عندما كنت صغيرا في كربلاء كانت كربلاء تعج بالايرانيين والهنود والافغان والاتراك وغيرهم حالها حال العديد من المدن العراقية الاخرى التي اكتشفت قبل اكثر من الف عام بفعل مبادئ الاسلام قوة وتفوق ونموذجية نظام "بودقة اندماج" الاقوام على اساس المواطنة الصالحة وبدون التفرقة الدينية والعرقية، النظام الذي يدعي الامريكان اليوم ريادتهم باكتشافه وتصديره للعالم تحت مسميات "الهجرة المفتوحة" و"تعدد الجنسية" و"المجتمع المفتوح" وغيرها. ورغم عربيتي التي افتخر بها فقد كنت مندهشا لمناظر الاهانة المتكررة لابناء المدينة العراقيين المنحدرين من الاصول الايرانية على ايدي البعض من سكان المدينة العرب او المستعربين. ومما زاد في تعجبي اننا كنا في نفس الوقت نصطف كاطفال في الشوارع بعد تعطيل مدارسنا صباحا لنرحب بهدايا الايرانيين الثمينة المحمولة على الشاحنات لمرقد الامام الحسين واخيه العباس عليهما السلام. ولكن وفي نهاية الستينات وبداية السبعينيات اخذت مظاهر التفرقة العفوية، التي ربما وجدت في العديد من المجتمعات الاخرى، بعدا خطيرا بعد اعتماد نظام صدام حسين سياسة التطهير العرقي منهجا. وقد شهدت شخصيا كيف ان جاري المقعد المريض في احد بيوت ازقة كربلاء تُرك لوحده بعدما جمعت اجهزة الشرطة والمخابرات جميع افراد عائلته من محلات اشغالهم لترميهم مع الاف البشرالاخرين على الحدود الايرانية. وكيف اضطر طبيب الاطفال الذي عالجني مرارا على الهروب مع افراد عائلته وبجلده لتفادي رميه في العراء. وغالبية هؤلاء كانوا من المولدين في العراق.

ورغم تعاطف الايرانين مع القضايا العربية والاسلامية بعد ثورة المرحوم اية الله الخميني تمادى العنصريون العرب في العراق وغيره بعداءهم لايران وبشكل غريب و محزن ومدمر لمصالحهم قبل مصالح غيرهم. فشهدنا جميعا كيف ان الاسلاميين في الجزائر ممن كان يكيل السب والشتائم لايران بمناسبة او بدونها كانو في نفس الوقت متهمين من قبل حكومتهم التي سرقت الديقراطية بالارتباط والعمالة لايران. حتى ان البعض في الدول التي تتلقى القنابل والقتل والتهديدات والاهانات الامريكية اليومية الان من العراق الى الصومال ومرورا باليمن السعيد والسودان لا يزال يتحدث عن "عمالة" الفرس الصهيونية وعمالة ومؤامرات حزب الله الايرانية الاسرائيلية وتفاهات مماثلة اخرى. ورغم اعتقادي ان نظام صدام حسين كان اكثر "المبدعين" عمليا ودمويا بالعداء لايران الا اننا اليوم وبعد ان طل علينا عصر حازم الشعلان، حيث اصبح الجميع خبيرا بتحليل الدور الايراني في العراق ومعالجته باسهاب، علينا العودة مرة اخرى لهذه الظاهرة العجيبة. وحازم الشعلان هذا بالمناسبة وبالرغم من جهوده المضنية لتقمص شكل وقالب وزير دفاع امريكي مدني "متحضر"، عبر لبس البدلات المفصلة اللماعة واربطة العنق التي غابت موضتها منذ سنين، لا زال يذكرني بنظراته وشاربيه وحركاته بالشكل الكلاسيكي المقزز لضباط المخابرات الدمويين في العراق. ان هذه الظاهرة المشينة لايمكن تفسيرها بالطائفية اليوم بعدما اخذت حتى مجاميع الشيعة العراقيين من ناكري الجميل الايراني اتهام بعضها الاخر بالعمالة لايران. فعلى صفحات المواقع والصحف يتهم بعض انصارالمجلس الاعلى قادة التيار الصدري بالعمالة لايران بينما يتهم بعض انصار التيار الصدري المجلس الاعلى بالاصول الفارسية وتنفيذ المخططات الايرانية. و يتهم الجميع المرجعية السستانية بالعداء للعروبة وتطبيق المؤمرات الفارسية. ويسارع بعض اتباع المرجعيات العظام باتهام قادة ايران ذوو التوجهات المعادية للهيمنة الامريكية بالوقوف وراء المقاومة الشيعية المسلحة للاحتلال الامريكي وزعزعة استقرار العراق. ولاضافة بعض الاثارة لهذا المشهد المبتذل يتفلسف العديد من الشيوعيين السابقين والحاليين من المتمدنين حديثا وبعض دعاة الحضارة الآرية في كردستان عن جذور المقاومة العراقية السنية والسلفية في ايران وارتباطاتها بالسلفية الشيعية الايرانية. بينما يلفت البعض من بقايا البعثيين الصداميين والطائفيين السنة انتباهنا الى عبقرية ودقة تحليلاتهم السابقة عن المؤامرات الشعوبية الرافضة ومخاطر مذهبهم الجعفري الفارسي المنشأ.

العنصرية تتضمن عقدة الشعور بالنقص. والانسان العنصري انسان قلق نفسيا ومثالي في ارائه وهو غالبا ذو ثقافة محدودة ويعيش دائما عقدة الشعور بالتهديد من قبل الاخرين الغرباء. ولانه انسان ضعيف في الحجة والمنطق والمعرفة الثقافية فهو لذلك يلتجئ للعنصرية والاستعلاء لاثبات قوته لنفسه وللاخرين ولتقمص دور البطل. وليس من الغريب اذن ان تنتشر الحالة العنصرية وتزداد حدة بين المتعرضين للتفرقة العنصرية والازدراء والاعتداء من قبل الاخرين انفسهم. فهم لذلك اشد ضعفا. واليوم حيث نجحت الصهيونية العالمية والاستعمار نسبيا في شرذمة المجتمع العربي وتجزيئه وتركيعه سياسيا وعسكريا حتى ان العربي على غير الهندي من جمهورية الهند او الصيني من جمهورية الصين او التركي من جمهورية تركيا اوالكردي من "جمهورية كردستان" (قريبا جدا) هو سعوديا من المملكة السعودية او مغربيا من المملكة المغربي او قطريا من امارة (او مملكة) قطر رغم ان حسه القومي العربي الباطن والمشروع لا زال قويا لموطنه العربي الواحد الذي نجح المستعمرون في طمس حتى اسمه! ولربما ازدادت عنصرية الكثير من العرب في هذا القرن بفعل فشلهم في تحقيق الحد الادنى للوحدة والاستقلال حتى اصبحت ايران واصبح الفرس شماعتهم لتبرير اسباب فشلهم المزمن فهما يذكرونهم بالماضي العظيم والمجد والقوة المفقودة. ان العربي العنصري الغير قادر على الانتقاص عنصريا من المستعلي والمتغطرس الانجليزي او الفرنسي او الامريكي الذي امعن في اذلاله ليس امامه اذن الا اثبات "قوته" امام الامم المستضعفة والمستهدفة الاخرى.

لابد ان نشير اخيرا الى ان الصهيونية العالمية واداتها الضاربة، الولايات المتحدة الامريكية، كانت قد اتخذت قرارها الاستراتيجي في تصعيد وتائر محاربة وتطويق المسلمين وتدمير مدنهم و انتهاك مصالحهم وحقوقهم السياسية والاقتصادية والدينية يوم انتصر الشعب الايراني الباسل ونجح في طرد الهيمنة الاسرائيلية في طهران. فاما قيام بعض "العباقرة الحضاريون" من قادة شيعة العراق او باكستان او السعودية ورموزهم بتقبيل ايادي الامريكان و"استخدامهم" تكتيكا لاستجداء الحقوق، حتى لو كان ذلك عبر التلويح بمشاركة الحملة الصهيونية العالمية المعادية لايران الاسلامية، فسوف لن يجلب لهم ادنى مكسب. واما قيام بعض "المعتدلين" من السنة والعنصريين العرب ورموزهم ممن ركب موجة العداء الغربي لايران وبالغ في تملقه للعم سام فسوف لن ينقذهم من الضربات الامريكية القادمة. فدوائر التخطيط الستراتيجي في واشنطن وتل ابيب تدرس الشعوب ومصالحها و((طاقاتها الكامنة)) المستقبلية في الوقوف بوجه الهيمنة الامريكية بطريقة تحليل علمية بعيدة عن المواقف الآنية اوالمحلية اوالعاطفية. حيث استنتجت هذه الدوائر على ما يبدو ان الشعوب الاسلامية، شيعية كانت ام سنية ام وهابية، لديها نزعة طبيعية في مقاومة الهيمنة الغربية ورفض التبشيرية الصهيونية. لقد اتخذت هذه الدوائر الاجرامية قرارها في محاربة المسلمين، شعوبا وارضا وحضارة، عندما انتصرت الثورة الايرانية بتأثير قوة الانتماء الاسلامي وعناده الشجاع بغض النظر عن طبيعة الاخير المذهبية.


نيويورك