الفصل الرابع

أصبحت عجوزا، أصبحت كالزي القديم، لا أحد يرتديني هذا العام، أكتب ولا أحد يقرأ، أتكلم ولا أحد يسمع.
«لينين»

لم تكن جريدة «القاهرة» - أبدا - حلما للذين عملوا فيها بل كانت «فكرة» لصاحبها»، دفعته إليها خبرات تراكمت، فأثمرت، قطفها، وأراد أن يزرع شجرة له، يملك ثمارها، فبحث عن من يجنونها له، بعض الفروع تكسرت، وكثير من الثمار عطبت، وأصبحت أوراق الشجرة مشلولة، وطارت جذورها في الهواء، فليست كل الأفكار قادرة علي تجاوز سوء تنفيذها، أو تفسيرها وتوظيفها.
سبق التفكير في إصدار تلك «الجريدة» وزير مدرك لأهمية الإعلام، واختبر فاعلية هذا الإدراك بالقوة وبالفعل، ففي بلد لم يتجاوز معظم المتعلمين - وغير المتعلمين - وكثير من مثقفين أسوار الأمية، تصبح الشائعة حقيقة، والصورة مثالا، والكلمة قانونا.
امتزج اللون بالكلمة بين أنامل «فاروق حسني»، منذ وعي وهج اللون، وأيقن أن معظم العيون في بلدنا تهفو - وتستريح - للصورة أكثر من الصوت، وصوت الألوان قد لا يطرب، ويحتاج إلي تدريب يوصلك إلي طلاوته.
وبذكائه جعل صوته تاليا لحضور صورته، بدليل أن الكثيرين شاهدوه قبل أن يستمعوا إليه، ثم استمعوا إليه، فأدمنا معا - هو.. وهم - مشاهدته، فقبل أن يصل إلي مصر وزيرا، وصلت صور موهبته محمولة فوق كلمات عدد من أبرز صناع الكلمة.
في «الأكاديمية المصرية» بروما، أدار «فاروق حسني» عشرات الحوارات مع مثقفين وصحفيين مصريين بارزين، واختلطت مهارته في إدارة تلك الحوارات/ العلاقات بمهارة إدارته للأكاديمية وهو فنان يجيد التعبير عن فكرته بالفرشاة.. أسرع من الكلمة، ربما لأنه وجد من ينوب عنه في الثانية، وتعلم الأولي وأحبها ولم يكن مضطرا - مثل غيره - لينوب عنه أحد في استخدامها.
وعندما أصبح الفنان «وزيرا»، تقرب إليه الإعلام.. فاقترب، وما بين التقرب والتقارب مضت علاقتهما معا.
بدا «الوزير» معانيا من الإعلام، فلعله صاحب الرقم القياسي في تلقي الهجوم الإعلامي طوال مدة توليه الوزارة، لكنه استفاد من «السحر» ولم يضر «الساحر»، فأصبح الجدل حوله دليل تأثير، وغدت الكتابة عنه - وبالأخص - ذما، فرصة لحضور مماثل استفاد منها كل الذين هاجموه، فهم وجدوا ذلك طريقا للشهرة وتسجيل مواقف ما، قد تعليهم في نظر البعض.. أو في نظر الوزير!.
وقبل سنوات من إصدار الجريدة، كانت هناك «بروفات» لها، تمثلت في مجلة/ جريدة - لم تصدر - اقترحها الوزير، واختار الكاتب «أنيس منصور» رئيسا لتحريرها، وقرر رئيس التحرير «أضواء المدينة» اسما لها.
عبر ما يقرب من 15 عاما عرفت في عشر منها «فاروق حسني» واقتربت منه، تعودته يمتلك مصنعا للأفكار، يوزعها - ربما كل يوم - دون أن تفهم هل - ومتي - ستنفذ أم لا؟، وكان هو الوحيد الذي يعرف أيها سينفذه، بقدر تأكده من أن كثيرا من «الأفكار» ترتدي ثوب التنفيذ في عقول - وعيون - يعينها «النسيان» علي الحياة، ويشغلها القول عن الفعل.
ومن بعد «أنيس منصور»، فكر الرجل في الكاتب والناقد رجاء النقاش ليرأس تحرير «مجلة» واختير «سمير غريب» مديرا لتحريرها، الذي أشعر من علم بأمر إصدار المجلة أنه تنازل كثيرا عندما وافق علي ألا يكون رئيسا للتحرير، وطلب مني الوزير أن أصعد «إلي فوق» حيث مكتب سمير غريب - الذي تنازلت وشغلته بعدها بسنوات! - في الطابق «البين.. بين»، وأقصد ما بين الدورين الأول - حيث مكتب - الوزير، والثاني الذي يشغله معظم الموظفين الإداريين العاملين بمكتبه، وكان وراء اقتراح الصعود أن أعمل مع «سمير» في تلك المجلة التي لم تصدر.. لحسن حظ الجميع.
ومضت سنوات، وجري حديث آخر مع «رجاء»، ومضت سنوات أخري وأصبح «الكلام» ورقا مطبوعا حمل تصورا لمجلة «القاهرة» التي اختار الوزير اسمها، و«رجاء النقاش» رئيسا لتحريرها من دون سمير غريب هذه المرة!.
جرت كثير من جلسات العمل بخصوص هذه المطبوعة، وكلما كانت تتبلور فكرة لدي الوزير يتصل برئيس التحرير أو يستدعيه، واتسعت دائرة من عملوا بالإصدار الجديد، وعمل الوزير علي هذا الاتساع بصورة ما، وتحقق ما وراء القصد وكثر «المشتاقون» والمتسائلون.. إلي.. وعن «المطبوعة».
وتحدث الوزير معي كثيرا حول هذا الأمر، كنت أستمع دون إبداء رأي، فلم يكن مطلوبا مني ذلك، وكنت علي علم - شبه يومي - بالاستعدادات للإصدار، واختار «رجاء» طاقم العاملين معه، ومعظمهم كان الوزير لا يعرفه، وبعضهم ربما يعرفه بالاسم فقط، أو قابلهم في مناسبة ما.
وعند اقتراب الفكرة من بدء المراحل العملية لتنفيذها كان الوزير مصمما علي أن تصبح «المجلة».. جريدة بالاسم نفسه.. «القاهرة»، فوقع كلمة.. «جريدة» يلفت الانتباه نحو صورة ذهنية أوسع، ذاكرة تحمل صور.. «كلام جرايد».. «الجرايد كتبت».. مكتوب في «الجريدة الفلانية»، لكن الوزير كان يفضل الاسم الفرنسي - الأصل - «جورنال»، وأحيانا يحلو له استبدال «النون» «باللام» في نهاية الاسم.
كان «رجاء» قد أعد «بروفات» لمجلة «القاهرة»، وحسب تعبير الوزير:.. قلت له كثيرا يا أستاذ «رجاء» أنا عاوز «جورنال».. لا «مجلة».
وقبل صدور بروفة العدد «الزيرو» - ظل «زيرو» دائما - كان رئيس تحرير جديد قد دخل إلي الحلبة، وعرض «رجاء» العدد «زيرو» من «المجلة» علي الوزير، وحسب قول الأخير فإنه انفعل، وأعاد القول:.. عاوز «جورنال».. لا.. «مجلة»، وربما منذ تلك الجلسة بدأ حماس «رجاء» يفتر تجاه علاقته «الإعلامية» مع الوزير وإن كان الاحترام الشخصي الشديد لم ينقطع بينهما حسب ما شهدت وسمعت من الوزير، أو ما تناقل إلي عن الأستاذ «رجاء» لأنني لم ألتقه قط حتي كتابتي لهذا الكتاب.
قبل حوالي (8) شهور من إصدار جريدة القاهرة في (9) شارع حسن صبري بالزمالك، كان الكاتب «صلاح عيسي» قد نشر مقالا - في جريدة «الجمهورية» - تحت عنوانه المعروف «مشاغبات» يدافع فيه عن سياسة الوزير، وبالتحديد ما تعلق بالحديث عن نقل محتويات «متحف الفن الإسلامي» من مكانه في «باب الخلق» إلي «القلعة».
في هذا الوقت كان هناك فريق معتاد، يعارض كافة أفكار وسياسات «فاروق حسني» التي يدير بها «الآثار»، ومسيرة جميع «أبطال» هذا الفريق مع الوزير حافلة «بالأهداف» و«التسللات» و«الفوز» أو «الخسارة» للخصمين، فمن نجوم الفريق من كان علي وفاق وتعاون - سابق - مع الوزير، ومنهم من أصبح كذلك في وقت ما - لاحقا -.
وتجلت الموضوعية في تلك «المباريات» عبر الدعم المادي الذي قدمته وزارة الثقافة لجريدة «أخبار الأدب» بطلب من رئيس تحريرها «جمال الغيطاني»، وكان هذا الدعم هو السبب الرئيسي في الموافقة علي أن تصدر الجريدة وأن يرأس «الغيطاني» تحريرها، حيث كان التعاقد - بين الجريدة وصندوق التنمية الثقافية - يوفر عشرات الآلاف «لا أريد ذكر عددها لعدم إحراج أو تكذيب أحد!» من الجنيهات لـ «أخبار الأدب» في مقابل نشرها للفنون والثقافة، اللذين هما من صميم عمل «وزارة» الثقافة، وكان يظهر ذلك جليا علي صفحات «أخبار الأدب» وبخاصة علي «غلافها» الأخير، وهو يحمل شعار «وزارة الثقافة - صندوق التنمية الثقافية» فيما بعد استبدلت بإعلانات «أجمل وأجمد رنات الموبايل» بإعلانات التنمية الثقافية، وفجأة توقف الدعم من هنا، ومن هناك، وعلمت بوجود خلافات بين «سمير غريب» - مدير الصندوق وقتها - و«الغيطاني» - رئيس تحرير «أخبار الأدب» - رغم أن الاثنين تربطهما علاقة أخري بالثقافة، فالأول كان صحفيا في مؤسسة «أخبار اليوم» كتب في قضايا الثقافة والأدب، والثاني رأس «أخبار الأدب» عندما كانت صفحة أسبوعية في جريدة «الأخبار».
وفي ظل التبدلات نفسها كان الوزير يدلل دائما علي حياده بفوز معظم أعضاء هذا «الفريق» بجوائز الدولة التي يمنحها «المجلس الأعلي للثقافة» ويرأسه وزير الثقافة.
ولا أريد التوسع في الحديث عن هذا «الأمر» في تلك العجالة، فقد فصلته في كتاب آخر يلي صدور هذا الكتاب.
لكنني أوردت حديث هذه الخلافات لعلاقته «الشرطية» بجريدة «القاهرة»، فقد لفتت «المشاغبات» المشار إليها انتباه «الوزير»، وتزامنت تلك المشاغبات مع «مشاغبات» أخري كانت مقررة سلفا.
فقد تم الإعلان عن ندوة «بنقابة الصحفيين» - بمقرها المؤقت خلف قسم الأزبكية - يحضرها الأساتذة والدكاترة: نعمات أحمد فؤاد، علي رضوان، جمال الغيطاني، محمد الكحلاوي،.. وغيرهم ممن يتفقون معهم في رأيهم المعارض لرأي وزير الثقافة بنقل مقتنيات متحف «الفن الإسلامي» إلي القلعة.
أثناء ذلك كانت هناك استعدادات علي الجانب الآخر، فقد أعدت الوزارة «ملفا» يحمل مستندات تؤكد تأييدا سابقا لها من جانب معارضيها المشاركين في هذه الندوة وتحدث الوزير معي بخصوص «مشاغبات» صلاح عيسي، ودورها المساند، من كاتب لم يلتقه شخصيا، وإن كان - بذلك - قد تلاقت أفكارهما وغاياتهما.
وتطرق الحديث إلي تأثير الحضور «الشخصي» لتلك «المشاغبات» في ندوة النقابة، وكان الأستاذ «سامي خشبة» من أوائل من ساعدوني عند بداية - محاولات - عملي محررا «بالأهرام»، وفي فترة تلك الندوة كان منتدبا - في غير أوقات العمل - رئيسا لـ «البيت الفني للمسرح»، وأشرت علي «الوزير» بأن يقترح «سامي خشبة» علي «صلاح عيسي» حضور هذه الندوة، وهو ما حدث.
وزيادة علي «الحضور»، صعد «صلاح» إلي المنصة ودافع بانفعال شديد عن «الوزير»، وقال عبارات.. كررها بصور مختلفة في مقالات لاحقة.. مثل (لماذا يعتبر الكثيرون وزير الثقافة الحالي «حيطة مايلة»؟ هل يجرؤ أحد علي مهاجمة غيره من الوزراء؟ هل كان أحد يجرؤ علي مهاجمة وزراء ثقافة سبقوه.. مثل «ثروت عكاشة».. «عبدالقادر حاتم».. «فتحي رضوان»..) ولاقت الخطبة تصفيقا حارا من جمهور القاعة الذي كان كله من موظفي الوزارة، بالإضافة إلي مالا يتجاوز 20 صحفيا (!)، وسعدت بدفاع الكاتب «المعارض جدا» صلاح عيسي عن الوزير، وكان الأخير يتابع الندوة «علي الهواء» من خلال تليفونات - كثيرة - «محمولة» - من بينها تليفوني - داخل قاعة «النقابة».
فقد كان - ولا يزال - «صلاح عيسي» في نظري، كاتبا من طراز نادر، يمتلك قدرة علي الكتابة الساخرة الرصينة الموجعة، وبخاصة نفاذه إلي «التاريخ المصري الحديث»، وخروجه منه بمقالات وكتب صنعت «الهوي» والتكوين الثقافي لأجيال كنت فردا منها، ولم أتوقع أبدا أن تتاح لي «فرصة» أن أتعلم الكثير منه، عندما عملت معه، بعد هذه الندوة بشهور!.
في ليلة ما كنت جالسا في «مقهي» بجوار «نادي الصيد» ومعي بعض الأصدقاء، رن هاتفي المحمول، ظهر رقم تليفون منزل الوزير، خرجت بعيدا عن «صخب «المقهي» إلي صخب أقل في ركن من الشارع الموازي، تحدث معي في شأن جريدة «القاهرة»، فهمت أن في أفقها تبدل عندما سألني - كأنه ابتكر شيئا -: إيه رأيك لو «صلاح عيسي» يبقي رئيس تحرير «القاهرة»؟.. طرت من الفرح، فحبي الشخصي «لفاروق حسني».. شديد، خاصة لدي كل شدة يواجهها، فهو إنسان ظل دائما يقف معي - كأخ كبير - في كل شدة واجهتها، ولحظة إجابتي عن سؤاله، اجتمع في داخلي شعوران:
الأول: أن صديقي الكبير سيجد عقلا كبيرا وقلما مؤثرا، وشخصا شريفا، يسانده، ويقف في صفه، الذي كنت أود له أن يقوي.
الثاني: أن تتاح لي فرصة للتعرف علي «صلاح عيسي» عن قرب - لم يكن مطروحا ساعتها أن نعمل معا - باعتبار أنه سيعمل في جريدة «القاهرة» وسيلتقي الوزير، وبطبيعة الحال سأكون متواجدا.
.. وكانت إجابتي عن سؤال الوزير هي بالفرح، وبالنص: «.. يا ريت يا فندم، بس هو يوافق»، فقال الوزير - سعيدا -.. «خلاص يا سيدي، قلنا له، وقال إدوني فرصة أفكر، وهيوافق».
وقضيت الليلة مع «صديقي» علي «المقهي»، سعيدا، ولم ينقطع حديثنا عن هذه «الخبطة» التي ستدوي، وتفرح «صديقي الكبير» كوزير للثقافة، فقد كان لقلم «صلاح عيسي» تأثير واحترام كبير في الأوساط السياسية والثقافية داخل مصر، وفي كثير من البلدان العربية، فالرجل كان صاحب مواقف سياسية وطنية، كلفته سجنا، وحربا في رزقه، وتشريدا من العمل، ومنعا تاما - في أحيان كثيرة - من الكتابة، بالإضافة إلي حضوره القوي بين الصحفيين، عبر تلك المواقف، وعضويته لمجلس النقابة، كما أن عمله مديرا لتحرير جريدة «الأهالي» وكتاباته فيها - «الإهبارية» - صنعت له شعبية واسعة بين آلاف القراء
هذا الرصيد الضخم سيضاف إلي دائرة عمل «الوزير» ونشر أفكاره وسياساته؟.. سألت نفسي؟ ولم أتوقع - بأي حال - أن تكون الإجابة - خلال يومين - هي «نعم» علي لسان الوزير!.

lt;lt;lt;
أما المقال الثاني الذي كتبه «صلاح عيسي»، وفرح به «الوزير»، فنشره في «الأهرام»، وهي من المرات القليلة التي توافق «الأهرام» علي أن تنشر له مقالا، رغم التقدير - الطبيعي - الذي يعرفه «الأهرام» له ككاتب كبير، لكن آراءه لم تكن الجريدة لتوافق علي نشرها غالبا، وإن تم ذلك فهي أحيانا لا تنشر كامل المقال، خاصة إذا حمل فقرات - أو كلمات - حادة في معارضتها، حمل المقال عنوانا.. «هذا أو الكارثة» وأتذكر أن الوزير كان يتعرض وقتها لحملة - استمرت فترة طويلة - شرسة من جريدة «الشعب» التي كان يصدرها - وقتها - حزب العمل، وعقب إجراء الحزب تعديلات علي كوادره، تم إسناد رئاسة تحرير الصحيفة إلي «مجدي أحمد حسين» بدلا من الكاتب الراحل «عادل حسين» - كانت المرة الوحيدة التي شاهدت فيها دموع «صلاح عيسي» عندما أبلغني في مكتبه أن «عادل حسين» قد توفي وتوقع كثيرون أن تخفف «الجريدة» من نقدها - المتجاوز كثيرا - للحكومة، إلا أن العكس كان هو الصحيح تماما.
وتعرض «فاروق حسني» و«يوسف والي» لأعنف الحملات من جريدة «حزب العمل»، واتهمت الأخير بدعمه للتطبيع والتعاون مع إسرائيل، ووصلت الكتابة حد «السب والقذف».. ورفع «والي» قضية ضد الجريدة، وجاء الحكم لصالحه، وفي نهاية ضيق النظام بالجريدة توقفت عن الصدور لكن قبل توقفها لم تتوقف عن مهاجمة «فاروق حسني» بصورة كانت «مقززة» في بعض الأحيان، إذ أصبح النقد يتضمن ألفاظا - بالفعل - تخدش النفس واحترامها، ولا أستطيع اقتباس هذه الفقرات التي لا أنساها من أحد مقالات «مجدي أحمد حسين» ناعتا فيها «فاروق حسني» بألفاظ، تذهل من أن تخرج من لسان - أوقلم - «مجدي»، فهو شخص رقيق مهذب، من عائلة لا يختلف أحد علي علو مكانتها الوطنية والأخلاقية، والحاصل أن «صلاح عيسي» كتب نقدا لـ «سلسلة» المقالات التي واصل فيها «مجدي» تهجمه علي الوزير، وعقب نشر ما كتبه «صلاح عيسي» توالت ردود الأفكار والكتابات المؤيدة له، خاصة أنه اختار بعض العبارات والكلمات والأوصاف التي وصفت بها «الشعب» فاروق حسني.
وفور نشر المقال، كانت النسخ الأولي من أعداد «الأهرام» تصلنا في «الأهرام المسائي»، حيث كنت أعمل، قبل طرحه في الأسواق، قرأته في التليفون للوزير، والذي اتصل علي الفور بالكاتب الصحفي «إبراهيم نافع» رئيس تحرير الأهرام - كان وقتها نقيبا للصحفيين - وأبلغه أنه سيتقدم بشكوي للمجلس الأعلي للصحافة وللنقابة وبالفعل ذهب الوزير إلي مجلس الشوري، والتقي رئيسه «مصطفي كمال حلمي»، وقابلته عقب عودته من اللقاء وكان سعيدا بالمساندة القوية التي لقيها من أعضاء المجلس ورئيسه و«نافع».
وفي إحدي المرتين الوحيدتين اللتين زرت فيهما منزل «صلاح عيسي»، أنه بعد إرساله مقاله إلي «الأهرام» اتصل بالدكتور أسامة الغزالي حرب - كان رئيسا لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية - ليتوسط لدي «إبراهيم نافع» لأجل الإسراع بنشر المقال في هذه الأجواء المحمومة.

lt;lt;lt;
دائما يعتمد «فاروق حسني» علي حدسه - وخياله - كفنان، ورغم صدقهما إلا أنهما لا يتحققان في بعض الأحيان علي صفحة الواقع.
فقد كان «اللون» أول وأهم ما شغله تجاه جريدة «القاهرة»، وعقب اختيارات كثيرة بين ألوان، لم تكن - واقعيا - موجودة في أي مصنع ورق صحف في العالم، استقر علي ورق ملون «لونه بصلي» اشتهرت به بعض الصحف في ذلك الوقت، كان قراره أن تصدر جميع صفحات الجريدة بهذا اللون، ولم تستطع مطابع «الأهرام» - حيث كانت تطبع - توفير هذه النوعية - باستمرار - للقاهرة نظرا لارتفاع سعرها، واستحالة استيرادها خصيصا لـ «القاهرة»، وبالفعل صدرت بعض النسخ من العدد الأول للقاهرة في هذا الورق الملون الجميل، لكنها كانت - فقط - للذكري، إذ استمرت تطبع علي الورق العادي، وكانت - في بداية اهتمام الوزير بها - جميع صفحات الجريدة تطبع بالألوان، وكلما تراجع الاهتمام، كانت تنحسر الألوان عن بعض الصفحات، إلي أن وصل «الجزر» اللوني - بفتح الزاي - إلي جميع الصفحات، وتم إنقاذ الصحفتين «الأول» والأخيرة من بحر الأسود والأبيض!، والحال نفسها تعرض لها، عدد الصفحات، فقد كان الاتفاق - قبل صدور العدد الزيرو - علي إصدار الجريدة في (18) صفحة، ثم تحمس الوزير لإصدارها في (28) صفحة وهو ما استمر لسنوات وانتهي الأمر إلي 24 صفحة، وكان السبب المعلن دائما هو خفض النفقات، في ظل انخفاض - وفي معظم الأحيان تلاشي - الإعلانات، وارتفاع تكلفة العدد الواحد (120 ألف جنيه شاملة تكاليف الطباعة والتوزيع وأجور ومكافآت العاملين) - وفقا لأوراق الجريدة الرسمية 2002 - وهو ما جعل عدد الصفحات (24 صفحة)، وبحساب آخر.. تكلفة العدد الواحد من «القاهرة» 5.6 جنيهات، 80 ألف جنيه مكافآت ومرتبات شهرية، سعر بيع العدد «جنيه» واحد.
- مثال -.. مكافآت العاملين من خارج الجريدة في شهر مايو 2002 هي 36.1164 جنيها في هذا السياق أذكر أن الوزير قال لي إنه متحرج من «رجاء النقاش»، إذا بدأ «صلاح» العمل في «القاهرة»، وأضاف:.. («رجاء» حساس جدا.. ويمكن يفهم إن احنا مش عاوزينه)، من جانبي حاولت إزاحة أي هاجس لدي الوزير قد يعرقل التحاق «صلاح» للعمل معه، وأوضح له أن العلاقة بين الكاتبين الكبيرين جيدة، وأن «رجاء» معروف أنه من أوائل الذين دعموا «صلاح» وتقدموا به علي المستويين المهني والشخصي، - شقيقة «رجاء» الكاتبة الصحفية «أمينة النقاش» هي الزوجة الثانية لصلاح عيسي -، واطمأن الوزير لذلك، وبدأ «صلاح» و«رجاء» يعملان «معا» في «الظاهر»، لكن العكس كان هو الصحيح في «الباطن»، واستمرت هذه المرحلة لفترة قطعها «رجاء» بحدسه وحساسيته فتقدم باستقالة من رئاسة تحرير «القاهرة» التي بدأ يحولها - بناء علي طلب الوزير - إلي جريدة، ورفض الوزير قبول الاستقالة - أو هكذا قال - لكن «رجاء» كان مصمما عليها، وأعتقد أن الوزير، حزن لغضب «رجاء» نظرا لحبه له وتقديره لمكانته ومشاعره، فضلا عن رغبته فيما لو تعاونا معا «صلاح» و«رجاء»، لكنها رغبة لم يساعده كليهما علي تحقيقها الأول بتقديمه «تصورا» شاملا للجريدة، والأخير بتصميمه علي تصوره وصدمته بأنه كان آخر من يعلم بما كان يقدمه «صلاح» من تصورات وأفكار بهرت الوزير، وجعلته مصمما علي أن تصدر بها «القاهرة»، وكان «صلاح» قد قبل في البداية أن يتعاون مع «رجاء» بأي صورة يرتضيها، باعتبار أنه أستاذه، ورئيس تحرير الجريدة، وعرض عليه أن يكون مديرا للتحرير بالإضافة إلي الكاتب «طلعت الشايب» الذي اختاره «رجاء» للمنصب نفسه، وعقب أيام قصيرة بدأ الوزير يفكر في إتاحة دور أكبر لـ «صلاح» داخل الجريدة، وسألني: كيف يكون له دور أوسع دون أن نحرج «رجاء» أدبيا؟، فاقترحت عليه أن تصدر «القاهرة» برئاسة تحرير «رجاء النقاش وصلاح عيسي»، وأزاح - فيما بدا لي - الاقتراح هما لدي الوزير لكن «الفصل الأخير» كان دمويا، وأطاح بأي توقع لإمكانية بقاء الأستاذ «رجاء» في «القاهرة»، وهو فصل أعترف بأنني أشعر بالخجل الشديد، ولن أسامح نفسي لمجرد أنني كنت علي دراية به، فما بالك وأنني شاركت في إدارته وإخراج جزء كبير منه، وللحق فلم يكن للأمر أية علاقة بالأستاذ «رجاء» الذي كنت أقدره، لكنني وجدتني منجرفا وسط «إعجابي بـ «صلاح» وفرح «الوزير» به، فكان أن أبلغ الوزير «رجاء» باليوم الذي سيقابله - وصلاح - لاستعراض «البروفة» النهائية للتصور الجديد «للمجلة» بعد أن أصبحت جريدة، وعرض الوزير أمامي «ماكيت» - المخدوع -، للجريدة، وقال إن شابا موهوبا هو الذي أعده، ومثلما لم يعلم «رجاء» بالموعد الجديد لعرض «الماكيت»، لم يكن الوزير يعلم أن شابا موهوبا - زميلا لي بـ «الأهرام» كلفه «صلاح» بإعداد «ماكيت» - سري - فوجيء به الوزير وهو يستعرضه متباهيا وسعيدا أمام «أدونيس» و«أحمد عبدالمعطي حجازي» مساء في إحدي قاعات المجلس الأعلي للصحافة، وعاد «صلاح» إلي منزله - لأول مرة - رئيسا وحيدا - لتحرير القاهرة، واتصلت به مهنئا،ورد التهنئة بعبارة بدا كأنها «آنسر ماشين».. «البركة فيك.. يا جميل»، وهو رد كلما أتذكره الآن، أشعر بأنني قمت بعمل «مُشين»؟!.
صباح الثلاثاء (18 أبريل عام 2001)، صدر العدد الأول من جريدة «القاهرة»، وبدت مزهوة بعدد من نياشين، ومشاهير الكتاب، معلقين علي صدر صفحتها الأولي، وهم - بحسب توالي صورهم علي ثمانية أعمدة.
محمد عودة، محمود السعدني، كامل زهيري، محمد سيد أحمد، أحمد بهجت، صافيناز كاظم، فهمي هويدي، السيد يس، عادل حمودة، عاصم حنفي، محمد سيد سعيد، وحيد عبدالمجيد.
وسبقت الصور عبارة: «.. واقرأ عندنا»، وللحق فإنهم جاءوا «عندنا» عبر طرق شتي، فمنهم من ألح عليه رئيس التحرير، ومنهم من قدموا حبا في «فاروق حسني»، أو في إثر صدي جريدة «رجاء النقاش وصلاح عيسي»، ومنهم من قضي «عموده الصحفي» نحبه سريعا، ومنهم من كان ينتظر، وأحدهم بقي - منذ أول عدد - قطعة ملح في فم - رئيس التحرير - ظل «يقرشها»، سرا، فلم يستطع إعلان مرارته، فقد كان هذا الكاتب صاحب قلم ساخر، وربما ضاق به «صلاح» لهذا السبب، فجريدة واحدة لا يستقيم فيها الود، وهي تضم كبير الساخرين وتلميذه المخلص.. وصلاح عيسي!، فضلا عن حرص الوزير علي محبة هذا الكاتب الجميل، فقبل صدور «القاهرة» بفترة طويلة، اتصل بي الوزير صباحا، وسألني: هل تعرف «عاصم حنفي»؟، فأجبت: أعرفه شخصيا.. لأ، لكنني معجب بقلمه «الساخر»، الذي لا يقلد به أحدا ممن سبقوه، فقال: لقد قرأت له اليوم مقالا في «روز اليوسف»، واضح أنه واع جدا، وجريء، وأسلوبه مدهش.. شوف لنا تليفونه، علشان أكلمه أحييه، ولم يكن لدي - حتي - تليفونه، واتصلت بصديق لي في «روزا»، وأعطاني رقم تليفون «عاصم»، وسألت صديقي:
(.. «عاصم» ممكن يفهم مكالمة الوزير خطأ.. ولا إيه، أنا باقرأ له من زمان، بعدين يقولك.. وزير وحكومة.. ودي شبهة.. وحاجات كده؟، فقال صديقي: لا.. لا، «عاصم» مهذب جدا و«جدع» وجريء، وبعدين دا.. واحد قرأ «مقاله» وعجبه، وهيبلغه إعجابه، وشكرا) واتصلت بالوزير، وأعطيته رقم التليفون، وبعد يوم أو اثنين، وبعيدا عن سياق حديث كان بيننا، أبدي إعجابه الشديد بـ «عاصم» وقال: دا.. راجل شريف ودوغري وجريء، ونسيت الموضوع ولم أعرف - وقتها - إن كان علي اتصال بـ «عاصم» أو.. لا، ولم يستوقفني اسمه - بعيدا عن «آخر صفحة» في «روزا» -، سوي وأنا أسمع الزميل «بلال فضل» يعترض بشدة بعدما استعرض رئيس التحرير أمامنا أسماء الذين اختارهم كتابا للأعمدة في «القاهرة»، وكان حاضرا لهذه المناقشة الزميل «حمدي عبدالرحيم»، وأدركت أن هناك شيئا ما لا أعرفه - حاول الأستاذ «صلاح» تهدئة هذا الاعتراض، والتدليل علي أن «عاصم»، «راجل كبير»، فقد كان الحوار يدور حول كونه (.. لسه بدري عقبال ما يكتب عمود أسبوعي).. واندهشت من طبيعة الحوار، فالرجل كان يكتب مقالا - أسبوعيا غالبا - في «روزاليوسف» وغيرها من الجرائد والمجلات المعروفة، وجريدتنا مازالت مجهولة.. لأنها لم تصدر بعد، وكان «رئيس التحرير» - غالبا - يبدو في الظاهر مغايرا لما قرره في داخله، وكان يسمع للجميع، مهما علا صوتهم وانخفض «عمرهم» وقدرهم، وسمعت خلال حديث اسم «الوزير» ولا أتذكر - بدقة - إذا كان السياق.. «أن الوزير رشحه».. أو غيره من السياقات، لكن الأمر انتهي بصور الكتاب في العدد الأول، ومن بينها صورة «عاصم» ولم يكن هذا الخلاف «المضحك» هو الأخير، إذ أن عددا من الأعمدة اختفت من علي صفحات «القاهرة» تباعا منها أعمدة الأساتذة: محمد عودة، محمود السعدني، فهمي هويدي، صافيناز كاظم، عادل حمودة.. وإن كان بعضهم عاود الكتابة، ولكل قصة الذهاب أو الـ «عودة»، فالأستاذ «عودة» توقف لأن مقالاته كانت تختصر بانتظام، ومن جانب «القاهرة» كان الأمر مجهدا، فلا أحد لديه وقت ليختصر!، كان «رئيس التحرير» يقوم بهذه المهمة في البداية، وبمرور الوقت كنا نبحث عن أحد «فاضي» يقوم بها، فضلا عن أن «العمود» يكلف «الجريدة» وقود وجهد سائق «الموتوسيكل» الذي يتم اختصاره - هو الآخر ! - ولم أكن التقيت أبدا بالأستاذ «عودة»، ولم أتشرف بمعرفته إلا بعد شهور عديدة من صدور «القاهرة»، فقد كان «رئيس التحرير».. يحوله «تليفونيا»، علي مكتبي أو مكتب سكرتارية التحرير، عندما يسأل «الأستاذ» عن سبب اختصار «عموده»، أو الموضوعات الكثيرة التي كان يرسلها ولا تنشر، وكثير منها ظل طوال أكثر من 3 سنوات في أدراج مكتبي، وبالطبع لم يكن «عودة» يعرف سوي اسمي، وكانت تلك المعرفة نادرة، وهذا أمر طبيعي بين أستاذ لأساتذة أجيال، وصحفي مبتديء، ورغم أنني كنت أسمع أن اختصار «عمود» صحفي «جريمة» إلا أنني كنت أرتكبها عندما يسند إلي تنفيذها.. بدم بارد، فالأمر أصبح قاعدة، والشاذ إن لم يعترض - أبدا - «أحد» عليه يصبح قاعدة، والقاعدة التي وضعها «رئيس التحرير» - بخفة دم - أنه: (يوم الـ «أحد».. محدش بيكلم «حد»)، فهو علي وشك الانتهاء من تحرير الجريدة، وإرسالها إلي مكتب فصل الألوان، ومنه إلي مطبعة «الأهرام»، والجريدة ملتزمة بموعد مقدس تضعه المطبعة، إن تأخرنا عنه، يتأخر توزيع الجريدة، وتتأخر أشياء أخري كثيرة، وبالفعل كان «رئيس التحرير» هو أكثرنا قلقا، وانشغالا كل «أحد»، فقد كان يقوم بأعمال كثيرة، يكتب عشرات الأخبار للصفحة الأولي، وأخبار صغيرة للصفحات الداخلية، والافتتاحية، ومقالات أخري قد تقتضي المستجدات أن يكتبها بالإضافة إلي مقاله الأسبوعي، وغالبا كانت الأعمدة هي آخر المواد الصحفية التي تصل إلي الجريدة، ومعظمها يصل صباحا - وأحيانا - عصر يوم «الأحد» وكان ذلك يعتبر «مأساة» تربك سير العمل، وأتذكر أن أكثر الكتاب انتظاما بموعده - وربما قبل الموعد: فهمي هويدي، صافيناز كاظم، محمد السيد سعيد، السيد ياسين، وحيد عبدالمجيد، عاصم حنفي، عادل حمودة.
أما «أساتذة الجميع» من كبار الصحفيين، فكانت لعلاقتنا بأعمدتهم طقوس معلومة، الأستاذ «السعدني» لابد أن تذكره مرة واحدة في أي يوم «بالعمود» وما هي إلي ساعات - أو يوم - ويتصل بك لإرسال من يتسلم «العمود» وذلك عندما يتعذر تواجده في مكان به «فاكس»، أو أثناء رحلته السنوية إلي «لندن»، وأتذكر وهو في قمة نوبات المرض والألم التي داهمته، أنني كنت أتصل به في «لندن» وخلال وقت قصير يصل «العمود» إلي القاهرة، وفي معظم الأحيان كان «عاصم حنفي» هو كلمة السر إلي الوصول إلي «السعدني»، والأمر نفسه مع الأستاذ «أحمد بهجت»، فهو ينام نهارا حتي وقت متأخر، لكن لابد من الاتصال بخادمة المنزل وسؤالها: هل ترك الأستاذ «عمود» القاهرة؟ وأحيانا تكون الإجابة «نعم».. أو «ما اعرفش والله الأستاذ نايم»، وبالإلحاح و«الغلاسة» توقظ «الأستاذ» ويسرع «الموتوسيكل» ويحضر «العمود» بسطوره المكتوبة بالقلم الرصاص.
أما «نقيب النقباء» كامل زهيري، فقد أتاح لي «رئيس التحرير» فرصة لا تنسي عندما أوكل لي مهمة الاتصال بـ «الأستاذ»، فقد كان الحوار معه والذي يسبق طلبي «العمود» الأسبوعي قادرا علي أن ينسيك كل الأعمدة المضيئة والمظلمة في أنحاء مصر، وبالنسبة لي كنت أراه حوارا «تاريخيا» في فكاهيته، وتعبيرات «نقيب النقباء» التي تهز الجبل من الضحك، فضلا عن أنه «كامل زهيري».. تصور أن أحدا مثلي أسعده زمانه «ورئيس تحريره» أن يتكلم ويضحك مع كاتب صنع تاريخا من الكتابة والإصدارات.. وخيال البشر.
غضب «عودة» فتوقف عن الكتابة «عندنا»، ولم نهتم بتدليل - ومن غيره يستحق - «نقيب النقباء» فتوقف لفترة طويلة، إلي أن سألني «الوزير» أكثر من مرّة: هو الأستاذ «كامل» بطّل يكتب في «القاهرة» ليه؟، وذكرت له السبب، فقال: «يا أخي دا.. انتوا تتحايلوا عليه.. خليكوا وراه» ونقلت السؤال إلي «رئيس التحرير»، ويبدو أن «الأستاذ كامل» سمعه بنفسه من «الوزير» فانتظم في الكتابة وانتظمنا في تدليله - شخصيا - كنت أستمتع وأعتز بذلك!.
أما الأستاذ «فهمي هويدي» فقد كان مسافرا، ولم نجد - في منزله - إجابة بخصوص «عموده الأسبوعي»، فنشرنا فقرة من المقال الأسبوعي الذي يكتبه في مجلة «المجلة» السعودية، وحين عودته من سفره، غضب جدا، وتوقف عن الكتابة، وطلب مني «رئيس التحرير» أن اتصل وأحاول الاعتذار كمقدمة لاتصاله هو.. به، لكن «هويدي» كان في قمة الاستياء وتساءل: «ماذا يقول عني القراء؟ يقولوا دا بيعيد نشر مقالاته؟.. كده أنا كأني باستعبطهم»، ورأيته محقا، واعتبرها رئيس التحرير خطأ ليس جسيما، فقد كنا مضطرين إليه، للمحافظة علي استمرار ظهور كاتبا شهير «كفهمي هويدي» «عندنا»، فضلا عن أنها «جاءت.. منه»، فالرجل يكتب أحيانا في اتجاه إسلامي مضاد لاتجاهات الجريدة العلمانية الديمقراطية المستنيرة، ومن المفارقات - بعد فترة - أن «رئيس التحرير» استكتب الدكتور «محمد عمارة»، الأكثر تضادا مع سياسة «الجريدة» وكان «رئيس التحرير» يبدي غضبه من كتابات «عمارة»، ويوحي لنا بضرورة أن نوقف نشر «عموده»، لكنه كان ينشر بانتظام، فقد نسيت منذ البداية أن أذكركم بشعار جريدة «القاهرة».. : «الحرية الحقيقية تحتمل إبداء كل رأي ونشر أي فكر وترويج كل مذهب»، وهي عبارة جميلة «لقاسم أمين» اختارها «رئيس التحرير»، لكنها كانت تطبق وفقا لبعض التطورات والمتغيرات التي تطرأ أحيانا بعد رحيل «قاسم أمين»!.
وأذكر أن الأستاذة «صافيناز كاظم» صرخت في أذني بأننا نكتب شعارا كاذبا، بعد أن توقفت عن كتابة «عمودها» الأسبوعي، وكان للزميل «حمدي عبدالرحيم» مودة خاصة لديها، وحاول كثيرا إثناءها عن قرارها، لكنها كانت غاضبة، وثارت ثورة مكتوبة ومسموعة ضد «رئيس التحرير» الذي رفض نشر مقال لها تعارضه فيه، وكان الأستاذ «صلاح عيسي» قد نشر حلقات مطولة عن الشاعر الكبير «أحمد فؤاد نجم»، وهي من أهم المذكرات التي كتبت عنه، وتطرق «رئيس التحرير» في إحدي الحلقات، إلي الفترة التي سبقت وتخللت وتلت زواج «نجم وصافي»، كما تناولت الحلقة فترة زواج «أبوالنجوم» من الفنانة «عزة بلبع»، ورأت «صافيناز كاظم» في إحدي فقرات «الحلقة» ما يفهم منه - حسب قولها لي -: «أنها كانت «بتصرف» علي «أبوالنجوم» وهو في السجن عندما سافرت للتدريس في العراق.
والحقيقة أن علاقة «صافي» و«نجم» قصة بمفردها، فرغم طلاقهما الطويل إلا أنها ثارت - وتأثرت - له، وكان الأغرب أنها اتصلت بكل من استطاعت الوصول إليه - بعد ذلك بشهور - ومنهم «العبد لله» هلعا من الأزمة الصحية التي تعرض لها «أبوالنجوم» وطلبت مني أن أتصل بالوزير، وعرضت أن تقابله أو ترسل إليه «فاكسا»: تطلب منه الاهتمام بالأمر، ولم تهدأ حتي تم علاج «نجم»، وإدخاله «مستشفي القوات المسلحة» بالمعادي، عقب اتصال الوزير بالمشير «محمد حسين طنطاوي» وزير الدفاع، واهتموا «بنجم» غاية الاهتمام، وكنت دائم الاتصال به في غرفته بالمستشفي، وفجأة قالت لي إحدي الممرضات:.. دا.. ساب المستشفي!، واتصلت به متسائلا: إنت رحت فين يا عم «أحمد»؟، فقال: يا عم.. طفشت، إيه الأبهة دي كلها.. أنا مش واخد علي كده.
لم ينشر الأستاذ «صلاح» تعقيبا للأستاذة «صافي» واعتبره سيثير حزازات، وأنها ستهدأ بعد فترة، ساعتها نعتذر لها، لكنها نشرت مقالها المطول في الأسبوع التالي علي حوالي 8 صفحات في مجلة «نصف الدنيا»، وبعد أكثر من عامين عادت - لا أدري الملابسات - للكتابة في «القاهرة» من جديد.
أما الكاتب «عادل حمودة» فكنت علي اتصال دائم به، وبدا لي أنه لن يواصل الكتابة، عندما - حسب روايته - عرض عليه رئاسة تحرير صحيفة «العربي» الناصري، ثم توقف - وإن لم يقل صراحة إنه السبب الوحيد - مع رئاسته تحرير صحيفة «صوت الأمة» التي يكتب فيها مقاله الأسبوعي بالعنوان نفسه الذي كان يكتب به «عموده» في القاهرة.

lt;lt;lt;
وبعد صور الصفحة الأولي، ظهرت في الصفحة الثانية من «العدد الأول» للقاهرة الأسماء التالية - وفقا لترتيبها في «الترويسة» -:
- المستشار الأدبي.. علاء الديب
- مساعد رئيس التحرير.. محمد عبدالواحد
- المحرر العام.. بلال فضل
- سكرتير التحرير.. حمدي عبدالرحيم
- المحرر العام المساعد.. أيمن الحكيم
- المشرف الفني..محمد الغول وهو الاسم - السري - للزميل العزيز «محمد عبدالرشيد»!
- الأخبار والتحقيقات.. محمد الشافعي
.. وأصابت اللعنة نفسها تلك القائمة «الترويسة»، فاختف منها - تباعا - أسماء «بلال فضل»، ثم «حمدي عبدالرحيم»، ثم «محمد الشافعي» - رغم استمرار وجوده بالجريدة -!، والطريف أن اسم «أيمن الحكيم» - هو الوحيد الذي ظل اسمه موجودا مسبوقا بنفس المسمي «المحرر العام المساعد» رغم رفع اسم ومسمي «المحرر العام» عقب تركه العمل - لأجل أن يتفرغ لكتابة السيناريو، وفقا للصيغة التي كتبها رئيس التحرير بخط يده!، وكنت أداعب «أيمن» دائما.. «انت بتساعد.. مين بالضبط؟».

lt;lt;lt;
وقصة ظهور - واختفاء وإخفاء - الأسماء في «ترويسة» العدد الأول، بدأت باختيار رئيس التحرير للزميلين «بلال فضل وحمدي عبدالرحيم» مساعدين أساسيين له، وكان الزميل «أيمن الحكيم» علي صلة بالأستاذ «رجاء النقاش»، وهو الذي زكاه لدي «صلاح عيسي» ليعمل بعد استقالته من «القاهرة»، أما «الشافعي» فلا أعرف قصة التحاقه للعمل بـ «القاهرة»، لكنني علمت لدي بداية عملي معهم، أنه صديق قديم لـ «الوزير»، وهو الذي رشحه للعمل، ولاحظت أن «رئيس التحرير» يهابه، وقال لي: إن «الشافعي» علي اتصال يومي بالوزير، ويكلمه بندية أمام الجميع في «الموبايل».. لدرجة أنه قال للوزير غاضبا (!).. عندما بدأ توزيع المحررين علي المكاتب، «.. تعالي شوف رجالتك بيعملوا فيهم إيه»!!، والحقيقة أنني اندهشت عندما سمعت هذه «المسخرة»، وسألت الوزير إن كان ذلك صحيحا؟.. فغضب وظل فترة طويلة يرفض أي صلة بـ «الشافعي»، وما أثار استغرابي، أنني أعرف حدود علاقته بالوزير، فمنذ البداية، كنت قد حضرت مع «فاروق حسني» افتتاح «مهرجان الإسماعيلية للفنون الشعبية»، وأمضيت ليلة واحدة هناك بصحبة الأستاذ «حسين مهران» رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة - حينها -، وأتذكر أن زميلي بـ «الأهرام» أحمد البري وكان يتابع أنشطة «الهيئة» هو الذي عرفني بـ «الشافعي»، وطلب منّي الأخير أن أساعده في التعرف علي الوزير ليجري معه حوارا صحفيا لمجلة «الكواكب» التي يعمل بها، وكان يرأس تحريرها - حينئذ - «رجاء النقاش»، وكان ما كان، وأجري الحوار، الذي كان سيتم بسهولة سواء تدخلت أم.. لا، ولأنني لا أهتم بمتابعة تطور علاقات من أعرفهم بمن يعرفونهم، فقد مضت سنوات قليلة فسمعت ما سمعت، واستراح «صلاح عيسي» عندما تأكد من خلالي أن الطرف الآخر علي «موبايل» الشافعي لم يكن - أبدا - الوزير، فـ «آن لرئيس التحرير أن يمد ساقيه» ولم يجد «الشافعي»، سوي مكتب صغير وسط صالة فسيحة مخصصة للمحررين الذين يتعاملون «بالقطعة» مع الجريدة، وكانت الغرف الثلاث المخصصة لفريق العمل المتفرغ للجريدة موزعة كالتالي: غرفة كانت مخصصة للأستاذ «طلعت الشايب»، وبعد تركه العمل مع استقالة الأستاذ «رجاء»، تم تخصيصها للأستاذ «علاء الديب» ولي، ولم يحضر الأستاذ «علاء» إليها قط، لكنني كنت أشعر بشرف كبير لأن اسمه الكبير كان يسبق - مباشرة - اسمي علي «ترويسة» الجريدة وكذلك أجاور اسمه في دليل تليفونات الجريدة، فضلا عن مكتبه وكرسيه الذي تركته شاغرا لسنة، ثم توسعت و«.. اقتبسته منه» بعد أن استأذنت الأستاذ «صلاح» وظلت الغرفة خاصة إلي ما بعد استقالتي بأكثر من شهرين!، وفي الغرفة المجاورة كان يجلس الزملاء «بلال فضل، حمدي عبدالرحيم، ومحمد عبدالرشيد، الغول سابقا»، وتبدلت الأسماء والأحوال، إلي أن ارتقي الأستاذ الشافعي السلم واستقر - لا أدري إلي متي - علي كرسي «حمدي عبدالرحيم»، وإن كان كرسيه «في الترويسة» قد طار فجأة من «الترويسة» وظل مهتما بالأمر لفترة طويلة، إلي أن أصبحت الأمور.. تدعو للسخرية من لعبة الكراسي و«الكنب»، فأصبح الرجل يرتدي كل يوم مسبحة بلون ملابسه أو العكس - لا فرق -، وظلت روح الدعابة لا تفارقه، ولا تفارقنا كلما تحدثنا عن الانقلابات «الكرسية» في الجريدة!.

lt;lt;lt;
بالنسبة لي كنت شخصا.. «غير مرغوب فيه» - وفقا لاسم فيلم أوليفرستون عن ياسر عرفات، وكان أمرا طبيعيا، فـ «الجريدة» في طريقها للإقلاع، وتوقف الجميع عن التدخين وربطوا الأحزمة، وكل أصبح يمني نفسه برحلة سعيدة، فقد توزعت المسئوليات، وكان «بلال» و«حمدي» ثنائيا قديما، تنقلا في عدة جرائد معا، كلها توقفت أو أوُقِفت عن الصدور، وكان الزميل إبراهيم عيسي قد احتضنهما في تجربته «الاستثنائية» جريدة «الدستور»، وكنت أعرف «بلال» فقط، وكنا نتبادل كلمات قصيرة، كلما جاء إلي مقهي «فيينا» بشارع قصر العيني، عندما كنت أنضم أحيانا إلي جلسة رئيس تحريره «إبراهيم عيسي»، وأتذكره حينئذ، دائما مرهق بعد سهر ليل طويل في الاطمئنان علي «أفلام» الجريدة ومتابعتها إلي أن تصل المطبعة، فقد كان «إبراهيم» يعتمد عليه كثيرا كطفل معجزة، نظرا لحداثة سنه وتخرجه - حينها - مقارنة بزملاء كثيرين له عمل تحت رئاستهم أو إشرافهم في «الدستور»، لكنه بالفعل كان يمتلك طاقة كبيرة يجيد توظيفها في عمله، وكتابته، وله أسلوبه الخاص، وإن كان قد اتجه - بالفعل - إلي كتابة «السيناريو» إلا أن أسلوبه وتعبيراته «الصحفية» أثارت الجدل نفسه عندما نقلها إلي السينما.
أما «حمدي عبدالرحيم» فقابلته للمرة الأولي في مكتب «رئيس التحرير»، ويبدو «حمدي» وجها لا يتطابق إطلاقا مع ما في داخله، تجده متجهما إلي أن ينفجر ضاحكا، فتدرك أن للأمر علاقة بسوء تقديرك، وتفسيرك لوجه يسأل السؤال نفسه: من أنت؟! لم يكن مطروحا - إطلاقا - أن أنضم للعمل في «القاهرة»، علي الرغم من كل ما ذكرته سابقا، فالأمر بالنسبة لي لم يتخط حدود معرفتي بصديق وأخ أكبر، بدأ تجربة إصدار صحيفة، وأنا أعمل صحفيا في «الأهرام المسائي»، فأدرت معه عجلة الإعداد لهذه الجريدة، فأنا لم أطلب - بداية - وهو لم يعرض العمل بـ «القاهرة»، وبعد سيناريو «حسن الهلالي» الذي أسهم في أن يصبح «صلاح عيسي» رئيسا لتحرير «القاهرة» ظللت حوالي شهرين (فبراير - أبريل عام 2000) لا أتابع - أو أعرف - إلي أين وصل سيناريو «الهلالي» كنت - فقط - أستمع إلي نداءاته الشهيرة:.. «الأول».. «الثاني».. إلخ.. وفجأة فهمت من الوزير أن الجريدة أوشكت علي الصدور، وكعادته سألني:.. الله.. إنت مابتشتغلش في «القاهرة» ليه؟ شعرت ساعتها أنه فوجيء لأول مرة، بأنني أعمل صحفيا، علي الرغم من ترديده كثيرا، واقتناعي، بصدق أنه يعجبه ما أكتب، مع ملاحظة أنني كنت دائم الانتقاد له فيما أكتب وصفحات كاملة نشرها «الأهرام المسائي» - بعضها كان كل يوم تقريبا - بين عامي 1990 - 2002 تشهد علي ذلك، واستمر الأمر نفسه لكن في جريدة «العربي» الناصري وعدد آخر من الصحف المصرية والعربية، وأشهد أنه كان متحضرا، يعرف أن لكل حريته في إبداء رأيه، ويجبره ذكاؤه الذهبي علي وزن الناس - وما يكتبونه - بميزان من «ذهب».
.. (خلاص أنا كلمت صلاح عيسي.. روح قابله.. واعرض عليه بعض كتاباتك.. هو.. رحب بذلك).. هكذا افتتح الوزير حديثا تليفونيا معي، واستغربت.. صحيح أن «صلاح» لا يعرفني، وربما لم يعرف إنني صحفي من الأصل!، لكن هل يستحق عملي في «القاهرة» كشف هيئة؟ ومن قال أنني أقبل بذلك؟، وهل - فعلا -.. لا يملك الوزير سوي أن «يتوسط» لأحد معارفه من الصحفيين ليعمل في جريدته؟.. فيما بعد أصبحت إجابة السؤال الأخير «نكتة»؟!.
اتصلت بالأستاذ «صلاح»، طلب أن أقابله - بناءعلي اقتراح الوزير -، طلب أن أزوره في «الجريدة» - غدا - اقترحت أن أزوره في منزله، طالما في الأمر امتحان!، حتي يكون الأمر غير محرج، فربما أرسب في الامتحان أمام أعضاء لجنة الاختبار الصحفي.
قطتان تعانيان من بعض جرب، ممر طويل شبه مظلم في نهايته طبق به بقايا طعام انشغلت به القطتان عني وأنا أدوس علي زر جرس، بعد فترة قصيرة كان الباب مفتوحا، و«صلاح» مرحبا بابتسامة، في غرفة أشبه بمكتبته - أو العكس - جلسنا، أعطيته عددا من الجرائد والمجلات التي سبق ونشرت لي مقالات وموضوعات صحفية، تناولها وقال:
يا سيدي الوزير معجب بكتاباتك أنا هاقرأها، ونتقابل بكره في الجريدة، قدم لي شايا، وتحدثنا طويلا عن «الجريدة»، والآمال التي يعلقها الوزير عليه - هو - شخصيا، كصاحب كلمة مؤثرة.

ولاحظت أنه يبعدني عن كل حديث له عن «الجريدة»، بل إنه حاول ألا يتكلم عما وصلت إليه مراحل إعدادها، واستغربت.. كيف كان حديثه معي حميميا - هكذا تصورت ساعتها - عند ترتيب طريقة للعمل في «القاهرة».. وبين تلك الطريقة المحايدة - والغامضة - التي يحدثني بها.
.. ذهبت صباحا إلي الجريدة، في المبني القديم للمجلس الأعلي للثقافة (9 شارع حسن صبري - الزمالك)، المبني من دورين تؤدي إليهما حديقة صغيرة أنيقة، في مكتب صغير - أصبح مكتب سكرتارية التحرير فيما بعد - كان «صلاح» يجلس خلف مكتبه، بدا سعيدا وسط ضوء خفيف تحيطه به شمس الصباح، أحد الزملاء كان جالسا علي أحد الكرسيين أمام مكتبه، بنفس الحياد تكلم معي قائلا: «قرأت بعض الموضوعات التي أعطيتها لي بالأمس.. كويسة.. إحنا عايزينك تكتب لنا موضوعات هنتفق عليها، في مواجهة حيادية، اختصرت المقابلة سريعا، كنت حريصا علي أن تكون معه أعداد المجلات والصحف التي أعطيتها له بالأمس، وكأنه توقع ما تمنيته، أعطاها لي، وانصرف معي الزميل الذي كان يجلس معنا باعتباره أحد المسئولين في «الجريدة»، تبعني الزميل إلي شارع «حسن صبري»، كنت متوجها إلي شارع مواز له «شارع العزيز عثمان» حيث «آتيليه» الوزير، في الطريق.. اشتكي لي الزميل من سوء معاملة «صلاح» له، رغم علمه بأنه - هذا الزميل - من «رجالة الوزير»، لم يكن لدي مساحة في ذهني لأسخر من هذا الوصف.. «رجالة الوزير»، كنت مشغولا برسوبي في الامتحان، وكيف وضعت نفسي في موقف الباحث عن عمل لدي «رئيس تحرير» كان لي دور في وصوله إلي «شارع حسن صبري بالزمالك»!، ونبهني وصف «رجالة الوزير» إلي أن «صلاح» ربما وضعني - فقط في تلك الخانة، ونسي عملي بالصحافة، وخلط بين معرفتي بالوزير وبين اعتباره لي موظفا في وزارة الثقافة،.. قابلت الوزير لأزف إليه نتيجة الامتحان، فقال لي: «معلش.. هو لازم يبان كده.. وإن الصحافة حاجة وعلاقتك بي حاجة تانية».
وقلت له: أرجو ذلك لكنني أشك أنه «بيمثل» وأن العكس هو الصحيح.. أنا لم أبحث عن عمل في «القاهرة» ولو كنت أريد ذلك لفعلت رغما عنه، ورد الوزير: (.. المسألة مش كده.. إهدأ)، وابتسم تلك الابتسامة التي تشير إلي تندره علي حماسة لم تفاجئه، وانتهت المقابلة علي أن أذهب ثانية إلي «صلاح» واتفق معه علي كتابة موضوعات - علي حد وصفه - لكن بعد أن ركب الوزير سيارته متجها إلي منزله، تحول فكري، وترددت بداخلي صور متتالية، اتجهت إلي مقهي «خزان أسوان» الذي يبعد أمتارا عن «الأتيليه»، وقفز أمامي عناد لم أسع إليه، وقررت أن أقابل الوزير - وليس «صلاح» - صباح غد.

lt;lt;lt;
في مكتبه بشارع شجرة الدر في الزمالك، كان كل شيء كالمعتاد، بعض المقابلات، وبين مقابلتين التقيت الوزير، وكنت حسمت الأمر، وقررت أن أعمل في «القاهرة»، سواء وافق «صلاح» أم لا؟، ليس حبا في ذلك، ولكن لأجعله يتذكر ما كان، وكيف كان.. وفي أي موقع من الصورة كنت أقف حين أصبح - فجأة - «رئيس تحرير»؟.
أبلغت الوزير بقراري، وكعادته قال لي:.. دي حاجة بينك وبينه.. قل له.. روح له دلوقت وشوف هيقولك إيه وتعالي.. لي تاني».. المسافة بين شارعي «شجرة الدر» و«حسن صبري» لا تتجاوز 300 متر، مشيتها بحماس، لم تشغلني الكلمات التي قالها الوزير، كنت فاهما لطريقته عندما يقرر اختبار قدرتي علي تنفيذ ما أردت، دخلت مباشرة نحو مكتب «صلاح»، فوجئت به قد هبط من الدور «الثاني» إلي «الدور الأول»، عرفت أنه كان ينتظر خبرا يقينا، لم يحضر «رجاء» اليوم، فتسلم «صلاح» مكتب «رجاء»، وقابلني بوجه أكثر اطمئنانا وسعادة، دخلت مباشرة إلي صلب الموضوع، بالمناسبة يملك الرجل قدرة استثنائية علي تشتيت انتباهك نحو موضوع تريد مناقشته معه، أبلغته أنني أرغب في العمل - متفرغا - بـ «القاهرة» وبأسرع وقت، ونقلت له ما دار بيني وبين الوزير،.. وجاء رده - عطوفا..! - سريعا:.. بس انت اتأخرت يا جميل.. مقلتش ليه من الأول.. خلاص إحنا رتبنا كل حاجة.. ووزعنا الاختصاصات.. طيب نعمل إيه؟، وصمت لدقيقة وقال:.. طيب سيبني لبكره أفكر، لكنني طلبت منه - بقلق