حزن العراقيون في اليوم الثاني لفرحهم، كان اليوم الأول يوم سقط نظام الطاغية في 9 نيسان 2003.
حزنوا وبكوا على ضحايا الإرهاب يوم الانتخاب وحزن معهم، وبكى معهم كل الشرفاء في العالم، ولقد أكدّت الحكومة العراقية أنها قادرة على حفظ الأمن في ذلك اليوم المشهود، فلم يتجاوزعدد الشهداء الأربع والثلاثين؛ والجرحى السبعين.
مر اليوم المشهود كأي يوم عنف مذ قرّر القلّة القتلةُ أن يثأروا لصدامهم المخلوع، أو لابن لادنهم الهارب، هددوا بالويل والثبور وعظائم الأمور، وقرروا منع الفرح في يوم الفرح الثاني؛ فما قدروا، وصار للعراق يومان للفرح بعد خمسين عاماً من القهر والخوف والحزن؛ لكن يوم الفرح عندنا كألف يوم ممّا يعد المجرمون.
أعلن جيش الإسلام في العراق في أغسطس آب الماضي أن واجب المؤمنين الحقيقيين يتمثل في ضمان خسارة جورج دبليو بوش ومنع إجراء الانتخابات في العراق؛ ما سقط بوش ولا مُنع إجراء الانتخابات.
المؤمنون الحقيقيون قاموا بواجبهم، أدلوا بأصواتهم - تجاوزت نسبة المشاركة 70%- وتأكد أن القتلة قلّةُ القلّةِ. سعت الجزيرة حتى آخر لحظة لإعاقة العملية الانتخابية وإضعاف الثقة فما أعاقت ولا أضعفت، قام تنظيم
- الإخوان المسلمون- في المنطقة حملةً ضد الحكومة العراقية بدعوى كفرها وخدمتها للكافر الأمريكي، وطالب التنظيم بمقاطعة الانتخاب، رغم أن له وزيراً للصناعة في الحكومة - حاجم الحسني- ؛سقطت حملتهم وسقطت المقاطعة وهاهم يتميّزون غيظاً من فداحة هزيمتهم ونجاح الانتخاب.
اختلف العراقيون ولكن على الطريقة البرلمانية حيث تصبح الأغلببية صاحبة الأحقية في الالتزام واحترام الأقلية، لم يختلف العراقيون على طريقة الأئمة بما يؤدي لصراع دموي يدعي كل من طرفيه القدسية ويخرج كل طرفٍ الطرفَ الآخر خارج الملّة وإلى جهنم وبئس المصير.
ستؤكد الأيام المقبلة أن الحكومة التي حفظت أمن العراق يوم الانتخاب لن توظف نتائجه في خدمة أعضاءها بل في خدمة كل العراق، أكدت الانتخابات العراقية أن الأغلبية تحاول جادة تجاوز الضعف والانقسام إلى مرحلة المقاومة ورد الفعل السلمي الانتخابي على تلك الأقليات جدا الصلبة جداً الشرسة جداً المتوحشة جداً ردا سياسيا دستورياً في غاية الحضارة.
الانتخابات الحرة النزيهة في العراق وضعت الأمور في نصابها وهي قادرة بإنسجامها مع الشرط التاريخي أن تفعل نفس الشيء حول العراق، من هنا تنبع خطورة الإنتخابات فهي تحاول أن تقوّم خمسين عاماً من الإعوجاج في المنطقة، الانتخابات هي الجامعة التي تخرج الديمقراطيين وتعلم الجميع ممارسة الحرية، واحترام الآخر؛ الانتخابات تعلم الشعوب الإنتقال من الفردية السياسية إلى العمل الحزبي الجماعي، وتهييء أخصب أرض لنمو المجتمع المدني؛ الانتخابات العراقية ليست شذوذاً لهذه القاعدة؛ بل ستكون الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل لتعلم الديمقراطية كقيمة جماعية اجتماعية تحقّق الحقّ والخير والجمال والعدالة والمساواة والكفاية.
الرافضون للانتخابات يريدون أولاً إخراج المحتل ومن ثم لكل حادثٍ حديثٌ مع الأمم المتحدة.
السياسة مفن الممكن ولا أرى ولا يرى الواقع أن ما يقوله الرافضون ممكنٌ ولا أراه سياسة أو مشروع برنامج حالم. الانتخابات الديمقراطية فعل سلمي إجتماعي للوصول إلى الحكم إذا، كان الرافضون أكثرية فلماذا حاربوا حدوثها وفشلوا ما دامت ستسمح لهم باستلام الحكم وإذا كان الرافضون أقلية وهذا هو الواقع فلماذا يحاربون هذا الفعل السلمي الإجتماعي السياسي بأبشع أشكال العنف والتخويف والإرهاب، فإن كان هذا طريقهم للوصول إلى الحكم فأنا أعتقد أنهم نسوا سقوط النظام الصدامي وبشكل سريع ومريع ونسوا أن من قتلهم صدام من حزب البعث لا يقل عمن قتلهم من باقي الألوان العراقية.
لن يخرج هذا النسيان المبكر عن دائرة الزهايمر السياسي المبكرة ومن يخرف مبكراً لا يحق له أن يحكم العراق وإن كان من حقه أن يحصل على حصته بالعدل وبنسبته من عدد السكان 9% وليس بانتسابه للدكتاتور وبالخدمة في مخابراته وفي ورشات الموت في المقابر الجماعية وفي حلبجة والأنفال وأعمدة المشانق وصليات الرصاص. الإنتخابات العراقية عنت فيما عنت أن العراقيين اقترعوا لأول مرة منذ نصف قرن عاشوا فيه جحيم الحكم الشمولي وضجيج الدعوات القومية الشوفينية والدعوات الشيوعية الفاشية، وفي ظل تغييب كامل للسياسة بمعناها الإيجابي وفي خوف وقهر بلا حدود، الأمر الذي اشتركوا فيه مع إخوتهم وجيرانهم في أرض العرب رجعيين كانوا أم تقدميين.
اقترع العراقيون بقدرة أكبر وبعزيمة أشد وبإرادة أقوى في إدارة أزمتهم الراهنة وكلنا ثقة أن أمة العراق ستنتقل في المستقبل القريب من إدارة الأزمة إلى حل الأزمة كما فعل إخوتهم في فلسطين بعد وفاة عرفات وبعد إنتخابات رئاسية جديرة بالإحتلاام، أليس صحيحاً ما قاله كيسنجر وشولتز في الواشنطن بوست: " يفترض أن تشكل هذه الإنتخابات الخطوة الأولى الضرورية لتحقيق تطور سياسي ينقل الأوضاع العراقية من حال الإحتلال العسكري إلى الشرعية السياسية الوطنية"، أعتقد أنه صحيح كل الصحة. ماذا سيقول أدعياء الوطنية وسدنة القومية الشوفينية وأساتذة الثقافة العربية الخائبة في كل العالم العربي وفي الشتات عندما تحكم الشرعية السياسية العراق؟ وما هو اعتراضهم على وطن عراقي حر وسيد وأمة عراقية دخلت الحداثة من أوسع أبوابها ومن أكبر فضاء لها ؟ ماذا سيقولون لوجوههم في المرآة ماذا سيقولون للعامة والإمّعات التي يجرونها خلفهم أو يجرون خلفها؟!
أما عصابة الزرقاوي ومجرمي صدام الذين أعلنوا حرباً لدوداً على الشعب العراقي والذين اعتبروا أن الديمقراطية كذبة أمريكية كبرى تريد إيصال الشيعة إلى الحكم فنقول لهم: موتوا بغيظكم لقد نجحت الانتخابات وسقطتم وسقط شعاركم المغمس بالدم " اكتب وصيتك قبل أن تنتخب".
قد يتخوف البعض من قيام دولة دينية وهذا ما لن يحصل، فالعراق غير إيران؛ إن مبدأ ولاية الفقيه يترك المرشد الأعلى آية الله علي الخامنئي مشرفاً مباشراً على السياسة الإيرانية ولكن آية الله العظمى السيستاني أقرب إلى فصل الدين عن الدولة وفي رأيه أن المجتمع التعددي يجب أن يراعي مصالح وحقوق الأقليات والقوميات لأن التوجه السياسي الصائب للسيستاني ينفي الإتهام التاريخي لشيعة العراق بتبعيتهم لإيران كما كان يرى ساطع الحصري منذ بداية العهد الملكي، كما ينفي أي توجه لهم بسن دستور يؤكد حقوق الأغلبية على حساب الأقليات. إن موقف السيستاني صمام أمان بدرجة امتياز في وجه أي صراع طائفي محتمل وكل ما أرجوه أن يطمئن السيد دان مورفي 2 كانون الثاني 2005 Christian science monitor: " بأن الانتخابات لم تهدد ولن تهدد بمخاطر انقسام طائفي"، يقول جوان كول أستاذ التاريخ الشرق أوسطي في جامعة ميتشغان: " إن القيادة الشيعية لا ترغب في تقسيم العراق بل على العكس من ذلك يريدون للبلد أن يبقى موحدا ولن يعدموا وسيلة لاستمالة العرب السنة وهذا عين الحق". لقد أكد آية الله العظمى السيستاني أنه يسمع ويصغي ويفهم الشارع الوطني وقد صرح أنه لا مانع لديه من أن يكون رئيس الدولة مسيحياً عندما تتوفر فيه شروط العدالة. إن العراق بعد الانتخابات قد سار عدة خطوات إلى الأمام؛ بالنسبة لعراق ما بين الحربين.
في العراق طبقة متوسطة واسعة وذات ثقافة رفيعة وذات أهلية علمية عالية وهي موجودة بقوة في كل الطوائف والألوان، إن الديمقراطية والأمن نسبي وهذه الطبقة المتوسطة تشكل ثلاث ركائز لتهميش الإنتماءات الطائفية ولتسيد الإنتماء الوطني العراقي.
إن العراق بعد الانتخابات هو لبنة الأساس في استقرار الشرق الأوسط وكل المحاولات الإقليمية لإفشالها باءت بالفشل وانقلب السحر على الساحر. هل يستوعب الإقليميون حول العراق أن استقرار العراق سيساعد في استقرارهم وإصلاحهم؟؟؟
وأخيراً لنتذكر معاً المشاهد التالية:
-مصاب بالسرطان مقعد توجه محمولاً للمشاركة في الانتخابات.
-عراقي يحمل أمه لتدلي مع إبنها بصوتها في الانتخاب.
-تلغيم طفل منغولي في سن الثاثة عشرة وتفجيره لإعاقة الانتخاب.
-مجموعة مجرمة نصبت مدافع الهاون في جامع الحمزة في البصرة وقصفت مراكز الانتخاب.
-فجر انتحاري نفسه قرب مركز للانتخاب فقتل أماً عراقية مع طفلها في قرية بلد.
لنتذكرها جيداً فهي أغنى من النصوص، فليشهد التاريخ أن الأم العراقية تصنع المعجزات، فليشهد التاريخ أن الأمّة العراقية تلد الحرية.
متى تتعلم أمهات العرب الحمل والولادة في فضاء تاريخ مقدس يخلقه البشر ويرعاه عقل الإنسان وقلبه وتحميه أهدابه ودموع الفرح في اليوم الأول والثاني.
د.أديب طالب
كاتب من سوريا
- آخر تحديث :
التعليقات