نتلمس وبأعجاب الخطوات الناجحة التي تحققها صحيفة أيلاف المرموقة على الصعيد الأعلامي، حيث أستطاعت وفي وقت قصير أن تبرز وبشكل مبهر وسط عشرات الصحف الألكترونية التي أخذت تزدحم بها شبكة الأنترنيت. والأعداد المليونية لقراءها المدمنين على زيارتها يوميا" ليس بالشاهد الوحيد على ذلك التلمس. أما أحد( أسرار) أنطلاقتها وأستمراريتها الناجحة ( المعلنة) فهو أنها من أكثر وسائل الأعلام العربية التزاما" بـ"ميثاق شرف العمل الصحفي"، ومن أكثرها صدقا" في الألتزام بتوجهاتها المعلنة. وهذه ما نجدها مثالا" في كيفية تعاطيها مع حيثيات قضية معقدة وشائكة كالشأن العراقي، بخلاف قنوات المجرمين والملثمين الفضائية.
والسر الآخر لنجاحات أيلاف هو أنها تمكنت من أن تتحول الى ملتقى لتقاطعات وتجاذبات الأقلام من مختلف الأتجاهات الفكرية والسياسية، والسائد منهم في هذه الصحيفة هم الليبراليون العرب الجدد.
وبالرغم من الأشكاليات الفكرية والبنيوية التي يعاني منها الليبراليون العرب الجدد وأنعكاسات تلك الأشكاليات على واقعهم السياسي- الحركي والمؤسساتي في مجتمعاتهم الوطنية، وكذلك على طبيعة تحالفاتهم الدولية المباشرة وغيرها، ألا أن مساهماتهم على الأصعدة الثقافية والأعلامية هي بلا شك دفع هام لمسيرة مجتمعاتهم الى الأمام، في وقت يسيطر فيه على وسائل الأعلام العربية وخاصة على فضائياتها، صراخ المتاجرين بالشعارات القومية التي فقدت معناها، وهيجان حلفائهم من الذين يوظفون الدين لتحقيق أغراضهم السياسية، الذين لم يعد لهم من نتاج "ثقافي" لمواجهة الحضارة الأنسانية المتقدمة الى أمام سوى بث روح الحقد والكراهية وضخ المزيد من الدماء عبثا" بأرسال ضعفاء القطيع الى الجنة، وقطع رؤس المساكين بأسم الله.
أن أعظم ما سجله الليبراليون العرب الجدد لأنفسهم وبأمتياز هو شجاعتهم الفائقة في مواجهة الفكر الظلامي: الشوفيني منه والسلفي الأصولي، وتعرية شعاراتها المظللة، في وقت لا يقدر فيه الكثير من سواهم من العلمانيين ألا على فعل النعامة في أحسن الأحوال.
كما أهتم الكثير من الكتاب الليبراليون العرب الجدد مؤخرا" بأوضاع الأقليات القومية في المجتمعات العربية وبالمظالم التي تتعرض لها.

لكن الذي شذ عن هذه القاعدة هو نشر أيلاف قبل أيام مقالا" لأحد كتابها (خضير طاهر) بعنوان (الانفصال العملي لأكراد العراق). وهو مقال يجدد فيه الكاتب الليبرالي العربي الجديد فكر البعث المعروف بشوفينيته وفاشيته، بعد أن توهمنا أن أحداث التاسع من نيسان 2003 المدوية قد هزمت هذا الفكر ليس من السلطة فقط، ولم نتوقع أنه سيطل علينا بلباس ليبرالي عربي جديد أيضا"، ومن صحيفة محترمة كالـ(أيلاف).
أن حديثنا هو ليس عن خرافات أوأساطير كي يجري أخفاء الحقائق التاريخية في طياتها، أنما عن كيان سياسي قائم وملموس هو الدولة العراقية التي تأسست أوائل العقد الثاني من القرن الماضي وفق أتفاقية سايكس- بيكو التي قسمت المنطقة (غنائم الأمبراطورية العثمانية المهزومة) بين الدول الأستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى (أنجلترا وفرنسا)، من ولايتي بغداد والبصرة وجرى ألحاق ولاية موصل بها فيما بعد.
وبدل المساهمة في بناء عراق جديد عبر دراسة تجربة العقود الثمانية الماضية من تاريخ الدولة العراقية الأولى المنهارة، وأستخلاص الدروس من فشلها وأنهيارها الحتمي وقبل ذلك من عجزها في الوصول الى حلول سلمية وعقلانية عادلة للمشكلات التي كانت تعاني منها منذ تأسيسها، ومن المآسي والويلات التي سببتها ليس للأكراد فقط، والذي يعزيها الكثير من الكتاب والباحثين الى التركيبة الخاطئة التي قامت عليها تلك الدولة والمتمثلة بالدولة البسيطة - المركزية التي لاتنسجم مع الوقائع السياسية والأجتماعية لمكونات العراق السكانية، نرى السيد (خضير طاهر) يذهب الى((تؤكد وقائع التاريخ إن أكراد العراق دائماً يكررون أخطاءهم في التعامل مع الوطن الأُم العراق، فقد حملوا السلاح ضد العراق(عبارة معروفة لصدام!) منذ عقد الخمسينات في الوقت الذي كانوا يتمتعون بكامل حقوقهم، وتسببوا من تلك الفترة ولغاية عقد الثمانينات في قتل آلاف الجنود المساكين، وإستنزاف إقتصاد العراق...))!
وأذا علمنا بما كتبه السيد (خضير طاهر) في مقالة سابقة (الشيعة.. وأزمة الانتماء للعراق) المنشورة في أيلاف أيضا" من (( إن تاريخ - غالبية - شيعة العراق لم يكن في يوم ما تاريخاً وطنياً))، لصار واضح أي عراق بعثفاشي مكرر يريده السيد (خضير طاهر) لنا.
هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها الأكراد الى تشويه حقائق"هم" التاريخية، ولديهم ما يفيض من حجج ووقائع موثقة لمقارعة هذه التشويهات القديمة التي أخذت الشوفينية تشدد من تكرارها في الفترة الأخيرة لأنها لاتطيق التفوق الكردي القائم الآن على أر ض الواقع والذي بدأ يتحقق لحظة أن أفلح فيه شعبنا من الأنفكاك عن السلطة البعثفاشية الصدامية في أعقاب أنتفاضة آذار 1991 الباسلة ليبدأ مسيرة عسيرة وقاسية أستطاع أن يتغلب عليها ويبدأ عملية البناء في مختلف أوجه حياته السياسية والأجتماعية والثقافية، وتأمين الأمن والأستقرار الذي ينعم بها الأقليم وبشكل مزدهر.
وبدل توجيه طاقات المناطق الأخرى من العراق والمنكوبة من كوارث وويلات الدكتاتورية البعثفاشية المقبورة للحاق بالتفوق الحاصل في أقليم كردستان والأستفادة والتعلم من خبراتها وتجاربها نرى الشوفينية البعثفاشية تحلم بتدمير ما حققه أبناء كردستان من بناء وتقدم وأمن وأستقرار، لأستعادة سيادتها المفقودة والى الأبد: (( وسيتكرر فشلهم مرة أخرى حتماً بعد إستعادة الدولة العراقية قوتها، وإعادة تشكيل القوات المسلحة الباسلة التي ستتولى مسؤولية شرف الحفاظ على وحدة أراضي الوطن، وردع كل من يحاول العبث بسيادة بلاد الرافدين المقدسة)). وهذا التحجج بالحفاظ على وحدة أراضي الوطن لقمع الآخرين، وهذه الدعوة لحروب أبادة جماعية قادمة ليست هذه المرة لصدام حسين أوعلي الكيمياوي قيد المحاكمة، أنما هي لليبرالي العربي الجديد السيد (خضير طاهر) الذي كمايبدو لم يستخلص الدروس من تجربة رفاقه السابقين.
نستغرب كيف تفتح صحيفة أيلاف ذي الخبرة الأعلامية الكبيرة، وهي الحريصة على مستقبل أفضل للعراق وللمنطقة، صفحاتها للمحاولات التي تريد من الآن دس سموم أسلحة الأبدة الجماعية في جسم العراق الجديد. العراق الجديد يطارد بث هذه السموم من قنوات المجرمين والملثمين الفضائية، والصديقة أيلاف تعيدها ألينا!
وبالرغم من أن أيلاف تقول بأنها غير مسؤلة عن الآراء المنشورة على صفحاتها، ألا أن نشر المقالات التي تشيع الحقد والكراهية وتدعوا الى العنف والحروب هو أمر لامبرر له وفق كل المعايير الديمقراطية والمهنية.


* مهندس وناشط سياسي من كردستان- العراق، مقيم في هولندا
[email protected]