"كنت دائماً اظن انني غريب عن هذه المدينة وانه لم تعد لي اية علاقة بكم، ولكني الان وقد رايت ما رأيت فأنني ادرك انني هنا سواء اردت او لم ارد .. ان هذه القصة تخصنا جميعا "
البير كامو "الطاعون"

يقال ان الفن هو مراة الواقع، اذا كان الفن بكافة انواعه يعتبر جزءً من الثقافة فهل يجوز ان نقول ان الثقافة العربية ما قدمه المثقفون هو مرآة للواقع العربي ؟ هل ما يقول المثقفون العرب هو نفس ما يعتقده الفرد العربي ام ان ذلك المثقف يطبل ويزمر لبعض انظمة الحكم ؟ ثم اذا كان البعض يتهم المثقف العربي بانه لا يعترف بالاخر فان الذي يحز في النفس ان لا يعترف المثقف العربي المغربي بالمشرقي او العكس تبعاً لمواقف رؤساء دولهم . ودائماً هناك خيول مسرحة وفرسان على اهبة الاستعداد للانطلاق نحوالمجد كما يتصورون ويكفرون كل من لا يسير في ركبهم، كل واحد منهم يريد ان يصبغ الناس والحياة بصبغه الخاص، ما اجمل ما كتبه اللورد سالزبوري في رسالته الى اللورد "ليتون" نائب الملك الهندي سنة 1877م حيث يقول " لو اني اخذت برايك المتشائم لشرعت على الفور في الاستفسار عن افضل اشكال الانتحار بدون الم، لكن اعتقد انك تفرط في الاصغاء للجند ويبدو ان اعظم عظة يمكن الخروج بها من تجارب الحياة هي الا تثق في الخبراء فلو صدقت الاطباء فلا شيء صحي ولو صدقت رجال الكهنوت فلا احد طاهر ولو صدقت الجند فلا شيء امن، فالكل يطلب منك ان تجرع خمره المعتق مخففاً بمزيج ضخم من الادراك العام الماسخ "(1) المعروف انه هناك نوعان من المثقفين، النوع الاول يحتاجه الاحزاب لتحريك السكون الحاصل داخل البيت الحزبي وللتباهي اما الاحزاب الاخرى بأن الحزب لا يخلو صفوفه من المثقفين، هذه الفئة الاولى هي فئة المثقفين الذين ينتقدون الممارسات اليومية للحزب، هؤلاء في الحقيقة اقرب ما يكونون الى الصحفيين . اما النوع الثاني من المثقفين فهو النوع الذي ينتج النظريات ويخوض في الامور الفكرية والمنهجية، هؤلاء من المستحيل ان يقبلهم الحزب في صفوفه لانهم يعزفون على الوتر الحساس وينتقدون الاسس التي بني عليها اسطورة الحزب .
ان المثقف الحقيقي كالطائر الحر يابى الخضوع لاحد ولا يرتاح الا حين يحلق حالياً ليرى الدنيا على حقيقتها، بينما كل اهتمام الاحزاب ينصب على ان يثبت لنا انه لا يوجد فرق بين المثقف وبين اعضاء الحزب، فكل من ينتمي للحزب هو مثقف، والاكثر ثقافة هو من لديه معلومات اكثر عن الاشياء التي تفيد مسيرة الحزب وتخدمه . هنا يستفيد الحزب مرتين، مرة حين يجعل اعضائه يعيشون في ظل بيئة ثقافية مزيفة، ومرة ثانية حين يغلق الباب بوجه احتمال بروز النوع الاخر من المثقف ذلك النوع الناقد الرافض للواقع والذي يزيل القناع عن وجه الحزب .
الفرق بين الحزبي والمثقف هو ان الحزبي فاعل مفكر " نفذ ثم ناقش" بينما المثقف مفكر فاعل !.(2) وعودة الى المثقف العربي .. نجد هذ الشخصية تهتم بالكم على حساب النوعية في نتاجاته وتحاول بناء المجد الشخصي بكافة السبل، ولا نجافي الحقيقة اذا اخذنا " محمد حسنين هيكل " الكاتب المصري المشهور كمثال فهذا الرجل ناصري الهوى واسس امبراطوريته بمساعدة عبد الناصر وانصب كل اهتمام هذا الكاتب على ملء المجلدات حتى لو كانت المعلومات خاطئة ويعاب عليه وعلى غيره من الكتاب انهم يخوضون في مواضيع وحوادث لا علم لهم بها، حيث يذكر "هيكل" في كتابه " سنوات الغليان" بأن " عارف عبد الرزاق " هو من قاد سرب الطائرات التي ضربت وزارة الدفاع اثناء الانقلاب على الزعيم " عبد الكريم قاسم " وكل عراقي مطلع يعلم ان " منذر الونداوي" هو الذي قاد سرب الطائرات ولكن السبب يبدو معقولا اذا علمنا ان "" عارف عبد الرزاق " كان ناصريا لكن " الونداوي" كان بعثياً لذا ابعده هيكل في كتابه بكل بساطة، يقول الدكتور " علي كريم سعيد" عن هيكل في كتابه المعنون " من حوار المفاهيم الى حوار الدم " " انه يكتب من اخبار البلدان ما يناسب هواه وآرائه ومصالح معينة ويضيف اليها اذا ما تطلبت الحاجة السياسية فصولاً لم تكن موجودة في الواقع ".
ان النجاح محليا هو مفتاح الدخول الى الساحة الدولية، والمهاتما غاندي ونلسون مانديلا خير مثالان لما نقول، اما ان يتدخل رجل يعتبر نفسه مثقفاً او مفكراً في امور دول اخرى وشؤون قوميات لا يعلم شيئاً عنها فتلك بداية الانحدار نحو الفشل مهنياً وشخصياً . هذه " توجان الفيصل" الشخصية الاردنية المشهورة بافكارها العلمانية وجهودها في ميدان خلق المجتمع المدني حشرت انفها في مسالة الارهاب في العراق و راحت تدافع عن ما سمتها بالمقاومة وانكرت ونفت ان تكون الجماعات الارهابية تهدف الى الربح المادي من اختطافهم للمدنيين،(3) في الوقت الذي اعترفت فيه عائلة المواطن الاردني المختطف "هشام طالب العزه" بانهم دفعوا 50 الف دولار تم جمعه من قبل اقاربه مقابل اطلاق سراحه(4)
ان مشكلة غالبية المثقفين العرب هي نفس مشكلة الحكام العرب، وهي الكيل بمكيالين . فالكلام الجميل الذي الفه " ابو قاسم الشابي" :
اذا الشعب يوماً اراد الحياة فلابد بد ان تستجيب القدر
هذا الكلام لا يشمل الامازيغ في الجزائر ولا الاقباط في مصر ولا الاكراد في العراق وكان هؤلاء ليسوا شعوباً وبالتالي ليس لهم الحق في طلب الحياة . يقول المفكر " بختيار علي" : ان ما يحدث في كردستان يتحمل المثقف العربي جزءً كبيراً من مسؤوليته، وعلينا كمثقفين كرد ان نؤكد على ضرورة صياغة مشروع ثقافي عربي شامل لطلب الصفح من الكرد على ان يطهر الضمير العربي نفسه من مخلفات الفاشية اذ لا يمكن ان نحاور عقلية لزمت الصمت حيال جرائم الانفال وعلى المثقف العربي ان يعترف بارتكابه جريمة الصمت وجريمة ايجاد التبرير لما حدث في كردستان والا فان الحديث عن أي حوار عربي – كردي حقيقي هو ضرب من الخيال " . هذا فضلاً عن عدم تخلص المثقف العربي من رواسب الماضي وتقيده بالبقاء داخل القالب الذي صنعه لنفسه، يقول الاستاذ " سيار الجميل " :
" ان العرب بحاجة الى ديناميكية اكبر وتفكير انضج وهم يستقبلون القرن الجديد، انهم بحاجة اولا الى حركة تكمن في التاريخ والى نوع من مضادات السكون الماضوية وتجميد هوس التقليديات وفهم الماضي بدل تقديسه واستغلال الزمن بدل قتله والعمل على التوحيد القومي بدل حالة التجزئة فضلا عن ايقاف العبث بالامن القومي العربي ناهيكم عن تحديد التجارب السياسية من خلال الحريات اولا واخيراً "(5) .
لقد شغل المثقفين العرب العامة بالكفاح ضد اسرائيل لمدة نصف قرن دون ان يقدموا برنامجا واضحا للعمل سواء السلمي او المسلح، و ظهر في بعض الفترات كتاب مثل الكاتب اللبناني " سعيد عقل" الذي اعتبر اسرائيل بمثابة قبر للعرب وكان يردد دوما بأن العرب متى ما تناسوا الوجود الاسرائيلي والتفتوا لانفسهم فسيكونون قد خطوا الخطوة الاولة نحو بناء المجتمع العربي الواعد .
ولكن مع الاسف الشديد استغل الخطاب العروبي وجود اسرائيل " العدو الخارجي" والاقليات ومنها الشعب الكردي " العدو الداخلي" وقام بتضخيم هذين العدوين ليؤسس ركائز ايدولوجيته القومية ويمنح شرعية القيادة الى النخبة الحاكمة، والكارثة ان المثقف العربي الذي ينزلق هو الاخر الى الهاوية اللعبة المعدة فصولها مسبقاً من قبل ذلك الخطاب ويصل هذا الانزلاق حداً من الخطورة يبارك معه المثقف الممارسات الوحشية للنخبة المتسلطة تجاه الكرد .(6)
ولقد اعتبر الكثير من المثقفين العرب الاقليات الموجودة في الدول العربية بمثابة " سكين خاصرة" وكان لسان حالهم يقول ان امام العرب مهمة كبيرة وان لا وقت لديهم لسماع شكاوي الاقليات وبالتالي على هؤلاء السكوت لحين انجاز تلك المهمة المقدسة ؛ التي سوف لن تمجز الى قيام الساعة
ويبدو ان نكسة حزيران اصابت العرب اصابة بليغة بحيث لم يفيقوا من هولها فلو دققنا في الاحصائيات نجد ان مجموع خسائر العرب يقارب 26539 شهيداً " مجموع خسائر الاردن، سوريا، مصر " بينما خسر اسرائيل 873 جندياً فقط واصبحت مساحة اسرائيل بعد حرب 1967 (42.000كم2 ) بعد ان كانت لا تزيد عن (13000كم2 ) ان الثقافة التي تعجز عن بلورة خطاب انساني تتجه صوب بلورة خطاب شوفيني / فاشي، ويبدو ان الثقافة العربية لم تنتج حتى الان خطاباً انسانياً ورغم انها ثقافة غنية غير ان مفهومي " الحرية" و " الانسانية" ما زالا غائبين ومجهولين في بنيتها وبالتالي فان الموقف تجاه " الكردي" كانسان غائب في بنية الثقافة العربية لان الموقف العام تجاه الانسان غائب .
ان استخدام اللغة المتعالية دفعت بالانسان العربي المسلم للانسحاب الى الماضي وتجسيده كمثال لما يجب ان يكون عليه المستقبل دون ادنى اهتمام بمقتضيات الواقع وتغير الظروف الامر الذي ادى الى سلسلة من التداعيات السلبية تجاه قضايا الحاضر مثل الديمقراطية والتعددية السياسية والحريات وقضايا الانسان وحقوق المراة، وبسبب لغة الخطاب المتعالية اصبح العربي المسلم يعيش ازمة حوار مع " الاخر" لانه رافض له سواء كان مسلماً ليبرالياً او علمانياً او غير مسلم لانه ببساطة يقدم نفسه باعتباره مثالاً متعالياً ومتكاملاً و متفوقاً الامر الذي ادى بالفكر الديني الى معايشة نرجسية موغلة في التطرف في الوقت الذي يحتاج فيه العالم العربي والاسلامي الى " عقلنة الحضارة وعلمنة المجتمع" كما يقول الاستاذ " هشام شرابي".

هوامش

(1)مذكرات جيمس بيكر.
(2)لقاء مع المفكر هيمن قره داغي . صحيفة " هاولاتى"
(3)لقاء مع توجان فيصل عرض في قناة AND الفضائية.
(4)هيئة الاذاعة البريطانية BBC، نشرة اخبار يوم 14/10/2004
(5)التحولات العربية د. سيار الجميل ص19.
(6)المفكر الكردي مريوان وريا قانع