أن ازور كردستان، كانت تلك إحدى رغباتي الشخصية الملحة التي ما انفكت تراوداني لوقت طويل، يعود إلى سنوات ما قبل سقوط النظام. رغبة حقيقية ومشروعة تهتاج في داخلي من حين إلى آخر، أن أرى هذا الجزء المثير من الوطن، الحزين يوما ما، الجميل أبدا. إلا أن ظروفا معقدة في الوضع السابق جعلت من بلوغ تلك الرغبة شيئا مستحيلا، رغم محاولات العزم على تحقيقها غير مرة مع صديق أو غريب في مغامرة لم يكتب لها أن تحدث. ربما معنى أن تفكر بربوع الشمال وأنت في أقصى الجنوب أو تكاد، هو انك لا ريب تمنح نفسك فرصة اليقين بان وطنا آخر مستلب أيضا يعيش بجوارك ولا تراه، وقد تظن انه حلم أو وهم أو مستحيل ماثل، تحت سطوة ترديد نشيد البلد الواحد.
من هنا مثلَّ مهرجان الجواهري في جانب من جوانبه الأساسية فرصة طيبة للعديد من الأدباء والكتاب لرؤية ارض خضراء عزيزة من عراقنا الذي طالما حرمنا من التجوال الحر في مدنه وأقاليمه، وهي في الوقت نفسه خطوة تواصل إنساني وثقافي صادق تتلاشى فيه، ذاكرة انفصال أطراف الجسد الواحد عن بعضها البعض بحكم قهر بعثي كريه.
من المعلوم انه قبل عام أقيمت الدورة الأولى لمهرجان الجواهري الذي من المفترض والمتفق عليه اختتام فعالياته في إقليم كردستان وفقا لبادرة تقدم بها الأدباء الكرد قبل عام، وتم التنسيق حينها على أسس سليمة لغرض إنجاح دورات المهرجان وترسيخ تقاليده في لاحق الوقت. وللأسف الشديد بدا لنا أن نجاح هذه التظاهرة الثقافية في العام الماضي قابله فشل مذل هذا العام لاسباب عدة تناثرت وتشعبت هنا وهناك، لن يعيد تشخيصها أو شرحها بحال من الأحوال كرامة الأدباء التي مست مسا غائرا، لم يحدث له مثيل في تاريخ المهرجانات الثقافية العراقية.
قبل البحث عن الأسباب الحقيقية لما جرى في كردستان، لا يساور أحد الشك فيما قدمته كردستان من حفاوة واستعداد لاحتضان مختلف الأنشطة الثقافية والفنية والسياسية طيلة العقد الماضي بوصفها المنطقة الآمنة والخارجة عن سيطرة حكومة صدام. وفيما يتعلق بعنايتهم الخاصة بالجواهري كشاعر عراقي كبيرا تلتحم في عباءته الشعرية الوطنية أصوات البلد الواحد وأوصاله، احتضن المثقفون الكرد في أكتوبر 2000 مهرجانا شعبيا ورسميا في مدينتي اربيل والسليمانية، حضر فعالياته عدد من الأدباء العرب والعراقيين من الخارج بصورة ملفتة شكلت باكورة لتفاعل ثقافي بين الأدباء والكتاب العرب والكرد. وقد ذهب البعض إلى الإشادة بالاهتمام الملحوظ للأدباء الأكراد بالجواهري اكثر من سواه من الشعراء والأدباء العراقيين، خاصة وانهم يحفظون من شعره اكثر من بقية اخوتهم العرب، بل انهم قد كتبوا عنه العديد من الدراسات النقدية التي اتصفت بالموضوعية والإنصاف، لتتخطى أحيانا ما كتبه غيرهم عنه، فهو الشاعر الأبرز الذي نذر باقة من قصائده وحياته لمناصرة قضية الأكراد وكفاحهم ضد القمع والديكتاتورية.
وكان هذا المغزى بالضبط هو ما أثار استغرب الأدباء المدعوين إلى كردستان لمواصلة فعاليات مهرجان الجواهري في الذكرى السابعة لرحيله. ولكن علينا أيضا أن نكون على قدر من المسؤولية لتأشير الخلل الإداري الكبير الذي ظهر في أيام المهرجان خلال فعالياته البغدادية. فلا أحد ينكر أن مجموعة من الأدباء الشباب المتحمس، افتقدت إلى الخبرة الإدارية والإعلامية، كانت تسعى لانجاح هذه الدورة بكل ما تسمح به الظروف الحالية، رغم وجود معرقلات أساسية في التخطيط لدمج فعاليتين أساسيتين في وقت واحد : هما الانتخابات والمهرجان، شوشت عليهم في المحصلة سبل الإمساك بدفة الفعالتين. ومما بدا واضحا وملموسا بالنسبة للحاضرين أن الاهتمام الجماعي بإنجاح فعالية الانتخابات الأولى للأدباء بعد زوال العهد الصدامي حاد بمسار الأمور عن التهيئة الدقيقة والمنظمة لفعاليات مهرجان الجواهري الذي فرق الأدباء اكثر مما جمعهم، لا سيما بعد انسحاب أدباء البصرة. في الوقت الذي كان البعض يتساءل عن الكيفية التي جعلت مهرجان الحبوبي الأول المنعقد في مدينة الناصرية اواخر العام الماضي، ناجحا بكل المعايير الثقافية والإدارية، بشهادة معظم المدعوين لحضور فعالياته، رغم الإمكانيات المحدودة وصعوبة الوضع العام آنذاك. ليأتي مهرجان المربد فيما بعد مجسدا الحفاوة البصرية باسطع صورها، ومتمكنا بقدرة ملحوظة من هضم الأعداد الكبيرة للأدباء العراقيين المدعوين لفعالياته، فضلا عن حشد من الضيوف والزوار.

ولكي ننصف أنفسنا ونزيل عن الأدباء بعض استيائهم مما جرى بحقهم في كردستان، سنلقي ببعض اللوم على ذاك التقصير الإداري الواضح الذي تجسد في إهمال وعدم ترتيب كاف لآلية انتقال فعاليات المهرجان إلى كردستان. وهو ما شخصه وزير الثقافة في إقليم السليمانية بقسوة عندما قذف الكرة في ساحة شخص أو اثنين من فريق اتحاد الأدباء. ولكن ذرائع الوزير الكردي كلها لا تسوغ أو تبرر الإهمال المخزي واللامبالاة التي تعرض لها طيف واسع من أدباء وكتاب وشعراء العراق وهم في ضيافته.
فهل ثمة منطق ثقافي أو أخلاقي يسوغ للوزير أو لغيره من المسؤولين الأكراد أن تنام نخبة من الأدباء العراقيين على الأرصفة والحدائق لمجرد انه لم يخطر بموعد زيارة الوفد إلى السليمانية ؟ حقيقة لا أتصور أن أي مواطن كردي بسيط يرضى بهذه الحال، وهو الذي عرف بهوية كرمه وخلقه الرفيع، ولو كان جائزا حينها لفتح أهالي السليمانية أبواب بيوتهم لضيافة اخوتهم العرب. وبغض النظر عن كل الحجج والأسباب والذرائع التي تقف وراء هذا الإرباك الحاصل، نتساءل هنا : ألا يكفي الوزير مرور أربع وعشرين ساعة أمضاها الوفد متجولا بتثاقل وتعب ونعاس بين شوارع السليمانية وأزقتها، لكي يلملم نفسه ويقدم ابسط شروط الضيافة لهؤلاء الأدباء المفجوعين بسوء الوضع الذي لاقوه في كردستان ؟
إن وزارة الثقافة واتحاد أدباء الكرد أهانوا بشكل من الأشكال الأخلاق الكردية قبل أن يسيئوا إلى أي أحد آخر. وهذا ما لا نرضاه عليهم ولا نقبله لأنفسنا بذات الدرجة. فكيف بهم يرتضون مثل هذا الوضع غير اللائق ووفد المهرجان جاء متلهفا، فرحا، متحمسا لرؤية كردستان وأهلها والتعرف على أدبائها، متطلعا لتعزيز الصلة بين جمع الأدباء بعد انقضاء سنوات من العزل القسري للدكتاتورية البغيضة.
أتذكر إنني تحدثت إلى صديق شاعر يجلس بجانبي في الحافلة الصاعدة إلى شمالنا الحبيب قائلا :
-من الضروري جدا تعزيز وتفعيل العلاقات الأخوية بين العرب والأكراد على كل المستويات خاصة في هذا الوقت، فبوسع حميمية الثقافة إزالة جفاء السياسة. ورحنا نتحدث بتفصيل عن الكيفية التي تمكننا من تحقيق ذلك.
رغم الذي تقدم ذكره، لا أوافق الرأي الذي يصور أن أمرا مبيتا كان خلف هذه الواقعة. ولا ابرأ ساحة زملائي في اتحاد الأدباء، ولا أريد أن أتشاءم كثيرا مدعيا إننا نفتقد لابسط التقاليد الثقافية، كما لا أتمنى لأي أحد من فريق تلك الرحلة أن يواصل جلد نفسه بسبب الأذى المعنوي الذي لحق بالوفد. ولكني رغم هذا وذاك سأبقى بانتظار بادرة عراقية نبيلة تزيل بقايا تعب ولوعة ومرارة، وتأجج في الوقت نفسه جذوة اشتياق ورغبة ما زالت كامنة في الأعماق إلى حين..
ضباب مساء كاريكاتيري وصباح سريالي ختام مهرجان الجواهري هذا.