تحدثنا كتب التاريخ العربي ومدوناته النقد ـ ادبية ـ المبكر منها والمعاصر ايضا ـ عن علاقة بالغة الاحكام وصلة شديدة الود والقرب، بين الانسان العربي في ازمان وجوده الاولى ـ وبين خصوصية حبه للشعر وتفرده بهذه المزية الفضلى ـ دون سواه من اناسي الامم الاخرى. بل ان البعض من نقادنا العرب ـ ليخطو بامتياز حيازتنا لهذه الفضيلة خطوة ابعد، ليجعل من فطرة الانسان العربي منفتحة بطبعها على حب الشعر ـ وعلى التعبير عن ذاتها وممكناتها الوجودية بطريقة حسية تخييلية يقيم الشعر في جوهرها وتتولى القصيدة وحدها وسيلة التعبير عن رسالة هذا الكائن في الحياة وضرورات وجوده هنا في العالم ـ وهذا وصف لا يخص منتجي النصوص الشعرية وحدهم، بل انه يتجاوز ذلك ليشمل بنفس المقدار قراء الشعر ومتلقيه ايضا.
هذا هو الكلام الذي توارث التقاة نقله الشفاهي رواية عن رواية، ثم قرأناه وجرى تعليمنا اياه في المدارس والجامعات بطرق بديهية جرى الفراغ من صدقها، حتى شب الصغار منا على حفظه عن ظهر قلب، وحتى هرم الكبار على ترديده ونقله بوصفه حقيقة تاريخية راسخة يصعب بعد كل هذا التاريخ المتماسك الرصين في عرضها ـ دحضها وتفنيدها، لذا فأن مستشرقا ـ كرينان ـ يمتلك الحق كله في قوله ـ بالاستناد الى مدونات تاريخنا العربي ـ بحسية لغتنا العربية من جهة، وبتدني” نوع “ ذهنية انساننا العربي من جهة اخرى.
غير ان مثل هذا الكلام كله، ما جرى التداول منه شفاهياً، وما تم تدوينه نقديا وتاريخيا، وبالرغم من شدة حضور ادلته وتماسك شهوده، يشير في قراءة تحليلية عميقة لكامل بنيته: ان نوع هذا التماسك الذي يسم هذه الظاهرة، ثقافي في جوهره، تدويني، مكتوب حسب، بمعنى ان الواقع العربي في بعديه الاجتماعي والتاريخي لايكون مصداقا او معادلا موضوعيا له، بحيث يشهد له بالحقيقة، الامر الذي يعني ايضا، ان هذا الكلام وليد ثقافة نوعية محددة تعكس وتشير الى عصر محدد انتجت خلاله البنى التحتية الاقتصادية المترفة هذا النوع المحدد من الثقافة المعزولة عن حقيقة الواقع ونوعه.
ذلك لان نهاية التحليل لمركبات هذه الظاهرة الثقافية تقودنا الى عناصر اولية موجودة في الكتب وفي الثقافة حسب لا في مكان واقعي النوع، اعني ان مغامرة الذهاب بالتحليل الى اماكن ابعد من هذه، لا يمكن ان تنتهي بنا الى طبيعة واقعية مغايرة لهذا النوع التدويني.
اعني ـ وبشكل مباشر هذه المرة، ان حقيقة” الذهنية الشعرية “ للامة العربية ـ تلك التي تتحدث عن فطرة العرب التخييلية وولع انسانها الفطري بالشعر، حقيقة تدوينية، ثقافية في اصولها، بحيث لا يمكن ان نجد لها ـ بهذا المقدار ـ المتضخم ـ اساسا واقعيا يخبر بصدقها، باستثناء الواقع الاجتماعي المحدد بعصر ما بعينه، ذلك الذي اراد ـ لاسباب سياسية ودينية ـ لهذه الواقعة الثقافية، ان تبدو متجسدة شاملة للواقع العربي المادي والاجتماعي، فعمل على خلق واقع ثقافي ماض مفتعل، يعادل ويستبدل الواقع التاريخي الحادث بالفعل في زمن محدد ما من حياة العرب، هو العصر الجاهلي.
اعني ان الواقع والعصر الذي وجدت فيه هذه الظاهرة حقا وهو العصر الاموي، قد عمل على تصوير العصر الجاهلي بذات هذه الصورة، ليؤسس بهذه الاحالة الى اصالة هذه الظاهرة واستمرارها.
هكذا سخر عصر التدوين ـ في زمنه الاموي ـ مثقفي تلك الحقبة عندما اوكل اليهم مهمة جعل هذا الامر الطارىء المختلف حقيقة واقعية شاملة، لها ما يؤسسها خارج حدود هذا العصر الزمني وخصوصياته الاجتماعية.
وهذه مسألة تعني بطبيعة الحال، ان عصر التدوين الاموي قد عمل على تصوير المجتمع الجاهلي بهذه الصفة مضخما ومستغلا على نحو كبير اسواق وتجارة العرب ومواسم حجهم وايامهم وعاداتهم لتوجيهها بشكل مغرض من اجل ان تبدو المقولة الاثيرة” الشعر ديوان العرب “ مقولة صالحة لكل العصور ودالة على وصف بنيتهم الذهنية بامتياز نادر.
لا اريد هنا ان اتناول بالتحليل الدقيق الذي يسعى الى تفنيد شدة القرب المفترضة لعلاقة العربي الجاهلي بالشعر، انطلاقا من الوضع الاقتصادي والاجتماعي والروحي والسياسي الذي لا يسمح بصدق مثل هذه الفرضية ـ برغم كل ما يحضر الان في ذهني من واقع دونها تاريخ النقد الادبي العربي لتأكيدها ـ لانها ببساطة وليدة مجتمع برجوازي مترف يشبه تماما ذلك الوسط الاجتماعي الذي انتج هذه الظاهرة في العصر الاموي، وعمل على جعلها ممكنة واقعيا، انطلاقا من خلق العناصر الاجتماعية والوسط الملائم لنموها ـ بطريقة جرى التخطيط الثقافي النظري لها ـ متمثلا ذلك بالشعراء والنقاد ومن جهة ـ ومن القرار السياسي للدولة الاموية ـ باعلاء مثل هذه الظاهرة وترسيخها ومن ثم المنظم على ادراجها ضمن البرنامج التعليمي لثقافة الدولة الاموية ـ كمقابل للبرامج ذات الطابع الدينية للنص الذي ورثته الدولة الاموية والذي تولت المساجد ودور العبادة تنفيذها.
اذن فهو الشعر مقابل الدين، وهي ارادة احياء المجالس المدنية ذات الطابع الحياتي، مقابل حلقات دروس المساجد في علم الكلام والتفسير والحديث سبيلا لبناء انسان بابعاد ووعي اسلامي.
غير ان المشكلة الخطيرة الاولى، التي تنتج عن قبول مثل هذه الفرضية هي ان قبولها في سن مبكرة ضمن نظام تعليمي لا يقف بهيأة حيادية من نفس المتلقي العربي ـ اذ ربما تعمل على تعلمها وبشكل فاعل ـ بعد توفر الوسط المعرفي الملائم ـ على تشكيل بنية الذات بهذا الاتجاه الحسي للتعامل مع الحياة، تماما كما تشكلت البنية الذهنية باتجاه الفكر مبكرا في المجتمعات الاغريقية اليونانية.
الكاتب شاعر ومدير تحرير مجلة الاقلام
انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص
ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف
التعليقات