أحزاب عراقية تحمل فايروسات الفكر الشمولي:

قد يظن المرء إن حزب البعث في العراق هو وحده من يحمل الفكر الشمولي ولديه الرغبة بالاستحواذ على السلطة والتفرد بها، الأمر أبعد من ذلك بكثير، فإننا حين تناولنا الموضوع منذ البداية كان الأمر يقتصر على حزب البعث وموضوع إجتثاثه المؤجل برغبة من أصحاب المشاريع الجديدة في العراق وهم كثر، لذا كان للبحث أن يأخذ منحى آخر يختلف قليلا عن البداية التي كان مخططا لها وهي أخذ النموذج البعثي وحده كمثال للفكر الشمولي كونه قد نجح بإقامة النظام الشمولي الذي استمر لفترة طويلة جدا في العراق، وبهذا يبدوا إن الأحزاب التي تسعى لانتهاز أية فرصة للوثوب على السلطة والاستحواذ عليها كأنهم أبرياء من الفكر الشمولي وليسوا معنيين بالأمر، وهذا أمر خطير ولا يجب أن نركز على البعث فقط كونه قد انتهى ولن يعود، فالخطر الحقيقي اليوم يتمثل بالأحزاب التي تعمل على الساحة العراقية الآن كونها من ضحايا النظام وتكتسب شرعيتها من الظلم الذي أصابها في حين هي تحمل المرض الشمولي الخطير.

نجد الكثير من أحزاب التيار القومي مازالت تحمل فايروسات الفكر الشمولي ومازال خطابها مشبعا بروح الشمولية والتخوين لكل من يختلف معهم ولو بشق كلمة، والتيار الديني يشحذ سكاكينه كل يوم للوثوب على السلطة والانتهاء من أمرها بتشكيل نظام ولاية الفقيه الذي لا يمنح حرية العمل لغير حملة المشاريع الدينية، وهي بطبيعتها مذهبية وبالتالي طائفية، أي بكلمة أخرى أصحاب المشاريع الطائفية هم أيضا جاهزون بدعم من إيران وآخرون بدعم من دول عربية كثيرة. كل هذه التيارات قد أصابتها العدوى أو إنها أصلا موبوءة بداء الشمولية حيث إن معظمها قد ورث مفردات أيديولوجيته من أحزاب مارست شمولية السلطة وتفردت بها لفترات طويلة من الزمن، ما لم تكن هذه الأحزاب جاءت كاستجابة لدول قد حزمت بضاعتها وهيئتها للتصدير نحو الدول التي يوجد بها سوق لهذه البضاعة الرخيصة.

ولكي نكون أكثر تحديدًا علينا أن نحاول تناول كل المظاهر والأفكار التي تبرز النزعات الشمولية للأحزاب، فأحد هذه الأحزاب وهو حزب يشارك بالسلطة ويحمل أحد أجمل الأسماء، وهو حركة الوفاق، هذه الحركة المشاركة بالسلطة والتي رئيسها هو رئيس الحكومة المؤقتة المسؤولة عن إقامة كامل مستلزمات البنية التحتية لبناء النظام الديمقراطي للعراق الجديد، فقد رصدنا لها عدة ممارسات نستطيع من خلالها أن نستنتج أنها تحمل فايروسات النزعة الشمولية والتفرد بالسلطة حال توفر الأرضية المناسبة لذلك. فمؤسسي هذه الحركة رأوا أن الاسم المناسب لها هو أن يكون حركة وليس حزبا، وهذا له دلالته اللغوية وربما المضمون أيضا، فلو عرفنا إن هذه الحركة قد تم انبثاقها من حزب البعث نفسه حيث إن الرئيس كان بعثيا قياديا وقد أختلف مع الحزب لأسباب لا نعرفها بالضبط، ولكن استعمال مفردة حركة للتعريف عن هذا الحزب أو التجمع السياسي يشي بأن هناك حركة، ربما، تصحيح لمسار البعث السياسي بما يتعلق بممارساته مع الرفاق الحزبيين والتعامل معهم إبعادا وسجنا واغتيالا، أي تصفية كل من كان يختلف مع الدكتاتور الذي كان آن ذاك في طور التشكل ليأخذ وضعه النهائي بعد أن انتهى من تصفية كل المنافسين له في قيادة الحزب، أو ربما كان المقصود منها حركة تصحيح لمسار الحزب بما يتعلق بسياستها مع الأحزاب العراقية الموجودة على الساحة، حيث هي أيضا قد تناولها الحزب بالتصفية الواحد بعد الآخر وهرب للخارج من هرب ولم يبقى من منافس لحزب السلطة ليقيم نظامه الشمولي المتكامل. مما تقدم فأن الحركة تعتبر نفسها امتدادا لحزب البعث العربي الاشتراكي وبالتالي هي الوريث الوحيد لكل تراث البعث. ما يزيد من الاعتقاد إن الحركة تريد أن تعيد للبعث بريقه من جديد مع تغيير بالأسماء فقط هو محاولاتها المستمرة للسيطرة على أجهزة الشرطة في البلد والجيش الجديد، وربما إعادة الجيش القديم الذي بقي رئيس الحركة يدافع عنه ويدبج المقالات من أجل ذلك ومازال يعتبر حل الجيش القديم خطأ كبير ما كان يجب أن يحدث، وباستطاعة الجميع مراقبة المساعي الحميمة له ولحركته بإعادة رجال الجيش القديم وتأهيلهم ومنحهم مناصب في العراق الجديد، كل هذه التحركات تشير إلى الهدف النهائي لهذه الحركة التي لا تقبل بمنافس لها بالسيطرة على القوات المسلحة العراقية، وهذه القوات ربما ستكون ذات أسنان قوية يوما ما فتجتث كل من يريد منافستها على السلطة.

فإذا لم يكن هذا هو الهدف، فماذا يمكن أن يكون؟

الأحزاب الدينية هي الأخرى نجدها تدعي إنها الوريث الشرعي الوحيد للسلطة في العراق كونها من أكبر الضحايا للنظام البعثي الصدامي، لذا تجد نفسها من يجب أن يرث عرش العراق ويقيم ملكه بلا منافس، فنجد التيار الصدري يدعي منذ اليوم الأول لسقوط النظام البعثي إن الشارع العراقي ملكا له بالكامل، وكذلك كل ممتلكات الدولة ملكا له وحتى تماثيل صدام يجب أن تستبدل بتماثيل أو صور رموز التيار الصدري، وذلك من قبل أن يشكل مليشيا الصدر التي سماها بجيش المهدي، فهذا التيار حتى إنه لا يسمح لباقي التيارات الدينية بالمشاركة أو التنافس معه على الشارع العراقي الذي يعتبره رهينة لرجال جيش المهدي ويتخذ منه دروعا بشرية عند الحاجة، وحين يجد بنفسه ضعفا معينا لا يقبل بالتوافق مع أية جهة إلا إذا كانت دينية. لنا بممارسات الأحزاب الدينية في المحافظات الجنوبية وبغداد عبرة، فإنها بقوة السلاح أرادت أن تملي إرادتها على صناديق الانتخاب في أكثر من محافظة، فعلى سبيل المثال في البصرة ومنذ الصباح الباكر دخلت مليشيا خمسة أحزاب دينية، منها ما هو ممثل بالسلطة وله وزراء ضمن الحكومة المؤقتة الحالية، دخلت مدججة بالسلاح على مراكز الانتخاب لتفرض قوائمها المعدة سلفا تحت تهديد السلاح، مما حدا بالمشرفين على الانتخابات الانسحاب واعتبارها ملغية والهروب إلى بغداد، والأغرب من ذلك تصدر كل الأحزاب التي بعثت بالمليشيات بيانات تندد بالصيغ الانتخابية وتعتبرها غير شرعية ولا تمثل الطموح!! نفس الأمر حدث في بغداد مع الحزب الإسلامي وحين لم يفلح بالسيطرة على صناديق الانتخاب بقوة السلاح انسحب مدعيا إن الانتخابات لا تمثل الطموح وإنها غير شرعية، ولو كان الحزب قد سيطر عليها بقوة السلاح لكانت شرعية بنظره!!

إن هذه المظاهر التي أوردناها ما هي إلا محاولات للاستحواذ على السلطة بأية وسيلة كانت حتى ولو كانت غير شرعية.

جميع التيارات الفكرية أصابتها ما أسميناها بفايروسات النزعة الشمولية التي تسربت لها لتسيطر على مجمل خطابها السياسي وتغطي على الأساس الفكري لها، فالفكر القومي بحد ذاته فكرا تحرريا إنسانيا يقيم للقومية والوطن وزنا ومنطلقا لتشكيل الفكر القومي، وكذا الفكر الديني والاشتراكي وجميع الأفكار الليبرالية لها منطقها وأسسها الصحيحة ولا بد من التأكيد على أنها ليست متهمة ولكن ما تسرب لها من درن الفكر الشمولي هو ما خلط الأوراق وجعل من هذه الأفكار الإنسانية مثار شكوك الأطراف الأخرى، وبهذه النقطة للجميع الحق باتهام الآخرين وإلصاق التهمة بهم، ولكن في واقع الأمر، إن جميع الأفكار الإنسانية يمكن أن تنتهي نهاية غير سعيدة بسقوطها ذليلة تحت وطأت الخطاب الشمولي المغالي بالشعارات التي تعادي الجميع.

تبدل المرجعة للفرد بظل النظام الشمولي:

قبل حكم العفالقة ومنذ زمن بعيد يعود للنصف الأأول من القرن العشرين، كان العراق يتمتع بدستور ومجلس نيابي وقانين تنظم الحياة الإجتماعية تطورت تطورا طبيعيا حسب إحتياجات المجتمع وإن كانت بطيئة ومتخلفة نسبيا ولكنها كانت موجودة، ولكنها بقيت متخلفة إلى حد بعيد حتى سقوط النظام الملكي أواخر الخمسينات. كان هذا الحدث ليس مجرد حدث عادي فقد نقل المجتمع نقلة موضوعية كبيرة جدا بعد أن توسعت عجلة الإنتاج الصناعي على حساب الإنتاج الزراعي وعلاقات القبيلة المتخلفة التي لم تكن ترقى حتى إلى علاقات الإنتاج الإقطاعي بل كانت علاقات شبه إقطاعية كنتيجة لإستمرار سيطرة العشيرة وعلاقاتها على العملية الإنتاجية في القطاع الزراعي، ولكن النقلة الموضوعية قد بدأت في المدينة ليمتد أثرها للريف بفعل عوامل كثيرة ومنها التشريعات الجديدة التي أدت لنشوء علاقات إنتاج جديدة في المجتمع. وهكذا كان لابد لمنظمات المجتمع المدني أن تتطور موضوعيا بما تمليه علاقات الإنتاج الجديدة بالرغم من بقاء العلاقات القديمة قائمة إلى حد ما شبه أقطاعية وإن نشأت إلى جانبها علاقات جديدة بنشوء العمالة الزراعية الغير مرتبطة بالعشيرة في الكثير من مناطق العراق. وكان لتطور عجلة الإنتاج الصناعي في التجمعات السكانية الواسعة أثر بتطور منظمات المجتمع المدني كتلبية لإحتياجات المجتمع بعد نشوء العلاقات الجديدة، فإتسعت النقابات والجمعيات وضمت إليها عدد كبير من أبناء العراق ليتبلور ويتسع نطاق عملها وتتسع قاعدة الأحزاب الوطنية بشكل معتبر وواعد. وإستمر التطور ولو بوتائر متباينة حتى سيطرة الحزب الواحد على السلطة في العام 1968 ليحول كامل منظمات المجتمع المدني إلى مؤسسات تابعة للسلطة مفرغة من معناها ويحولها إلى أدوات للمارسة القمع والتحكم بالمجتمع، فتحولت النقابات إلى أوكار للتجسس على الأعضاء وحتى ممارسة التحقيق والتعذيب لتقوم مقام الأجهزة القمعية التي لم تعد كافية للجم المجتمع وتكبيله بقيود النظام المجتمع الشمولي. ولكن بالرغم من ذلك كانت القاعدة الصناعية تتسع كنتيجة للزيادة الكبيرة التي شهدتها أسعار النفط لتدخل إلى البلد مداخيل جديدة وكبيرة جدا ساهمت بتطوير الصناعة وإتساع قاعدتها، ولكن كانت بذات الوقت منظمات المجتمع المدني تزداد تكبيلا للأعضاء بدلا من أن تكون لهم عونا على الإدارات في حالة الغبن الإداري أو الوظيفي، ولم تكن قيادات هذه النقابات والإتحادات منتخبة بل معينة من قبل الحزب الحاكم، لذا فقدت معناها ان تكون مرجعية للعاملين المنتمين للنقابة أو الإتحاد. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كان للحروب أثر كبير جدا بعد أن تحولت معظم المصانع إلى الإنتاج الحربي وتدار من قبل المؤسسة العسكرية فتحول العاملين فيها إما جنودا يعملون وفق أنظمة بعيدة تمام البعد عن المجتمع المدني أو إلى عاطلين عن العمل لتبتلعهم الجيوش الأربعة للنظام ومن ثم تحصد الحروب الكثير منهم. وهكذا أفرغت الحقول الزراعية من العاملين فيها ولم تعد هناك العملية الإنتاجية تخضع لأي مسمى ولا لعلاقات الإنتاج معروفة. وكنتيجة لذلك كانت الحروب قد خلفت حالات من التمرد والثورات على السلطة القمعية قد إتسع نطاقها في البلد وينتج عنها عمليات الإبادة الجماعية العروفة بعد أن فقدت السلطة الشمولية القمعية السيطرة على الشعب خصوصا أوقات هزائم النظام وما أكثرها، وإن كان النظام يسميها إنتصارات على إعتبار أن الدكتاتور مازال موجودا، ولكن في واقع الأمر قد خرجت الأمور عن سيطرة السلطة القمعية تماما. القضاء كان قد خرج عن إستقلاليته وحتى تم تعطيلة في كثير من الأحيان. كان لهذا السبب الأثر الأكبر في إضطرار النظام للعودة إلى قوانين العشيرة للسيطرة على الأوضاع، فأعاد الإعتبار للعشيرة وقوانينها وتعطلت القوانين إلى حد بعيد فلم يبق للعراقي غير العشيرة مرجعية أو رجل الدين في المنازعات الأخرى الخارجة عن سيطرة العشيرة.

بظل غياب الدستور وبعد تعطل القوانين في البلد وشل القضاء أو خروجه عن الإستقلالية وتعطل عجلة الإنتاج وإنتهاء منظمات المجتمع المدني تماما بعد تحولها إلى دوائر أمنية وإستخباراتية وقمعية للأعضاء وإشاعة الفوضى في مناحي الحياة وإتساع نطاق القتل والسرقة وتطور وإتساع أشكال الجريمة وحتى نشوء الجريمة المنظمة وإتساع نطاق الأمراض الإجتماعية الأخرى، كان لابد للمجتمع أن يخلق علاقاته الجديدة لكي تستمر الحياة، فكان الحل السحري بالعودة إلى المرجعيات التي كان الزمن قد عفا عليها ولم تعد تلبي حاجات المجتمع منذ زمن بعيد، وهكذا كانت العودة إلى المرجعية الدينية والعشيرة والحزب الحاكم ومؤسساته القمعية وحتى العصابة المسلحة أو إحتكام الفرد العراقي إلى سلاحه كملاذ أخير للوقوف أما التحديات التي لا قبل له بها.

مازاد الطين بلة هو سقوط النظام وإتساع نطاق الفوضى بظل غياب كامل هذه المرة للسلطة والقانون والدستور ومنظمات المجتمع المدني، وماجعل الأمور تنحدر أكثر نحو الفوضى الشاملة هو استمرار فلول النظام والمرتزقة العرب الذين تزج بهم دول الجوار لتحقيق أطماعها بحصص من العراق المقسم كما يتمنون.

[email protected]