مع تزايد الضغوط التي تتعرض لها التيارات الراديكالية ومع تعالي الأصوات المنادية بالحد من نفوذ هذه التيارات الدينية المتشددة والمتطرفة نلاحظ انكماش هذه التيارات على نفسها في محاولة جادة لترتيب أوراقها وكسر الطوق المفروض عليها ولها في ذلك عدة وسائل ليس أقلها ما يمكن أن يسمى بالتقية السلفية إن صح التعبير فنجد الكثير من رموز هذه التيارات ينادون بالاعتدال من خلال وسائل الإعلام الحكومية التي يسيطرون عليها إلى حدٍ ما. والكثير منهم يسفسط بالوسطية ونبذ التطرف من خلال كتاباتهم في أعمدة الصحف في محاولة لتمييع القضية وتسطيح لما يعانيه المجتمع نتيجة أطروحاتهم المتشنجة. لكن وما أن تنجلي الغبرة حتى تكشف عن وجهٍ قبيح حاقد على البشرية جمعاء.

تكاد لا تتصفح جريدة أو مجلة أو تشاهد التلفاز أو تستمع إلى المذياع دون أن تشنف أذنيك بحديثٍ عن الوسطية والاعتدال، طبعاً على الطريقة التي يروج لها المستفيدون من أقطاب تلك التيارات في محاولةٍ مستميتةٍ لإعادة ترتيب أحجار اللعبة والانطلاق من جديد وليس هناك دليل على كلامي أوضح مما نشر مؤخراً تحت مسمى بيان التأييد للجهاد في العراق أو مايعرف ببيان ال26. بيان فيه مافيه من الخداع والمزايدات على الهوية الإسلامية والذود عن حمى الإسلام. فالإرهاب في نظر هؤلاء جهاد مقدس يجب بذل الغالي والنفيس في سبيله. فرصة جديدة لتفريخ الإرهابيين، ومتنفس جديد لخروج الأفاعي من جحورها لتنفث سمومها.

هكذا هي الوسطية من منظور هؤلاء أن تنحني حتى تمر العاصفة ثم بعدها افعل ما شئت. وبدعوة الوسطية والاعتدال يطرح القوم قيم التسامح والمحبة والإخاء وكأنها فعلاً ما يدعو إليه هؤلاء بينما تجد ما تجد من تكفير وإقصاء وظلام حالك من العصبية والتشنج في أدبياتهم ناهيك عن ما استحدث من كتبهم. ولا ننسى هنا الممارسات على المستوى الشخصي وما يتعرض له المخالفين لهذه التيارات من حملات متعسفة. وأنا هنا لا أتجنى ولا أقول قولي من فراغ فالكل يعلم ما قام به الشيخ عبد القادر شيبة الحمد من تلفيق التهم للشيعة دون رادع من دين أو تقوى بينما كان هذا الشيخ ومن على شاكلته يتحدثون قبل وقت قصير عن سماحة الدين واستيعابه للجميع.

كيف للوسطية والاعتدال والجدال بالحسنى والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة أن تتوافق مع أطروحات هؤلاء من تكفير وإرسال إلى النار كل من يخالفهم. الوسطية عند هؤلاء مطاطة لتشمل كل تشنجاتهم وإرهابهم الفكري ثم تقف لتصبح سيف مسلط على كل من ليس معهم بدعوة التكفير والظلال والمروق على الدين.

الكل يعلم جيداً ما يعانيه أطياف المجتمع على كافة انتماءاتهم دون استثناء من ممارسات قمعية على أيدي اتباع التيارات السلفية والتي تتشدق بالوسطية وتورد في هذا السياق كل التراكيب اللغوية والمحسنات الأدبية.

وبالتتبع الدقيق لتحولات الخطاب الراديكالي والتي تنطلق أحياناً كثيرة من قنوات حكومية أو شبه حكومية تجد في هذا الخطاب تحولات تمس فقط طريقة الطرح ولكن مع البوح على استحياء وتورية لما في جوهرها المليء بكل ما هو على خلاف التسامح والحوار.

وهنا يجب الاعتراف وبكل شجاعة بأن هذه التيارات إنما تختبئ خلف هذه الأطروحات لمتطلبات المرحلة وليس لأن تغيراً حقيقياً وجوهرياً طرأ على فكرها أو فهمها.

فلا تزال تصف الإرهابيين بالفئة الضالة ولكنها تحاول جاهدة إظهارهم على أنهم بعيدين كل البعد عنها وأنهم لم ينهلوا من فيض فكرها ولم يسقوا من نبع فلسفتها القائمة على الإقصاء والتكفير كأن هذه الفئة جاءت من المريخ.

حتى هذه اللحظة لم نرى أحداً من أقطاب هذه التيارات يتحدث بشفافية في تشخيصه للوضع ويعلن بصراحة عن الأخطاء التي كان من شأنها إيجاد هذه الفئة الضالة كما يسمونها.

ويأتي السؤال الملح والذي يبحث عن إجابة، إجابة بعيدة كل البعد عن ضروب التورية وأنواع التقية وتكتيكات السفسطة.

متى سنرى حقاً الوسطية التي تحفظ للإنسان كرامته بعيداً عن انتماءاته مهما كانت ومن منطلق قوله تعالى " ولقد كرمنا بني آدم " صدق الله العظيم.

مشاري محمد - كاتب وأكاديمي سعودي