يقسم الاستبداد من حيث النوع الى نمطين، الاستبداد السياسي، والاستبداد الديني، يعتني الاول باستنفار كافة ادوات القوة الممكنة (مالية او عسكرية او امنية) للدفاع عن السلطة، واضعاف الخصوم ومن يتوقع ان يصنفوا في خانة المنافسة على السلطة، بينما يعتني النوع الثاني باستغلال ايمان الناس، وثقتهم بالنصوص المقدسة لاضفاء مسحة من القداسة على اقوالهم وافعالهم، وادعاء أحقية التحدث باسم الدين، من اجل تسخير اموال وجهود الناس لخدمتهم وخدمة ما يعتقدون انه الحق المطلق والنهائي. ولا يتردد هؤلاء عن تحريك (لغة التكفير) وما يعادلها من اتهام (بالفسق، والفجور، والضلال) لطرد المخالفين من الدائرة الاسلامية او الايمانية التي لا تتسع الا لهم ولأتباعهم.

ثمة من يعتقد ان التشدد، وما ينتج عنه من اكراه وقهر ينطلق من بُعد «اليقين الداخلي المطلق» بصواب الرأي، ويظن هؤلاء ان السلطة المستبدة عندما تمارس القمع ضد المخالفين فانها تتحرك من وازع يقين بأنها الأحق«بالسلطة» وبكون المعارضين لا يمتلكون المؤهلات اللازمة لاستلام السلطة لاسباب سياسية او فئوية، كما يعتقدون ان رجال الدين الذين يفتون بكفر الآخرين او ضلالهم او اولئك الذين يدعون «الشبيبة» لبذل المال والنفس في سوق الجهاد، انما ينطلقون في كل ذلك من عقيدة لا يشوبها شك بأنهم على حق، وانهم يطبقون ما يوقنون بانه حكم الله وارادته وامتثال لقوله.


على ان الدلائل تؤكد فساد هذا الاعتقاد بصورة عامة، فالمستبد عندما يقدم على فعل الظلم انما ينطلق من شعور بعجز يحاول ان يعوضه بقهر ارادة الآخرين، وتزوير الحقائق، فمعرفة «الرئيس» بعجزه عن الحصول على ثقة الشعب تدفعه الى ممارسة التزوير في صناديق الاقتراع، ومعرفته بضعف حجته يدفعه لمنع الصحف الحرة والعمل على تكميم افواه المعارضين.


ومعرفة بعض الجهات الدينية بأن توسع مساحة الحريات الفكرية والاجتماعية سيقلل من حالة «الانقياد الاعمى» لأوامرهم المقدسة، يحفزهم لتقديم مفهوم الطاعة على مفهوم الحرية، بل واكثر من ذلك اذ يعمد هؤلاء الى تضليل المؤمنين بهم عن سابق قصد، فقد لفت نظري قبل يومين ما اشار اليه الباحث السعودي صادق الجبران من تزوير العاملين على موقع «الاسلام اليوم» الذي يشرف عليه الشيخ سلمان العودة نتائج استبيان وضعه الموقع تحت عنوان «البيان المفتوح والذي توجه به جمع من علماء السعودية للشعب العراقي هل تؤيد ما ورد فيه من مضامين»؟ وهو البيان الشهير الذي وقع عليه ستة وعشرون رجل دين من بينهم العودة، فقد بلغ عدد المصوتين الى يوم الحادي عشر من نوفمبر الجاري عشرين الفا وستمائة واربعين (20640) صوتا جاءت اجابة تسعة عشر الفا وخمسة وثمانين (19.085) صوتا بنسبة 92% منهم بـ(لا) اي عدم تأييد البيان ومضامينه، في حين صوت لصالح البيان الف وثلاثمائة وخمسة وعشرون (1.325) صوتا اي بنسبة 6% فقط، وهو ما يشير الى حجم الرفض الشعبي للبيان ومضامينه اي رفض العنف واستنكار الدعوة اليه. بينما جاءت النتيجة النهائية للاستفتاء (بعد عشرة ايام) وفقا لما يلي: 1855 صوتا، ادلى 64% منهم بـ«نعم» اي بتأييدهم للبيان ومضامينه، فيما ادلى 23% منهم بـ«لا»، و13% ادلوا بـ(الى حد ما).


تبرر مثل هذه الافعال عادة بأن النخبة (السياسية، او الدينية) هي الجهة الأعرف بما ينفع الانسان والمجتمع بما حباها الله من ملك او علم، هذه المعرفة هي في الحقيقة المدخل لخداع المواطنين في شؤون السلطة والمبرر للكذب على الناس باسم الدين، كما انها العنوان الذي يرفع لاغلاق فم الداعين الى المشاركة في السلطة أو المشاركة في تفسير النص.

ورغم انني اميل الى الرأي الفيبري (نسبة الى ماكس فيبر) انه بدون الشرعية فان اي حكم او منظومة يصعب ان تستقر اوضاعها لفترة طويلة وقت الازمات، الا ان ذلك لا يقلل من الحاجة الى تشكيل نخبة جديدة مقابلة تعمل على مقاومة الاستبداد وكشف سوءاته، هذه النخبة تكون قادرة على تمثيل مصالح الناس وسد حاجاتهم، والتوقف عن ادارة ودعم كل المشاريع التي تخدم تلك النظم والمنظومات التقليدية.

[email protected]