شمعون بلاص كاتب إسرائيلي من أصل عراقي، تميز بكتابة الرواية بالعبرية ليعالج إشكالية اليهودي الشرقي المتراوح بين الانتماء المفاجئ إلى ثقافة نامية واجتثاثه من سياق ثقافي يمثل مسقط رأسه. فترى أبطالا من شتى الهويات في أعماله الروائية: مثقفون مهتزون، ثوريون في منفى المعمعان، خوارج على أديانهم مسايرة دين السلطة، وحتى تكتمل عناصر الإثارة، يعتمد على شخصيات قلقلة موجودة حقا في وقائع التاريخ العربي واليهودي، والأنكى تاريخ القرن العشرين، أي ليسوا اسطوريين من أزمنة بعيدة، وإنما كان لهم حضور في حياتنا الحديثة ولعبوا أدوارا فيها. من هنا يتأتى الاهتمام بكتابه الجديد الذي صدر مؤخرا عن "منشورات الجمل"، تحت عنوان: "روّاد ومبدعون: دراسات في الأدب العربي المعاصر" (224 صفحة من الحجم الكبير)، كإضاءة نقدية استقصائية لمحنة المثقف، المبدع، في مسار الثقافة العربية، وتصادماته، التوفيقية تارة وتارة أخرى الجذرية، مع التقاليد الواقفة بالمرصاد لأي انحراف عن سراط الكلمة المستقيم.

وانطلاقا من كونه قضى سنوات طويلة في تدريس الأدب العربي في جامعة حيفا، يسير بنا شمعون بلاص مرشدا نقديا ودقيقابين شعابالإشكالية الكبرى في ثقافتنا العربية الحديثة: إما التخلص من سطوة الدين والانغمار في رؤية علمية تساعدنا على مواكبة العصر الحديث، أو التوفيق بين التيار العلمي والتيار الديني... وهكذايخصص بلاص الفصل الأولمحورا يتناول فيهأعمال ثلاثة كتاب يمثلون لب المواجهة مع هذه الإشكالية: فرح أنطون برواياته، محمود المسعدي بمسرحيته "السد" ونجيب محفوظ بروايته "أولاد حارتنا". ويعود إلى هذه الإشكالية، في الفصل الثالث، ليرينا نكسة المثقف العربي والتراجع والاهتزاز النفسي الذي ربما لم يكشف عنهما أي من هؤلاء الثلاثة، مثلما فعل منصور فهمي ولسبب جد بسيط هو أن فهمي ضرب على الوتر الحساس للثقافة الإسلامية: "حالة المرأة"، فكسر الحلقة التي كان يدور فيها الآخرون وبتكافؤ مع ممثلي التيار الديني... وكسر الحلقة هذه وضعت منصور فهمي أمام هجوم لا مثيل له ما جعلته يتراجع متنازلا عن كل ملكاته النقدية...والفصل هذا المتعلق بسيرة منصور فهمي يقدم لنا بلاص دراسة جريئة وتفكيكية وجديدة لبؤس المثقف وتكيفه في حظيرة السلف، محللا لحياته وسيرته، بعد ان انتبه إلى أن شخصية إبراهيم عقل في كتاب نجيب محفوظ "مرايا" أنها شخصية منصور فهمي الذي واجه الثقافة الإسلامية من منظور نقدي هدام، ثم تراجع وأي تراجع. طبعة سابقة للكتاب ضمت أغلب المواد، ظهرت عام 1991 تحت عنوان أكثر تعبيرا: "الأدب العربي والتحديث الفكري".
أما الفصل الثاني فيدور في الإطار الإبداعي لأربعة روائيين نموذجيين وهم جمال الحسيني، إميل حبيبي، إدوارد الخراط ورائد القصة القصيرة العراقية شالوم درويش. يحلل أعمال كل واحد من هؤلاء ضمن سياقاته الاجتماعية ومآتيه الأسلوبية.

"روّاد ومبدعون" كتاب يجمع بين الشغف الأدبي والنقد الأكاديمي، بين الرؤيا الموضوعية التحليلي المنحى، والسرد التاريخي المسلح بوثائق المادة المدروسة... إكسير يقوي عضلات الذاكرةاللازمة: إن محنة المبدع العربي في عصر النهضة هي عينها اليوم(حتى لانقول في أسوأ أحوالها) التي يعيشها كل من راودت مخيلته رغبة، مهما كانت أدبية، في المواجهة مع رسالة الوحي الأبدية. اقرأه، فعند الوعي ثواب الدنيا والآخرة!