التوزيع الجديد على النوتة القديمة

عبدالله أوجلان، الزعيم الكردي المٌعتقل في تركيا والذي يتعرض هذه الأيام لعملية عزل فظيعة، وفي نظرة وقراءة إستباقية لقادم أيام الحال الكردية في تركيا قال " ثمّة علامات تتراءى تقول بتهميش أوروبا لمؤتمر الشعب الكردستاني والتآمر عليه، فهي من جهة تدرج إسم مؤتمر الشعب ضمن لوائح المنظمات الإرهابية، ومن جهة أخرى تدعو تركيا إلى الإفراج عن ليلى زانا ورفاقها البرلمانيين الكرد المٌعتقلين (...) وكانت قد منحت ليلى في السابق وسام ساخاروف للحرية (...). ليلى مسجونة بتهمة التعامل مع حزب العمال الكردستاني المٌدرج ضمن قائمة الإرهاب الأوروبية، ثمة إزدواجية صارخة هنا قد تتبدى علاماتها في قادم الأيام".
والحال إن ماذهب إليه أوجلان في ثنايا توصيفه ذاك قد حدث، ومازالّ يتفاعل حتى اللحظة، ففي خطوة جريئة وغير متوقعة أفرجت الحكومة التركية عن ليلى زانا ورفاقها خطيب دجلة وأورهان دوغان وسليم ساداك أعضاء حزب الشعب الديمقراطي الذين قضوا 10 سنوات في السجون التركية بتهمة " التعامل مع حزب العمال الكردستاني والدعوة إلى الإنفصال علناً داخل قبة البرلمان التركي "، وجاء قرار إطلاق سراحهم في نفس اليوم الذي سمحت فيه تركيا ببث برامج باللغة الكردية في التلفزيون الرسمي ( رغم قصور و... ركاكة هذه الخطوة ) في تقاربية واضحة من الإتحاد الأوروبي و(مقاييس كوبنهاغن).
لقد أسٌتقبلت زانا ورفاقها إستقبال الأبطال في كردستان وخرج مئات الألوف لإستقبالهم، وفي حديثها لجموع مواطنيها لم تخف زانا عرض خطوط سياستها الجديدة بالنسبة لقضية أكراد تركيا وكيفية التعامل الجديد مع حكومة العدالة والتنمية القوية " يداً بيد نستطيع كلنا هنا في تركيا، كرداً و تركاً وجركساً وبقية مكونات هذا الوطن، نستطيع بناء بلدنا لبلوغ الحرية والديمقراطية والإخوة الحقة والصحيحة، نستطيع معاً بلوغ الهدف المنشود والمدى الأبعد في التوجه الديمقراطي سلمياً...".

ولم يكن مستغرباً، والحال هذه، أن ٌتبادر زانا و تونجر باكراهان زعيم حزب الشعب الديمقراطي الكردي إلى توجيه رسالة مٌشتركة إلى زعيم مؤتمر الشعب الكردستاني زبير آيدار ( الذي هو، وياللمفارقة، زميل زانا في الحزب وأحد البرلمانيين الكرد الذين فروا من تركيا بعد إلقاء القبض على زانا ورفاقها، وهو مٌدرج أوروبياً وأمريكياً كرئيس لمنظمة إرهابية، على الطرف النقيض تماماً { ومازال التصنيف أميركياً وأوروبياً}، من زانا ورفاقها...) يحثانه فيها على متابعة عملية وقف إطلاق النار وتمديدها مدة 6 أشهر أخرى، هذا وكانت ( قوات حماية الشعب) التابعة لمؤتمر الشعب الكردستاني قد أعلنت إستئناف عمليات " وقف إطلاق النار" التي كانت قد أعلنتها من جهة واحدة قبل 5 سنوات ل" إعطاء الفرصة للجهود السياسية التي يبذلها قائد الحزب أوجلان لحل القضية الكردية بشكل سلمي وحواري" وكدليل على حسن نيته في ذلك الوقت، أرسلّ الحزب مجموعتي سلام إلى تركيا للبدء بالتفاوض عام 1999 م ألقت السلطات التركية القبض عليهما وحكمت على أفراد هاتين المجموعتين بالسجن 12 سنة.
قوات حماية الشعب وفي حيثيات رفضها طلب زانا وباكراهان قالت على لسان مسؤولها الأول القائد الميداني مراد قره يلان " إننا في موضع الدفاع المشروع ، لقد أوقفنا إطلاق النار ومن جانب واحد مدة 5 سنوات لإثبات حسن نوايانا وإعطاء السلام فرصة مفتوحة، رفضها الأتراك دائماً (...)، لقد قامّ الجيش التركي وعلى مدار ال5 سنوات الأخيرة بمهاجمة مواقعنا أكثر من 700 مرة، أسفرّت هذه الهجمات عن إستشهاد 500 مقاتل من مقاتلينا، في مواجهة هذه الهجمات وحرب الإبادة التركية، لانملك سوى الدفاع عن أنفسنا... ".
لقد حاول الإعلام التركي تضخيم هذا الموقف وبدأ كعادته في بث الأكاذيب : كتهديد المقاتلين الكرد للمرافق المدنية والحيوية في داخل تركيا ( وليس في كردستان، إذ أن منطقة كردستان، وللعلم، تحت حصار إقتصادي دائم منذ تشكيل تركيا، خالية من أي مشاريع إنمائية أو حيوية )، وطالبت بعض الأقلام العنصرية الدولة بإعادة إعلان أحكام الطوارئ في جنوب شرق البلاد والتصدي بشكل قمعي أكبر للقوات الكردية المرابطة على تخوم كردستان العراق.

رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بدوره، وأثناء قمة حلف شمال الأطلسي في إسطنبول واجه الرئيس الأميركي جورج بوش وألحّ عليه مٌجدداً على ضرورة أن تتخذ القوات الأميركية " الإجراءات اللازمة للقضاء على المقاتلين الأكراد التابعين لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق ". ونقلت المصادر التركية أن بوش بدا غير متحمس للطلب التركي هذا، فالولايات المتحدة وبعد الضربات اليومية الموجعة التي تتلقاها في العراق لاترغب في الخوض في مغامرات جديدة وإستعداء الشعب الكردي في هذه المرحلة بالذات، فمؤتمر الشعب الكردستاني قوة رئيسية وضاربة في كردستان والمهجر وأي هجوم أميركي على مواقع قواته العسكرية سيخلق حالة من الفوضى وعدم الإستقرار في المنطقة من جديد.

منذ إعلانه عن مبادرة السلام الأولى عام 1993 وحتى مجيئه لإيطاليا وطرحه النقاط ال9 لحل القضية الكردية في تركيا، كانّ عبدالله أوجلان حاضراً دائماً للبدء في الحوار لحل القضية الكردية بالطرق السلمية الحوارية، ومنذ عملية إختطافه في كينيا في 15/2/1999 من قبل المخابرات الأميركية والإسرائيلية و بمشاركة تركية، وهو يسير على نهجه هذا وخاصة بعد طرحه لمشروع " الحضارة الديمقراطية " الذي تبناه الحزب كمنهج وإيديولوجية عمل. لكن كل هذه الخطوات قوبلت بالرفض والتعامل العسكري من جانب الطرف التركي، فتعنت العسكر وإصرارهم على حل المسألة بالقمع والطرق العسكرية وسير الحكومات التركية المتعاقبة على نفس النهج والتعاملية العسكرية أفشل كل هذه "التنازلات" الكردية.
حكومة حزب العدالة والتنمية التركي، وبعد إكتساحها الساحة الإنتخابية التركية وضمانها أصوات غالبية الأتراك وبالتالي" مشروعية أخذ القرار بإسم الشعب"، مثلما يٌنظر أزلامها ليل نهار لايبدو وإنها ـ وهي تواجه تحديات الدخولية في الإتحاد الأوروبي وصداع أكراد العراق ـ ستقدم على إبداء أي مرونة مع الأكراد في تركيا، أو على الأقل حتى "الأكراد الأخيار" والذين عكفت مع مؤسسات الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على نحتهم مقابل "الأكراد الأشرار" أتباع أوجلان. مراهنة حزب العدالة والتنمية القضاء على حزب أوجلان لايبدو وإنها ستنال أي حظ في نجاحها ف"الأكرادالأخيار" لا ولن يخرجوا من عباءة( ثقافة ) حزب العمال الكردستاني و النفوذ الروحي/الثوري لزعيمه أوجلان وملايين البسطاء الذين يقفون خلفه، كما يقول واقع الحال ، كما أن السيناريوهات المشابهة كلها أخفقت في الماضي :

ـ إستسلام شمدين ساكيك، الذي قالت العسكرية التركية إنه الرجل الثاني في حزب العمال الكردستاني..
ـ خطف أوجلان نفسه وبالتالي" تسديد ضربة قاصمة للحزب ستنهيه لامحالة لمحورية دور أوجلان فيه"...
ـ الهجمات الضاربة للقوات التركية وفرق الإغتيالات الخاصة بحق الثوار والمثقفين الكرد...
ـ إتباع سياسة ممنهجة لإفراغ المناطق الكردية وترحيل المواطنين الكرد من قراهم وإسكانهم في بيوتات بائسة في أحياء الصفيح داخل تركيا...
ـ أخيراً ما يتردد عن إنشقاقات داخل صفوف حزب العمال نفسه...
كل هذا، وإن كان أثرّ على عمل وتنظيمية الحزب بشكل كبير، إلا إنه لم يشل من قدرة الحزب في التواجد والمناورة على الساحة التركية وإستقطاب المزيد من الأنصار، فالحزب مايزال يٌحافظ على قوته وزخمه الجماهيري في كردستان ( رغم التراجع الذي حققه حزب الشعب الديمقراطي الكردي في الإنتخابات البلدية الأخيرة، الذي يعود السبب الرئيسي فيه لتصارع مسؤوليه وخلافاتهم الشخصية التي كان لأوجلان دور في حلها، حتى وهو في سجن معزول في جزيرة إيمرالي النائية...) وشعبية أوجلان مازالت مٌحافظة على بريقها وبشكل خاص لدى الفئات الشبابية الكردية الناهضة، ويتبدى هذا في إحتفالات أعياد النوروز الضخمة في مدن كردستان ( مثل دياربكر وباتمان وأورفة وحكاري..).

ليلى زانا المناضلة الكردية، والتي طلبّ منها أوجلان قبل بضع أشهر الإعلان عن عضويتها في مؤتمر الشعب الكردساني لوضع الموقف الأوروبي الذي وصفه بالمنافق على المحك، وفي رسالة بعثتها لمفوضية الإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة الأميركية والأمين العام للأمم المتحدة في نيسان الماضي، علقت فيها على قرار أوروبا إدراج إسم مؤتمر الشعب الكردستاني ضمن المنظمات الإرهابية " إن قرار الإتحاد الأوروبي هذا خاطئ، مؤتمر الشعب الكردستاني تأسسّ وفقاً لبرامج ومنهجية سلمية واضحة ولبلوغ هدف ديمقراطي وإنساني مشروع، والناظر للوائحه سيكتشف الأسس الديمقراطية والدعوة لإخوة الشعوب ونبذ العنف (...). هذا قرار خاطئ... حل القضية الكردية يتطلب حواراَ ومشاركة من الجميع لاتعقيد المسائل بهذا الشكل، فعندما كان حزب العمال الكردستاني يقاتل ويقود الكفاح المسلح ومنطقة جنوب شرق تركيا كلها مشتعلة، لم نجد إسمه ضمن لوائح المنظمات الإرهابية، الخلفية السياسية للقرار واضحة...إن عملية إقصاء مؤتمر الشعب الكردستاني وزعيمه أوجلان لن تجد نفعاً، وليعلم الجميع إن مفتاح السلام بيد أوجلان ".
تركيا وبإتباعها طريق الإرهاب والخداع ( الذي ظهرّ آخر تجلياته في فضيحة كذب عبدالله غول، وزير خارجية العدالة والتنمية على الصحافي الأميركي سيمون هيرش وتمريره {خلفيات التغلغل الإسرائيلي} في كردستان العراق ) لن تفلح في التغطية على قضية كردستان الشمالية وقمع شعبها للأبد، فالأولوية الأمنية العصبوية لقمع التطلعات الكردية في كل مكان سياسة لم تنجح مع تركيا الكمالية في السابق ولا نخالها ستنجح الآن أيضاً. فالحرب الكردية ـ التركية أتت على إقتصاد البلاد وخلقت واقعاً مظلماً وشروخاً مجتمعية عميقة بين شعبين كبيرين يعيشان في دولة واحدة، وماتقوم به تركيا ( حكومة وعسكراً ) من تأسيس سياسات البلد التحالفية والبنائية على قاعدة معاداة الشعب الكردي خطأ بنيوي كبير ستدركه تركيا في يوم ما قد يكون فات الأوان لتدارك وإصلاح ماقامت به، يوم قد يكون فيه حقاً " نصف مساحة تركيا" ( الجزع والخط الأحمر الأعظم لحملة ميراث أتاتورك ) مٌعرضة للضياع، حقيقة وليس رهاباً عٌصابياً مفترضاً، مثلما يذهب بولند أجاويد رئيس الوزراء التركي الأسبق وأحد أساطين الإيديولوجية الأتاتوركية في بيان وزعه قبل أيام مٌحذراً الأتراك من سياسات الولايات المتحدة في المنطقة وخطرها على " نصف مساحة تركيا" المقدسة إياها !!.

صحافي كردي مقيم في المانيا
[email protected]