يحكي التاريخ أن الحرب الأهلية الإسبانية قد خلقت واقعا في غاية التعقيد إبان التمرد الذي قاده العسكريون ضد حكومة الجبهة الشعبية، وفرضوا بذلك سيطرتهم على كثير من المقاطعات الإسبانية، وتقاسم الطرفان السلطة في البلاد بحيث أصبحت كل جهة تطبق قانون الخدمة العسكرية على المواطنين الذين هم تحت سيطرتها لدرجة أن تقاتل الأصدقاء وأبناء العمومة وحتى الإخوان فيما بينهم، وبين بداية الحرب في العام 1936 ودخول الجنرال فرانكو العاصمة مدريد سنة 1939 سالت دماء حوالي النصف مليون قتيل، وقعوا ضحايا في واحدة من أكبر مآسي التاريخ الحديث.
اللبنانيون يعرفون جيدا ما يعنيه التذكير بهذه الوقائع، لأنهم ذاقوا مرارة الاقتتال الداخلي، وسقطوا في أتون حرب أهلية تعددت مفاصلها بدءا بالأحداث الدموية للعام 1860 في ظل الحكم العثماني ومرورا بأزمة 1958، وانتهاء بالمسلسل المرير الذي اندلعت شراراته الأولى في بداية السبعينيات من القرن الماضي وكانت أحداث صيدا وعين الرمانة بعيد اغتيال النائب معروف سعد ومحاولة اغتيال بيير الجميل إحدى كبريات عوامل تأجيجها، وهو صراع ابتدأ لكي لا ينتهي إلا على إيقاع الوفاق العربي حول ضرورة وضع حد للأزمة اللبنانية و جسدته مقررات القمة العربية الغير عادية بالدار البيضاء في مايو 1989، إلى حين وقعت مختلف الأطراف على وثيقة الوفاق الوطني اللبناني المعروفة باتفاق الطائف.
تاريخ الوفاق ليس ببعيد، كما أن تاريخ الصراع والدم ليس ببعيد أيضا، وهنا تكمن خطورة المسألة، إن حدث التوافق الوطني اللبناني بعد سنوات الاقتتال المريرة يعد في حد ذاته إنجازا قل نظيره في مجتمع فسيفسائي التركيبة الدينية والطائفية والثقافية، مكمن الخطر هو أن ينهد مثل هذا الإنجاز على إيقاع المحاولات الرامية من هنا وهناك إلى تمزيق كيان هذا البلد، والتلاعب بمصيره في ملهاة إعادة رسم خارطة المنطقة، وتحويله إلى مجرد حاجز طرقي في وجه المقاومة، ومعبرا سهلا لأمركة المنطقة وبسط المشروع الصهيوني على أرضها وإنهاء أي شكل من أشكال الممانعة، وإيجاد حل جيوسياسي للتواجد الفلسطيني في المخيمات، وهو الدور الذي يراد لسوريا أن تلعبه أيضا في المدى غير المنظور وعلى امتداد حدودها مع دول الجوار.
إن محاولة إدخال الرئيس الراحل رفيق الحريري رمز كرامة المال العربي ووطنيته، من نفس الباب الذي دخلت منه ناقة البسوس إلى التاريخ أمر غير وارد وغير مقبول، لأن اللبنانيين أوعى من أن يسقطوا في دوامة التناحر الداخلي مرة أخرى، أما أن يكون حدث الاغتيال مدخلا لوصاية أجنبية على لبنان فإن هذا منوط بالدور الذي يمكن أن تلعبه أطراف الساحة اللبنانية على مستوى الحوار المتبادل والسعي إلى الالتفاف حول أي أزمات دستورية أو سياسية محتملة داخل البلاد، والإبقاء على صورة لبنان ما بعد الطائف، لبنان النموذج في الوفاق الوطني والاصطفاف التلقائي على أرضية التضامن وتحكيم المصلحة العليا للبلاد.
إن تدويل الأزمة السورية اللبنانية لم يعد من قبيل الاحتمالات المعلقة، لقد أضحى واقعا يتكرس يوما بعد يوم، ولعل لأطراف الأزمة ما يكفي من الوسائل للحيلولة دون تحول لبنان إلى ساحة تجاذب على الشاكلة العراقية، ومن ثم تفويت الفرصة على المتاجرين بحاضر الشعوب والمقامرين على مستقبلها.
تدويل الأزمة هذا يقتضي ضرورة حضور الأطراف العربية المختلفة في صياغة واقع جديد على الأرض، لكن الذي قد يصيب العرب بعقدة كاسندرا، عرافة طروادة التي كانت تستشرف المستقبل وتعرف قدوم الخطر الداهم لكن لم يكن في مقدورها فعل شيء أكثر من التنبؤ واحتمال الكارثة، إنه الخطر القادم على صهوة الإصلاح وفق تصور المحافظين الأمريكيين الجدد، ومصالحهم، ومخططاتهم، القائمة أولا وأخيرا على إنهاء آثار الصراع العربي الإسرائيلي، والخروج بإسرائيل كأقوى دولة موحدة في المنطقة بعد إشعال فتيل الصراع على خلفية التغيير وإعادة فك رموز التوازن من المحيط إلى الخليج.
وقد يكتفي العرب الآن على الأقل بما صرخ به المفكر الإسباني الشهير ميغال دي أونا موتو بوجه الجنرال مليان استراي قائلا: " قد تنتصرون، لكنكم لن تقنعوا أبدا أي أحد ".

[email protected]