في مناسبة الذكرى السابعة لرحيل الجواهري

رواء الجصاني رئيس مركز الجواهري الثقافي – براغ: في الاسبوع الأخير من تشرين الأول (اكتوبر) عام 2000 ، أقيم في مدينتي أربيل والسليمانية الكرديتين العراقيتين مهرجان شعبي ورسمي حافل، لتنطلق منه وتتواصل – كما كان يفترض – فعاليات مئوية الجواهري الكبير (1900 – 2000).
وشمل مهرجان الكرد العراقيين إزاحة الستار عن تمثالين، ونصبين للمحتفى به، ودراسات وندوات وحوارات وفعاليات أخرى، شارك فيها عشرات المثقفين والأدباء العراقيين والعرب وعلى امتداد عشرة أيام ... فما هي أبرز الخلاصات والموحيات في تلك الفعالية المتميزة:
1 – بعد أيام قليلة على رحيل الجواهري الكبير (27/7/1997) كتب الشاعر العربي البارز نزار قباني، مخاطباً المعنيين بأن اتركوا تقييم الجواهري حتى القرن الثاني والعشرين. ولكن كرد العراق لم يأخذوا برأي القباني، فبادروا الى استضافة انطلاق الاحتفالات المئوية، من مدنهم الكردية، بشاعر العرب الأكبر في القرن العشرين على الأقل .. ولعلهم أرادوا بذلك رد بعض الجميل للجواهري الذي غنى معاركهم، وساند حقوقهم وأهداهم "قلبه" و"لسانه" وذلك أجود ما يمتلكه المعدم.
2 – صحيح ان دمشق الشام كانت منحت الجواهري خلال حياته أعلى الأوسمة عام 1994 في احتفال تكريمي مهيب، وان مثقفي وأدباء لبنان جعلوا من "أربعين" رحيله (خريف 1997) مناسبة فكرية وشعرية كبيرة في فعالية يؤرخ لها، إلا أن الأيام تمضي، وتستمر مؤامرة الصمت العربية – الرسمية خاصة – ضد الجواهري، والتي ابتدأت منذ عقود. ولربما منذ اعلان الشاعر وتوكيده بأنه "حتف الطغاة" قبل أكثر من خمسين عاماً، فخاف منه المعنيون، وما أكثرهم.
3 – وان كانت لمؤامرة الصمت العربية الرسمية ضد الجواهري مبرراتها، المعروفة، إلا أن صمت المثقفين والأدباء العرب ومؤسساتهم، غير الرسمية كما ينبغي ان تكون، ولنقل الحياء من اعلاء الصوت على أقل وصف، لا تعرف مسبباته، خاصة وان الكثير من أولئك المثقفين كتبوا، مبادرين، العديد من البحوث والدراسات والمقالات عن ارنست همنغواي ورامبو وشيلر وشكسبير.. وبمعنى انهم قادرون على الكتابة عن العظماء، أفليس "الأقربون أولى بالمعروف" ان كان ذلك "معروفاً"..!
ثم هل من وشيجة أو رابط بين حال المثقفين والأدباء العرب، وحال أمتهم التي تعيش ما تعيشه اليوم من أوضاع ووقائع. وهل يصح ان نردد مع الجواهري ما قاله قبل ثلاثة عقود:

بـــهــــم عـــــوزٌ الــــى مـــــددٍ
وأنــــت تــريــدهــــم مـــــــــددا

4 – وبعد كل هذا العتاب الصداقي، وصديقك من صدقك وليس من صدّقك، فلأحدثكم عن بعض ذكريات الحدث ذاته...
مثقفون وشعراء وأدباء وشخصيات اجتماعية من مصر والعراق بشكل رئيس، ومن البحرين والجزائر وسوريا يجتمعون ليحتفوا بمئوية الجواهري في أربيل والسليمانية، وبعد مسيرة عشرين ساعة بالسيارات، قطعوا خلالها ودياناً، ومنحنيات وجبالاً وسهولاً، تكفي وحدها لكتابة أكثر من قصيدة ورواية، أو فصولاً في أدب الرحلات على الأقل.
وإذ تبرز من بين المشاركين وجوه المثقفين والفنانيين العراقيين: محمد سعيد الصكار وفاضل العزاوي وفوزي كريم ومحمد حسين الاعرجي وجبر علوان ورشيد الخيون ورياض النعماني وجعفر حسن وقتيبة الجنابي واقرانهم، والبحرانية حمدة خميس والجزائرية زينب الاعوج والمصري شوقي جلال، وإذ تسيّس الفعالية برعاية متميزة من الزعيمين الكرديين مسعود البارزاني وجلال الطالباني، وبمشاركة المصري حسين عبد الرازق والسوري نبيه رشيدات والعراقيين نوري عبد الرزاق وأحمد الموسوي ومفيد الجزائري ومحمد الحبوبي، تتراكم على فخري كريم منسق اللجنة العليا للاحتفالات أسئلة، قيل بعضها بصوت عالٍ، وآخر بهمس أو من خلال العيون ومنها:
-أين محبو الجواهري العرب الآخرون؟
-وأين أصحابه ومريدوه العرب، والعراقيون الآخرون، في المغتربات على الأقل؟ ومن بينهم بشكل أخص: كريم مروه وسميح القاسم ومحمد دكروب وسعدي يوسف وفيصل لعيبي وعباس الكاظم ومحمد الجزائري وسعد البزاز ومحمد مبارك وعبد الحسين شعبان وجليل العطية وضياء العزاوي وحميد البصري وحسن العلوي وفؤاد سالم ... وجميعهم ممن أبدعوا له وعنه، بمحبة، لا محاباة.
-وإذ تتوالى الاجابات عن اعتذار البعض لصعوبة الوصول الى مواقع الاحتفالات، وعدم القدرة على الاتصال بالبعض الآخر، وسرعة الاعداد، وضيق الوقت وذات اليد... برغم ذلك تبقى أسئلة أخرى، وإن قليلة، عن الآخرين ممن لم تصلهم الدعوة، أو ممن اعتذروا بسبب هذا "الموقف" أو ذاك.
5 – أما عن فعاليات ذلك الحدث الاستثنائي، الاحتفال بمئوية شاعر العرب الأكبر، في كردستان العراق، فها هنا مؤشرات موجزة عنها، ولنترك للخيال ان يتوسع فيها، ويعيش تفاصيلها:
-ازاحة الستار عن نصبين كل منهما بأربعة أمتار ونصف لقامة الشعر العربي في القرن العشرين من انجاز سليم عبد الله النحات العراقي المعروف، المقيم بين ايطاليا وسويسرا.
-دبكات وأغان كردية، وعربية لفنانين عرب وأكراد.
-كلمات واستضافات رسمية من أبرز القيادات الكردية العراقية.
-مداخلات وقصائد تكريم، وعلى شرف المئوية.
-لافتات محبة ووفاء لذكرى الشاعر الكبير ... في القاعات والشوارع وحتى الأزقة
-لقاءات تلفزيونية واذاعية وصحفية خاصة بالمناسبة.
-مطبوعة يومية بثماني صفحات ملونة خاصة بـ "مئوية الجواهري" اسماً ومسمى.
-هدايا وباجات وأوسمة رسمية وشعبية تؤرخ للحدث. وغير ذلك كثير، وكثير.
6 – ولكن هل خلت الاحتفالات من "الإثارات" و"المنغصات" أو "التساؤلات" على الأقل؟ ان خليت، خربت كما يقول المثل الشائع، وهنا بعض ما حفظته الذاكرة، أو سجلته بعض "اليوميات":
-شتائم في صحيفة (أخبار الأدب) المصرية على منظمي الاحتفالات، والداعين لها تحت ذريعة عدم مناسبة التوقيت، والدخول غير الشرعي لمواقع الاحتفالات وعدم معرفة كيفية التمويل وإدعاءات سياسية أخرى. ولكن الردود على تلك الشتائم ألقمت الشاتمين أحجاراً على حد زعم المطلعين، وبقول فصل، أين هو الموقع الثاني لكي يتم التنابز بالأمكنة، مثلاً!!
-اعابات من هذا المشارك في الاحتفالات، أو ممن دعي ولم يحضر، ومن ذاك الذي لم يُدع أصلاً، بأن الاحتفالات قد "سيّست" وان الاكراد وقياداتهم قد "استفادوا" من الفعاليات، وان لم ينكر السائلون حب المنظمين والداعين للجواهري الكبير، وعن قلب.
ويجيب أكثر من معني بتلك "الاعابات": وأية جهة كانت ستنظم مثل هذه الفعالية، ولن تجني أرباحاً معنوية منها على الأقل؟!
-مداخلة "متفردة" سعت لأن تنال من الجواهري "الكلاسيكي الجبار" على حد تعبير المساهمة ذاتها لأنه "كان حاجزاً أمام المبدعين"!! و"ساحراً" للجماهير بـ "إلقائه وشخصيته وأدائه" أكثر من "شعره"!! وقد تصدى أكاديمي وباحث كردي "جليل" متخصص بالأدب العربي، للتنطع الذي جاءت به تلك المداخلة "المتفردة" في الاحتفالات بمئوية الجواهري.
7 – أما عن اللافت للانتباه أكثر من غيره، فحدث ولا حرج:
-كأن يكشف أحد المشاركين ان الجواهري كتب عن الأكراد ست صفحات فقط، فأقاموا له مثل هذه الاحتفالات، في حين نسي العرب الذين كتب لهم عشرات القصائد ومئات الأبيات ذكرى مئويته.
-وأن يكتشف مشارك آخر وجود شارعين باسم الجواهري في مدينتي الاحتفالات الكرديتين الرئيستين (أربيل والسليمانية) في حين تخلو مدن العرب من مثل ذلك التكريم لشاعر كالجواهري خلد مدن وتاريخ ومعارك وانتصارات – كما هزائم – أمته.
-وان يتفرد مشارك عربي في الاحتفالات، لم يأت، وقد تحمل عناء سفر امتد عشرين ساعة، إلا ليلتقط الصور التذكارية.
-وأن يفاجأ المرء وهو يجد العشرات من الأكراد الذين يحفظون شعر الجواهري العربي، في الغزل وحب الحياة والتمرد والشموخ، وان يجادلوا في صور الجواهري الشعرية وجمالها وبنائها اللغوي.
-وان يعثر المتابع على دراسات بالكردية عن الجواهري، قال عنها متخصصون بأنها أكثر دقة موضوعية وأكاديمية من "دراسات" كثيرة بالعربية.
-وأن يثير الانتباه صحفيون ومحررون ومذيعون أكراد، يكتبون ويتحدثون العربية بطلاقة، وأناقة تتجاوز صحفيين ومحررين ومذيعين عرباً بمسافات طويلة.
... وهكذا تكثر "اللوافت" للانتباه، وتبقى مبادرة الاحتفاء وحماسة المنظمين والداعين، وجلال المناسبة، ثوابت راسخة، يشار لها بالبنان والاقلام والصور والوقائع، ولتلك جميعها متابعة أخرى.

بعض آهات الجواهري
يا نديمي: لم يبقَ لي ما أرجّي
غير ليت، و "ليت" زرع بصخرِ
ليت اني لبربرٍ أو لزنجِ
أتغنى شجونهم طول عمري
نصف قرن ما بين دفٍ وصنجِ
أتراني كنت انتبذت بقفرِ
وتجوهلت مثل واو لعمرو
لست أدري ولا المنجم يدري
براغ 1965


www.jawahiri.com