الشعر الذي كان يصول ويجول في بلاط الدكتاتورية، وفي بلاط المؤسسة الرسمية للثقافة العراقية، خفت على حين غرة إبّان الاجتياح والاحتلال، فانهزمت الثقافة الزائفة كما انهزمت السلطة الزائفة، وهذا ما يستدعي التأمل قليلاً. وقد سقط تمثال هذا الشعر ومعه جوقة من نقاده، مع السقوط التاريخي الشهير لتمثال الرئيس في التاسع من نيسان. كان شاعر البلاط واقعاً في تكرار نماذج القصيدة والأعراف الفنية، ويتخذ من ثقافة العنف وإطراء الحاكم سياسة شعرية على طول الخط، فيما كان ناقدُ شاعرِ البلاط واقعاً في تكرار نماذج القراءة والتفسير، ودأْبه أن يقف عند الزخارف البلاغية الزائفة لهذا الشعر دون أن ينظر إلى مقاصده وغاياته غير الإنسانية، التي كانت تبرر الاعتداء على حريات الناس وحقوقهم. وعندما انهارت السلطة، انهارت معها بلاغة هذا الشعر، وعِلْمُ نقاده. بعدئذٍ، وقف هؤلاء الشعراء والنقاد تحت سماء خالية من نجوم القرّاء، ينظر أحدهما للآخر، دون أن يدري ماذا يقول لصاحبه. وكشف هذا الحدث الكبير سياسياً وثقافياً، عورة الأداء الشعري أمام القارئ، ففي الوقت الذي كانت فيه الصورة الإعلامية تستحوذ على لبّ الناس جمعيهم، كان الشعر لا يملك حتى تلك القوى التقليدية التي كان يتمتع بها في تاريخ الأسلاف. وإذا ما أردنا أن نقارن بين الصورة الشعرية والصورة الإعلامية في نقل ذلك الحدث المريع، فسوف يتسنى لنا رؤية الشعر وهو مستغرق في اللغة ذاتها، يفتش فيها عن الحدث. وبما أنّ للغة ذاكرة بلاغية غيرمحدودة، فالشعر بوسعه أن يصنع حدثاً فريداً، ربما ليست له صلة بالحدث الأصلي، منصاعاً في ذلك إلى وطأة الشهوات البلاغية الطاغية. الشعر لا يقوم بتحديث تقنياته تحديثاً واقعياً، يضع في حسبانه قارئاً يتصوره حاضراً في كلّ زاوية من زوايا الشعر، وإنما صار الشاعر العربي المعاصر يشيّد مملكة لحداثة وهمية ويسكن فيها، فيما يظل القارئ واقفاً خلف سياج شاهق. وربما يحقق الشاعر في ذلك سكرة وهمية يتعالى فيها عن الواقع، وتمنحه لذة التسامي الكاذب. وفي الجانب الآخر، لا تدع الصورة الإعلامية شاردة ولا واردة تفوتها دون أن تتنازل عن تساميها، وتدع الحدث يروي نفسه بنفسه. فكم من مرة نشاهد فيها صحفياً لامعاً يتنازل فيها عن خبرته في سرد الحدث، إلى أناس من العوام لا يحسنون صياغة العبارات، لكنهم الأكثر اقتراباً من روح الحدث؛ لأنهم جزء منه ومن ذاكرته. لكنّ الرغبة في التواصل القوي مع المتلقي الإعلامي، تسوّغ هذه الطريقة في التعامل مع الحدث.
لا شكّ في أنّ هذه المجاورة بين ( الشعر) و ( حدث احتلال بغداد ) تفصح عن حدوث جفوة بينهما على أرض الواقع. حتى أنّ السواد الأعظم من القرّاء، يرى أنّ الشعر وسط هذا الحدث الذي هزّ العالم على نحو مدهش، شيء تافه أو لَعِب على زلاجات اللغة، تأخذه ويأخذها إلى جليد فصليّ ساحر سيذوب في فصل آخر، ويتعطّل، فيما بعد، عمل الزلاجات أمام صلادة الأرض الحقيقية. لكنّ الشعر، الذي صنّف نفسه ضمن الأشياء الخالدة، التي لا ترقى إليها يد الزوال، لا يريد أن يكون خارج إطار الصراع الاجتماعي الكبير في السياسة والاقتصاد. ولأنّ هذين العاملين يحرّكان الوعي الاجتماعي بقوّة، فإنّ الشعر ينبغي له أن يلعب معهما بقوة أيضاً، لكي يحظى بالودّ المفقود بينه وبين القارئ. غير أنّ لعب الشعر مع هذين العاملين المثيرين للشغب، لا يعني أنه يتخلّى عن جوهره أبداً، ولكن عليه أن يطوّر أدواته التعبيرية، لكي يندمج بحركة العصر وهي تشقّ طريقها بين عوامل السياسة والاقتصاد.
- آخر تحديث :
التعليقات