرها وضمان مستقبلها. التاريخ يمثل الهوية لكل أمة، والأمة التي تجهل تاريخها أمة بلا هوية، والأمة التي &لا هوية لها تسقط تحت تأثير التحديات والتطورات المستمرة، وربما تسلك طريقا يضر بمصالحها الوطنية.
لكن التاريخ لا يمثل بالضرورة حافزا لأمة ما لكي تنهض بحاضرها، بل ربما يكون العكس صحيحا، وذلك حين لا يوظف هذا التاريخ توظيفا إيجابيا بحيث تضيف اليه ما يكمله ليتناسب مع واقعها الذي تعيشه. حينما تتوقف الأمة عن ملاحقة التطور والتقدم ومسيرة الأمم الأخرى، تتخلف وتتأخر فيكون التاريخ عبئا ثقيلا على هذه الأمة، يعيق حركتها ويضع العراقيل في طريق تقدمها، ويكون التاريخ متكئا تتكئ عليه وتجتر ما قدمته من انجازات حضارية ماضية، وهذا في اعتقادي ما حدث للأمة العربية.
تقول كتب التاريخ ان زمن الإنحطاط العربي بدأ عندما سقطت بغداد في يد المغول بقيادة "هولاكو" عام 1258م، لكني شخصيا اعتقد ان زمن الإنحطاط العربي بدأ قبل ذلك بوقت طويل عندما تم القضاء على المعتزلة في عهد الخليفة العباسي "المتوكل" عام 232 هجرية، حيث قتلوا ونكل بهم وحرقت كتبهم ومؤلفاتهم.
كل الأمم العظمى، أوروبا واليابان والصين والهند، مروا بفترات إنحطاط تاريخي إمتدت لقرون من الزمن، لكنهم افاقوا منها. أوروبا منذ عصر التنوير في القرن السادس عشر الميلادي، واليابان نهضت بعد دمار الحرب العالمية الثانية لتصنع معجزتها الاقتصادية والتكنولوجية، والهند بعد إستقلالها من الاستعمار البريطاني في منتصف القرن العشرين، والصين عندما تولى السلطة فيها "دنغ شياو بنغ" عام 1976م الذي أطلق عليه اسم "مهندس نهضة الصين الحديثة".&
أوروبا واليابان والصين والهند، اخذوا افضل ما في حضاراتهم، ورموا وراء ظهورهم - من غير اسف – اسوأ ما فيها، واضافوا الى حضاراتهم افضل ما في حضارات الأمم الاخرى قديمها وحديثها. لماذا نحن "العرب" الأمة الوحيدة المتمسكة بحضارتها خيرها وشرها (رغم ان شرها اكثر من خيرها) منذ 15 قرنا من الزمن؟&
الأمم الأخرى لا تقر بنظرية الكمال التام، وان ناموس الحياة في تطور مستمر الى مدى لا يعلمه إلا الله "جلت قدرته"، لهذا السبب هم يواصلون العمل لبناء حاضرهم ومستقبل اجيالهم القادمة. اما نحن فنعتقد ان الله "سبحانه وتعالى" ختم بنا العالم، وهذا يدخلنا في مأزق خطير، حيث نرى في وقتنا الحالي، ونحن ندخل منتصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ان مفاهيم بالية عفى عليها الزمن منذ فترة طويلة تطرح في وقتنا لتصبح مقنعة لكثير من الناس لكي يتبنونها وهذا هو التخلف بعينه. اصبحنا في خانة الشعوب المتخلفة في الكثير من المفاهيم، ولا يغرنا ما في أيدينا من مظاهر التقدم والتطور، فالانسان العربي الحالي في داخله اصبح اكثر تخلفا مما كان عليه جيل الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.&
كانت فعلا لدينا حضارة بهرت العالم في فترة من الفترات، ولكن لسنا الوحيدين في ذلك، فقد سبقنا الإغريق والرومان والفرس والكثير من الحضارات الاخرى التي سادت ثم بادت.
يقول الدكتور زكي نجيب محفوظ (رحمه الله) في كتابه "تجديد الفكر العربي": "سلطان الماضي على الحاضر هو بمثابة السيطرة يفرضها الموتى على الأحياء، وقد يبدو غريبا ان يكون للموتى مثل هذه السيطرة، مع انه لم يبق لنا منهم إلا صفحات مرقومة صامتة، لا تمسك بيدها صارما تجلوه في وجوهنا فيفزعنا كما قد يفعل الأحياء من ذوي السلطان، لكن هذا هو الأمر الواقع الذي في مستطاعنا ان نفسره، وليس في مستطاعنا ان ننكره".
كما يقول الدكتور غازي القصيبي (رحمه الله) في قصته القصيرة بعنوان "الزهايمر": "كيف تستطيع أمة ان تصنع مستقبلها وهي في قبضة ماضيها، يعصرها عصرا حتى يستنفذ كل ذرة من طاقتها؟". هذه حالة أمتنا العربية في وقتها الحاضر، أسيرة لتاريخها.&
&