في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية التي تعصف بالمنطقة منذ فترة غير قليلة كثر الحديث عن دور مصر الإقليمي وارتفعت نبرته في الفترة الأخيرة وحاول بعض الكتاب من هنا وهناك التقليل من هذا الدور عن طريق التلميح تارة والتصريح تارة أخرى واستغل بعض الكتاب حديث وزير الدفاع الأمريكي رونالد رامسفيلد في تعرضه بالدول الأوربية الكبرى وخصوصا فرنسا وألمانيا اللتين عارضتا الحب على العراق ووقفتا مع روسيا ضد صدور قرار من مجلس الأمن يعطي لأمريكا وبريطانيا شرعية بالحرب على العراق تحت مزاعم ثبت عدم صدقها وتبين أن الأمر كان مبيتا من قبل فجاء حديث رامسفيلد عن أوربا القديمة ويقصد بها فرنسا وألمانيا وأوربا الحديثة ويقصد بها بعض الدول من دول أوربا الشرقية التي أغرتها أمريكا ببعض المساعدات المالية فانضمت للتحالف مثل بولندا هذا إضافة لبعض الدول كأسبانيا وإيطاليا وعلى نفس المنوال حاول بعض الكتاب العرب والمصريين النسج على منوال رامسفيلد فحاولوا التعريض بمكانة مصر الإقليمي ودورها المحوري في المنطقة خصوصا في ظل خضوع تلك الدول للحماية الأمريكية ووجود قواعد عسكرية أمريكية على أراضيها اضطرت إليها تلك الدول بعد الغزو العراقي المشئوم للكويت الذي كان وبلا على الأمة كلها وسوف تعاني منه لعقود طويلة قادمة.

وقد كان دافع هؤلاء الكتاب ينقسم إلى موقفين الأول هو موقف الخوف على مكانة مصر وهذا هو موقف كل الكتاب المصريين الذين تناولوا القضية وبعض الكتاب العرب المدركين لحقيقة الدور المصري وأبعاده التاريخية والسياسية والاجتماعية في ظل تحولات دولية بالغة التعقيد والصعوبة والموقف الآخر موقف عدد من الكتاب والإعلاميين الذين يتربصون بمصر الدوائر ويحزنهم أن تكون مصر هي الرائدة في المنطقة سياسيا واجتماعيا وثقافيا ومن هنا فإنهم يتصيدون الأخطاء ويضخمون من حجم الصغائر حتى تبدو في حجم الفيل وشتان بين الموقفين بين موقف ناقد محب يريد لمصر دائما الريادة والأخذ بزمام الأمور وموقف حاقد يتمنى زوال النعم ويجيد لطم الخدود ونصب سردقات عزاء ولا يمكن فصل الحديث عن دور مصر في المرحلة الأخيرة في ظل المتغيرات الجارية في المنطقة وخصوصا بعد غزو العراق وظهور مشاريع إصلاحية عديدة تهدف لصياغة المنطقة من جديد سياسيا واجتماعيا وجغرافيا وتهدف بصورة أو بأخرى زعزعة مكانة مصر والتأثير على قدرتها السياسية والاقتصادية.

وحقيقة الأمر أنه رغم الفرق الواضح بين الفريقين فإن كل الفريقين أخطأ حينما لم يفرق بين مصر التاريخ والريادة وبين أخطاء لحكومات متعاقبة أو حتى لأنظمة حكم متغيرة وهو خلط بين وقصور نظر حيث يجب لمن يتحدث عن مصر ودورها الإقليمي ألا يفصل بين الموقفين ولا يمكن اختزال تاريخ مصر في شخص أو مجموعة أشخاص أو مرحلة تاريخية محددة لأن في هذا بتر للحقائق وتصيد للأخطاء متعمد وعدم إدراك بحقائق التاريخ ومراميه.
ويمكن أن نشير إلى دور مصر الإقليمي ومكانتها في الإقليمية في ظل العوامل التالية:
- بداية لا يمكن أن نتجاوزنا الحديث عن الكم ودوره في بيان مكانة مصر ككتلة سكانية تمثل ربع العرب تقريبا فلا يستطيع أحد أن ينكر أن الشعب المصري يمثل 25% من تعداد مجموع سكان العرب البالغ عددهم حوالي 300 مليون نسمة وهو عدد لا يستهان به ولا بالدولة التي تحتويه وبالتالي حجم مصر ككتلة سكانية واجتماعية لايمكن تجاهلها أو مساواتها بدولة عدد سكانها نصف مليون فرد مثلا وربما لهذا السبب حينما تطاول مسئول دويلة صغيرة على مصر عقب صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات على نقد هذا المسئول بقوله إن هذا المسئول نسي أن دولته لا تتجاوز حجم فندق في حي مكتظ بالقاهرة الكبرى مثل شبرا وهو تعقيب ينم عن حكمة تدرك طبيعة الواقع ولهذا السبب يجب أن يراعى في تطوير قانون جامعة الدول العربية مستقبلا معرفة حجم وعدد سكان كل دولة فلا يمكن بحال مساوة دولة تعداد سكانها 70 مليون كمصر بدولة تعدادها دون المليون أو فوقه بقليل.

- دور مصر الريادي في المنطقة أمر مسلم به من قبل جميع الأطراف ولا أظن أنه يمكن لأحد أن يكابر في هذا الأمر فمساندة مصر لجميع حركات التحرر في الوطن العربي معروفة وواضحة لجميع الأطراف من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب كما أن دور مصر في الدفاع عن قضايا العرب ومشاكلهم أيضا أمر شائع ولا يمكن تجاهله أو إنكاره فمصر هي التي حملت عبء القضية الفلسطينية منذ اول يوم وهي التي دخلت أربع حروب من أجل القضية الفلسطينية استنفذت من طاقتها الاقتصادية والبشرية الكثير.

- أما عن دور مصر الثقافي والتنويري في المنطقة فلا يقل عن دورها الريادي والسياسي فمصر هي التي حملت عبء نشر التعليم في معظم أجزاء العالم العربي من الابتدائي وحتى الجامعة وهو ما يعكس فضل مصر في بناء معظم مجتمعات العالم العربي وهو دور ثقافي واجتماعي لا يقدر بثمن عند من يعرفون قيمة نشر الثقافة والتعليم في ربوع مجتمع حديث مستقل عن استعمار أو مجتمع قبلي نشأ حديثا وكان يحتاج لمن يقوم ببناء قواعده الاجتماعية ومؤسساته الثقافية في التعليم والثقافة عبر مختلف المؤسسات الإعلامية والدينية وهو أمر مستمر حتى الآن بقوة ولا يمكن لأحد إنكاره أو تجاهله وهو ما يعمق دور مصر في وجدان كثير من شعوب المنطقة بغض النظر عن قلة يسوؤها ذلك ويكدر صفوها.

- دور مصر السياسي منذ ثورة 23 يوليو في تشكيل العروبة وتعميق جذورها وهو ما حرص عليه الرئيس جمال عبد الناصر وكان يرى أن هذا الدور لابد وان يكون له ثمن فكان يرسل المعلمين المصريين ورجال الدين على نفقة مصر للقيام بواجبهم القومي تجاه أشقائهم العرب وعلى نفقة الحكومة المصرية فكان المبعوث المصري يذهب للتدريس في السعودية أو السودان أو اليمن أو الجزائر وغيرها كثير ويتقاضى راتبه من مصر وكذلك الحال لخريجي الأزهر الذين قاموا بنشر الدعوة الإسلامية في كثير من الدول العربية والإفريقية على نفقة مصر.

- أما عن دور مصر التاريخي والحضاري في المنطقة فيحتاج لمجموعة مقالات لكن يكفي أن نذكر منه بأن مصر كانت أول مجتمع مدني في تاريخ البشرية كما يؤكد مؤرخي الحضارات تشكلت فيه أمة نشأ بينها نوع من التفاهم والانسجام تحت قيادة تحكمها قوانين وتأثير مصر الحضاري في تاريخ البشرية وحضاراتها المتعاقبة أمر أصبح من قبيل الثوابت التاريخية التي لا يمكن إنكارها أو التشكيك في مصداقيتها كما أن دور مصر في الدفاع عن العروبة والإسلام عبر التاريخ تاريخ مشرق بصحائف من نور فصلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين تشكل وجدانه وفكره وأصبح فارسا حينما جاء مصر مع عمه نور الدين محمود فكان شابا طريا لا يعرف شيئا من أمور الحياة لكنه خبر الحياة وعرف شئونها في فترة إقامته بمصر قبل أن يقوم بدور وجهد كبير في لم صفوف العرب المختلفين لمدة عشر سنوات حتى يجمعهم في صف واحد لمواجهة الصليبيين فيقهرهم في حطين ونفس الموقف تكرر في هزيمة التتار على يد الجيش القادم من مصر بقيادة سيف الدين قطز في عين جالوت.

كل هذه الأمور لا يمكن لأحد منصف أن يتجاهلها وهو بصدد الحديث عن دور مصر الإقليمي في الماضي والحاضر والمستقبل لكن ليس معنى هذا أن موقف مصر ودورها فوق النقد أو انه موقف صائب على طول الخط فهذا أمر لا يقول به عاقل أو إنسان واقعي يعي طبيعة الأوضاع من حولنا فموقف مصر في المرحلة الخيرة حدث له نوع من الكمون والانكماش وهو أمر متوقع في ظل التحولات الكبرى والخطيرة التي تمر بها المنطقة منذ سنوات بعيدة وخصوصا منذ الغزو العراقي للكويت وما ترتب عليه من آثار سلبية مازلت ماثلة في واقعنا الراهن فعلى سبيل المثال لم يعد الإعلام المصري هو الرائد لا على مستوى الإعلام المقروء أو المسموع أو المرئي فقد ظهرت صحف خطفت الأضواء من الصحافة المصرية التي كانت الرائدة والمتميزة على الدوام كما ظهرت فضائيات تخطت القنوات المصرية بمراحل وربما يعود ذلك لسيطرة الدولة في مصر على قطاع الإعلام وهو أمر يجب أن يعاد فيه النظر بقوة في ظل انتظار تعديلات وتغييرات هيكلية واسعة في مصر في المرحلة المقبلة تشمل جميع القطاعات والوجوه وتعيد صياغة الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بما يمكن مصر من استعادة دورها الريادي على جميع الأصعدة.



كاتب مصري/جامعة الإمارات