ولد الكاتب فى 28 ديسمبر 1942 م ببلدة مزدة الواقعة جنوب طرابلس، ليبيا، لأسرة متوسطة الحال، حيث كان والده يعمل بالتجارة، وكان جده الفقيه معلما للقرآن وعلوم الدين بالمدرسة القرآنية فى البلده. غادر بلدته مزدة إلى مدينة طرابلس، بعد أن اكمل دراسته الابتدائية ليبدأ مشوار الدراسة التى اقترنت أحيانا بالعمل حتى أفضت به هذه الجهود إلى نيل درجة الدكتواره فى الأدب العربى الحديث من جامعة أدنبره. التحق بالعمل الصحفى منذ وقت مبكر، وبدأ ينشر قصصه القصيرة ومقالاته فى الصحف الليبية منذ عام 1959، وفى عام 1965 فازت مجموعته القصصية " البحر لا ماء فيه " بالمرتبة الأولى فى جوائز اللجنة العليا للآداب والفنون بليبيا، وهى المجموعة التى حققت لصاحبها اعتراف المجتمع الأدبى فى الوطن العربى، حيت تناولها كُتَّاب كثيرون بالمقالات والدراسات النقدية من بينهم د. يوسف إدريس، ود. عبد القادر القط، ود. نقولا زياده، وفاروق منيب، وفاروق عبد القادر، الذين رأوا فيه إضافة جديدة لفن القصة القصيرة فى العالم العربى، واعتبر الدكتور أفنان القاسم أن قصة الجراد التى ضمتها تلك المجموعة علامة فارقة فى تاريخ القصة العربية القصيرة.
فى عام 1967 نشر أحمد إبراهيم الفقيه الفصول الأولى من روايته " فئران بلا جحور " فى مجلة الرواد الأدبية، وهى الرواية التى أكمل كتابة فصولها ونشرها فى سلسلة روايات الهلال، أعقبتها رواية " حقول الرماد " الصادرة عام 1985، وفى عام 1991 نشر عمله الكبير " الثلاثية الروائية " التى نالت شهرة واسعة، وفازت بجائزة أفضل عمل إبداعى من معرض بيروت للكتاب، وترجمت إلى عدد من لغات العالم لتضع اسم ليبيا على خارطة الأدب العالمى.
اسهم أحمد إبراهيم الفقيه فى تأسيس عدد من الصروح الثقافية والأدبية فى بلاده، فقد عمل مديرا للعهد الوطنى للتمثيل والموسيقى، كما أسهم عام 1966 فى تأسيس مجلة الرواد الأدبية وعمل ضمن هيئة تحريرها، وأنشأ صحيفة " الأسبوع الثقافى " فى مطلع السبعينيات وعمل رئيسا لتحريرها، كما أسهم فى إنشاء مجلة الثقافة العربية فى بيروت، وعمل لفترة من الوقت رئيسا لتحريرها، واستطاع عن طريق هذه المنابر تقديم أقلام وأصوات أدبية جديدة هى التى تثرى المجال الفكرى والإبداعى فى الوطن العربى الآن، كما سعى لإنشاء اتحاد للأدباء فى ليبيا، وكان مقرر لجنته التأسيسية، وتولى منصب الأمين العالم لفترة من الوقت قبل أن يتفرغ للعمل بالمجلس القومى للثقافة العربية رئيسا لشعبة الإبداع وعضو الهيئة المشرفة على مجلة الوحدة، كما تولى لأكثر من خمسة عشر عاما رئاسة المؤسسة العربية الخيرية للثقافة CULTURUL TRUST ARAB التى أقامت النــدوات والمعارض المعنية بتقديم الوجه الإبداعى والثقافى للأمة العربية وإصدار المجلة التى كانت رائدة فى تقديم الأدب العربى لقراء اللغة الإنجليزية، وهى مجلة الأفق التى كان يرأس تحريرها كعمل تطوعى طوال سنوات صدورها فى لندن خلال فترة إقامته بهذه المدينة التى استمرت عشرة
تولى عددا من المناصب العامة وعضوية اللجان والمجالس من أهمها منصب مدير عام إدارة الفنون والآداب، ومدير المعهد الوطنى للتمثيل والموسيقى، ورئيس تحرير صحفية الأسبوع الثقافى، ورئيس تحرير مجلة الثقافة العربية، ورئيس تحرير صحيفة الراية الخضراء باللغة الإنجليزية، كما أشرف على تحرير صحف مثل الفجر العربى، وفلسطين الحرة التى كانت تصدر فى لندن، وتولى عضوية اللجنة الدستورية العليا للاتحاد بين مصر وليبيا، وعضوية اللجنة الخاصة باختيار جائزة المغرب العربى بتونس، وهو الآن عضو مجلس الإبداع الثقافى بليبيا، وعضو المجلس العربى لكتاب الطفل بالقاهرة، وعضو المجلس العربى لمكتبة الأسرة التابع لمنظمة التربية والثقافة والعلوم بتونس، وغيرها من لجان ومجالس ومواقع أسهم من خلالها فى تعزيز وتعميق الوشائج التى تربط بين الطلائع المستنيرة فى الوطن العربى وبينها وبين بقية مثقفى العالم.
ورغم ضعف حركة النشر فى بلاده إلا أنه استطاع تقديم أكثر من ثلاثين كتابا للمكتبة العربية فى ليبيا صدر بعضها فى طرابلس وبعضها الآخر عن كبرى دور النشر العربية التى أولت إنتاجه اهتماما خاصا بسبب إقبال القراء عليه مثل دار رياض الريس للكتب، مكتبة الشروق، الهيئة العامة للكتاب بمصر، المؤسسة العربية للدراسات، مركز الحضارة العربية، الدار العربية للكتاب، وغيرها.
ترجمت أعماله إلى معظم لغات العالم، وأقيمت ندوات حول أدبه فى كثير من العواصم والجامعات وصدرت دراسات عنه فى مختلف الدول، ففى اللغة الإنجليزية صدر له الآتى
" الثلاثية الروائية " عن دار كوارتيت بوكس فى ثلاثة أجزاء
وقد حظى أدبه المترجم إلى الانجليزية باهتمام نقدى كبير فى الأوساط الصحفية والأكاديمية، كما تولى أساتذة الأدب العربى بالجامعات البريطانية والأمريكية تدريسه فى بعض هذه الجامعات، وكتبت صحيفة الجارديان البريطانية تصف إنتاجه قائلة بان هناك ما أسمته (a sense of genius)
فيما يكتبه.
قدمت أعماله المسرحية من قبل مؤسسات مسرحية عربية وعالمية، ففى لندن قدم له مسرح برناردشو مسرحية الغزالات التى تم الاستعانة بمخرج عربى هو فاروق الدمرداش لإخراجها، وقدمت له أكاديمية لامدا مسرحية " زائر المساء " التى أخرجها الكاتب والمخرج المسرحى العربى الذى يعيش فى لندن عادل دريش، كما تولى الكاتب عندما كان مديرا للمعهد الوطنى للتمثيل والموسيقى تأليف وإخراج أول اوبريت ليبى هو " هند ومنصور "، ولقيت مسرحيته " غناء النجوم " نجاحا كبيرا فى الأرض المحتلة عندما قدمتها الفرق الفلسطينية هناك، وهى المسرحية التى سبق تقديمها فى مهرجانات المسرح الوطنى الليبى، وكانت مسرحية " صورة جانبية لكاتب لم يكتب شيئا " هى آخر العروض التى قدمت ضمن فعاليات مهرجان القاهرة العالمى للمسرح التجريبى من تأليف الفقيه.
حظيت أعماله القصصية والروائية باهتمام كبير فى الصين، وقد تولى الباحث والأستاذ الجامعى العارف رونغ جيان الإشراف على ترجمة عدد من قصصه القصيرة قبل أن يتفرغ مع الباحثة السيدة فريدة والباحث السيد جلال على ترجمة الثلاثية بأجزائها الثلاثة، ثم رواية حقول الرماد، وتم نشر المجموعة القصصية والروايات الأربع عن طريق دار النشر التابعة للدولة، وأقيمت ندوتان كبيرتان إحداهما فى جامعة ووهان والأخرى فى بكين عن أدب الكاتب، وقد أشرف الأستاذ جيان على إصدار كتاب باللغة الصينية جمع فيه أكثر من أربعين بحثا عن أعمال أحمد الفقيه كتبها نقاد صينيون، وحمل عنوان (أحمد الفقيه والأدب الليبى المعاصر )، وصدر عن دار النشر التابعة لاتحاد كتاب الصين التى أصدرت الثلاثية وأصدرت من قبلها رواية حقول الرماد، هذا عدا كتب أخرى احتوت فصولا عنه.
حظى أدبه باهتمام نقدى على مدى العقود الأربعة الماضية، منذ أن فاز كتابة " البحر لا ماء فيه " بجائزة أفضل عمل إبداعى فى مجال القصة القصيرة فى ليبيا عام 1965، كما قام عدد من طلاب الكليات الأدبية بإعداد أطروحات جامعية عنه، صدر بعضها فى كتب مثل :
- الزمن فى الرواية الليبية، ثلاثية أحمد إبراهيم الفقيه مثالا، للباحثة فاطمة الحاجى، جامعة محمد الخامس الرباط
-الحلم والذاكرة فى أدب الفقيه، للباحث الدكتور شعبان عبد الحكيم، جامعة المنيا
- الثلاثية الروائية للفقيه والماثور الشعبى، عبد الحكيم محمد أبو عامر، جامعة القاهرة
منحته اللجنة العليا للآداب والفنون جائزة أفضل عمل إبداعى فى مجال القصة القصيرة عن مجموعته القصصية " البحر لا ماء فيه " عام 1965، وفى أول عيد للعلم أقيم فى ليبيا عام 1970 استلم من رئيس الدولة شهادة تقدير الدولة لدوره الرائد فى تأسيس الأدب القصصى الحديث فى بلاده، وفى العيد العشرين لقيام الثورة ( عام 1989) منح أعلى وسام فى ليبيا وهو وسام الفاتح العظيم، وفى عام 1991 نالت الثلاثية الروائية التى صدرت له فى تلك السنة جائزة أفضل عمل إبداعى صدر فى الوطن العربى عن هيئة معرض الكتاب العربى ببيروت، وقام رئيس وزراء لبنان عمر كرامى بتسليمه الجائزة ودرع المعرض، وفى نفس العام أجرت مجلة " المجلة " الصادرة فى لندن نتيجة استفتائها عن شخصية العام الأدبية فى العالم العربى، وكان هو الفائز باستفتاء القراء ذلك العام، كما قامت أندية وجمعيات محلية وعربية بمنحه شهادات تقدير فى المجالات الإبداعية والمجالات التربوية ومجالات حقوق الإنسان والحريات العامة. من مؤلفاته 1-البحر لا ماء فيه 2 - اربطوا أحزمة المقاعد 3 - اختفت النجوم فأين أنت 4- امرأة من ضوء 5- خمس خنافس تحاكم الشجرة 6- مرايا فينيسيا 7- ثلاثون قصة قصيرة
اما الروايات 8- فئران بلا جحور9 - حقول الرماد10 - سأهبك مدينة أخرى11 - هذه تخوم مملكتي12- نفق تضيئة امرأة واحدة
بعض من ادبه
البحر لا ماء فيه
توت … تووت … تووووت
السفينة تفك قيودها من رصيف الشاطئ، وتطلق نداءاتها.
توت … تووت.
نداءات تماوج.. تقصر وتطول هى تحية وداع، مناديل وداع تنشرها السفينة فى الفضاء لمدينة نابولى.
النداء الذى تبعثه صفارة السفينة يثير حزنا فى القلوب، حزناً لا كما نعهد الحزن قاتماً أسود بل هو حزن طيب خفيف كالغمام الأبيض، هو ذلك الحزن اللذيذ الذى يصاحب لحظات السفر والوداع والتلويح بالمناديل البيضاء فى الفضاء. السفينة تنطلق.
وطيور البحر كثيرة من ورائها ومن حولها، بيضاء ورمادية. تصوصو بثرثرة وتنشر أجنحتها فى سعادة، وترافق السفينة فى رحلتها مع المد.
السفينة تكف عن نداءات الوداع.
ونابولى تبتعد. تتلاشى. السفينة تشق البحر تثير من حولها معسكرات من الفقاقيع البيضاء.
ونابولى تتحول هذا الليل إلى نقطة ضوء. كل شواطئ إيطاليا تبدو شريطاً رفيعاً من الضوء، يظل يهت حتى ينطفئ تماماً. تماماً.
ولا شيء غير الليل وسواده والبحر ووشوشة امواجه. السماء مفروشة تتبعثر فيها نجوم وهلال لونه أصفر والبحر – تحت النجوم – مستلقيا فى دعة مصقولا، وناعما، وطيبا.
والسفينة تتزلق فوق الماء. فى خفة ورشاقة، سعيدة بالليل والبحر والنجوم، وبحيتان البحر وأسماكه التى لا بد أنها الآن تداعب قاعها وتصطدم به وتحاول أن تعضه.
السفينة عامرة بالناس المسافرين، هم لا بد فرحون بالسفر. هم يثناثرون فى المقهى والمقهى نظيف، وكراسيه مريحة، وأضواؤه ملونة وهادئة وتنعكس فى أراضيه المقهى المصقولة، وفى منافض السجائر الزجاجية وفى أوجه المناضد، وفى الكئوس المصفوقة بعناية فى الأدراج خلف بنك الخشب الكبير.
والعجائز يدردشن ويرتشفن القهوة بصوت عال، والرجال يلعبون الدومينو، وينفتون دخان السجائر، ويتعارفون على بعضهم البعض بسهولة من أين وإلى وأين وما اسمك ويصبحون أصدقاء يعزمون بعضهم على الدخان ويتبادلون كروت العناوين ويتضاربون على أكتافهم، ويقولون للجرسون التركى "تشكر آد رم" وعدة أطفال تناثروا يتقافزون بأحذيتهم الصغيرة على الكراسى الخالية ويتشعلقون بأركاب النساء والرجال.
والركاب، هم كركاب أية سفينة خليط من الأجناس، وهذا الخليط لا بد أن يكون أحد عناصره الألمان، وكان هناك عدا الألمان الأتراك الراجعون إلى الأسطانبول، والإريقيون الراجعون إلى بيرية وأثينا، وكان هو وحده عربياً وصحفياً ووحيداً.
وهناك التقينا هى فراشة صغيرة… هو شاب من ذلك النوع الذى أول ما تراه تحس بأن هذا الشاب ستكون له شيخوخة مهيبة، وهى ترتدى بنطلونا، البنطلون أزرق، والقميص نصف كم، وبدلته هو كاملة، البنطلون والجاكيت وربطة العنق الرمادية، وقميصاً، ملون كأجنحة فرشة، وبه ورود وحيتان ورأس غزال وخطوط خضر وبنية وبنفسجية تماماً كأجنحة فراشة، وهو يحمل سحنة سمراء وعيونها سوداء حبات زيتون ,، ومن يرى سحنته سيعرف على طول أنه عربى، وشعرها أسود، ديل حصان، والحصان عنيد وجموح فديله هذا دائما يهتز وينش فى الهواء ويتراقص.
وهو كالسر يسألونه فى السفينة ماذا ستكتب وعمن، وهو يقول سر المهنة، وهى تمشى رشيقة، لا هى لا تمشى هى فراشة، تطير، وتتقافز … وهو يجلس.. كرسيه فوتيل كبير وحيد وبجواره النافذة، والغليون أسود وصغير ودائماً فى جانب فمه وعود كبريت مشتعل بين أصبعيه، وهى تنقر. تنقر بأصابعها المقصوصة الأظافر على البيانو فى الصالون وتنقر بكعب حذائها الرفيع على ظهر السفينة، وتنقر بنظرات ورموش عينيها على أرضيات القلوب، وهو يشرب البايب وينشر من حوله سحباً كثيفة من الدخان. تصنع من حوله ستاراً شفافاً يساهم فى صنع السر ن وهى من اليونان عائدة إلى أثينا بعد أن ساحت وتجولت فى أنحاء أوروبا، وهو قصاص، وككل القصاصين العرب، لا بد لكى يعيش ويقص أن يشتغل بالصحافة، وهو كتب كثيراً، وصور بناتاً لم يلتق بهن افترض فيهن الرشاقة واللطافة والعذوبة، وهو لأول مرة يكتشف بطلة حقيقية كبطلات قصصه لطيفة ورشيقة وعذبة حقا.
وفى الليلة الأولى نظر إليها من خلف غلالة الدخان التى تحوطه، واكتشفها، وبقى تلك الليلة يرقب اكتشافه ويستمتع به من بعيد، كالذى اكتشف جزيرة مجهولة فى عرض البحر فظل واقفا على شاطئها ليعطى نفسه فرصة يستمتع فيها بلذة الاكتشاف، وقال لنفسه مقررا يوم الغزو.
- فى الغد..
غدا سيكلهما وسيتعرف عليها، الناس فى السفن يتعارفون بسهولة، وسيبادلها كرت الاسم والعنوان، وسيحكى لها عن قصة، ويسعده أن يستمتع منها إلى تفاصيل رحلتها وحياتها وستحكى له لا بد عن بيتها فى أثينا وعن دراستها وسيطول بينهما الحديث حتى يصل إلى "المرأة والرجل وبينهما الحب" وأخذ يدرب نفسه على أن يكون ربانا ماهرا لسفينة الحديث حتى يدير الدفة فى الوقت المناسب للموضوع المناسب، ولكن الغد خيب أمل الفارس، فقد كان يظن أنها تتكلم مثله الإنجليزية. لكن هى لا تتكلم سوى لغة واحدة "اليونانية"، ونفث ساعتها سحباً كثيفة من الدخان ووقف على سور السفينة يضربه بقبضة يده فى إيقاع منتظم وعنيف كان السور هو المسئول عن اختلاف اللغات.
لماذا هذه اللغات التى تنتصب كالأسوار بين الناس. نحن نضحك بلغة واحدة، ونفرح بلغة واحدة، ونحزن بلغة واحدة، ونحب بلغة واحدة.. لماذا لا نتكلم أيضاً بلغة واحدة لماذا لا يتكلم كل الناس بلغة واحدة.. هو يريد أن يقول لها أشياء كثيرة، ويريد أن يعرف عنها أشياء أكثر. لكن اللغة جدار والجدار يحول بينه وبين أن يحقق هذه الرغبة.
هو حزين … الحزن فى جبينه وفى عينيه وفى ملامحه وجهه، وعاد إلى كرسيه ينفث دخان غليونه الأسود، فى دفعات سريعة وكثيفة. كأنه يكتب بدخان غليونه وبحروف لغة لن يجهلها أحد.
- أنا قلق ومنقبض وحزين.
وجاءت هى لتجلس في كرسى قبالته.. ونظرت إليه، ورغم أن نظرتها لم تكن مركزه تماماً عليه فربما هى تنظر للستارة المسدلة فوق نافذة من ورائه، لكن هذه النظرة الواحدة وغير المركزة، استطاعت أن تفعل به العجب، فقد أنسته فى ثانية واحدة كل ما شعر به من ضيف وحزن.
كنست أحزانه والقت بها إلى البحر…
وعادت نظراتها إليه تتخذ شكلاً مركزاً.. هى تنظر إليه، هو ينظر إليها. هى إذن مهتمة به.
هى مثله مهتمة. هو يبتسم هى تبتسم. التقينا وربما حدث هذا لأن كل من فى السفينة من الكبار.
كلهم رجال كبار إن لم يكونوا كهولا أو شيوخاً فهم على الأعتاب. وكلهن نساء كبيرات، زوجات وأمهات وعجائز وكان لا بد أن تبحث عن الأقرب إلى سنها ويبحث هو عن الأقرب ربما إلى سنه فقط بل وإلى خياله وروحه وإحساسه البالغ الرهافة.
وعادا يتبادلان النظرات..
وأحس كان هناك ثمة لغة أخرى تتجاوز كل ما فى العالم من لغات.. هى لغة العيون. يقول لها بعينيه.. أين أنت من زمان يا بطلة أسطورية، عانيت مهمة خلقها، وسهرت الليل من أجل أن أجعل من ثوبها أجنحة فراشة ومن عينها حبتى زيتون. ومن دقات كعب حذائها عزفا على أوتار قيثارة، وهى تقول بعينها.. وأنت أين ؟ يا فارسا عربياً وسيما، يا حلما داعب جفونى فى الهنيهات الأخيرة من ليل الشتاء. وبعينيه يقول. وأنت يا فراشة وثبت إلى هنا من بلاد اليونان. ما قاله أرسطو وأفلاطون من حوار يا بنية أثينا العظيمة – أراه مكتوباً فى عينيك على حبى زيتون. مكتوبا بلغة أفهمها وأحفظها وأعرفها جيداً.
وفى الصالون كان ثمة بيانو كبير لونه بنى. والبسط فى الصالون تركية وستائر النوافذ خضراء ومفروجة نصف انفراجة. فبان من ورائها البحر ممتدا ومتماوجا وأزرقا وهى تعزف على البيانو بحذق ومهارة. أصابعها المقصوصة الأظافر كانت تتراقص فوق أزرار البيانو.. فتخرج الأنغام مفروشات.. كعصافير صغيرة تنطلق لها أجنحة مخضبة. هى الآن تكلمه بلغة الموسيقى. هى تنقر له على البيانو، كتلك النقرات التى يرسلونها عبر اللاسلكى من السفن والموانى والأبراج العالية. نقرات صغيرة وخفيفة وتحمل آلاف المعانى. هى الآن كأنها تقول له بهذه الشفرة الخاصة… أنت لي!!
وهناك فى البعيد كان البحر يتعانق مع السماء !!
هو فى بلاده معروف بثوريته، هو ينقد كل شئ، فهو يريد لمدينته أن تكون مدينة فاضلة، ربما لا مدينته فقط أو وطنه فقط… هو يريد كل العالم أن يكون عالما فاضلا ينشد دائماً الفضيلة والكمال وهو الآن. فى هذا الزمان فى هذا المكان يشعر بأن أمنيته الخالدة تتحقق له لأول مرة ففى عينيها وجد ديناه. وجد عالما فاضلا وكاملا. وهو هنا يشعر شعوراً أكيدا وعميقا بأنه يعيش فى قلب العالم الذى حلم به. هنا فى عينى حفيدة أفلاطون ذلك الحد، الفيلسوف، الحالم الأول بالمدينة الفاضلة.
وفى المساء وقف هو على السور وأتت هى واتكأت بمرفقيها على السور بعيداً عنه.
هى تتأمل الغروب وهو يتأمل الشمس حجمها صار كبيرا وأحمرا وملتهبا كشهاب كبير وتوزع أشعتها فترتعش كل ملامح الأفق بالأضواء الشفافة المخضبة. كانت هى تقف كالعابدة السحب الصغيرة المتناثرة حول الشمس تقترب، تحاصر القرص الكبير، والقرص الكبير يفلت من شباكها بخفة ومهارة هو أيضا يرقب المباراة، هو متحمس للشمس ربما هى أيضاً متحمسة مثله للشمس، ويكاد هو يصفق عندما يرى الشمس تنفلت من سحابة صغيرة ماكرة ويقول. أووو…. جول.
كان وهج الشمس الأحمر ينعكس على مياه البحر. فيبدو وكأن ثمة مصابيح داخل البحر تملأ مياهه بالنور. كانت السفينة تواصل انزلاقها وطيور البحر الكثيرة البيضاء والرمادية تصوصو. وتتقلب فى الهواء وتتلاعب بأجنحتها.
وجوانب السفينة المطلية حديثا بطلاء أبيض تعكس الوهج الذهب فيرتد بالتالى معكوساً على مياه البحر التى تحف بالسفينة فتبدو السفينة كأنها تسير فى هالة من النور المتوهج.
السفينة تنزلق.. محلفة وراءها الأفق بشريطة الطويل العاصر بالأضواء والألوان والعبير.. لكن الأفق لا يبتعد.. إنه دائما على نفس البعد من السفينة. والسفينة تبحر وتسرع فى العوم. والأفق على نفس المسافة دائماً. كأنما هو مشدود بخيوط رهيفة تمتد تحت الماء إلى السفينة فتسحبه دائما وراءها بشمسه وسحبه الصغيرة وشريطه المتوهج.
البحر بساط تطويه السفينة والدنيا كرة. والكرة تدور والبحر لا يندلق ماؤه لأن الكرة تدور والناس والمدن لا تتقافز فى الهواء لأن الكرة تدور. ماذا لو توقفت الكرة لحظة عن دورانها. لو عطل صغير أصاب المكنة التى تديرها، فوقفت لحظة؟ماذا ؟ سوف تتناثر المدن.. فى الهواء سوف يندلق البحر فى الفضاء الكونى وسفينتهم هذه سوف تهوى فى الفضاء. ستتحول سفينة كونية تعوم فى الفضاء فى رحلة أبدية بلا محطات وبلا حبال تشدها إلى الرصيف. هى تبحر دوماً. لن تكون بحاجة إلى وقود ولا زاد. ولن يكون أمامها ميناء برية لتقف فيه ولا ميناء استانبول. هى سفينة بلا موانى. تعود فى بحر كونى بلا شطان. ولا ماء، ولا حدود. ولا قاع.
وعندها، عندما تنطلق نداءات الوداع الحزينة – تووت توت. توت – ستكون أكثر إيقاعاً وأكثر تعبيراً لأنها تودع عالما قديماً. ضيقاً متهالكاً. عالم عاش فيه الناس تفصل بينهم جدران من اللغات والأديان والأجناس والألوان حتى تصدع وأنهار وهوى. وتستقبل عالماً جديدا.. عالما آخر رحيباً واسعا نهائيا.
وهى عالمه الفاضل – ستكون معه فى السفينة الكونية. ستكون معه حواء الجديدة. وسيكون هو أدام الجديد. سيصنع معها بشرية جديدة بجنس واحد ولون واحد، ودين واحد وتتكلم لغة واحدة ونظر إليها بارتياح وتساءل بينه وبين نفسه… فى سذاجة- أتراها أيضاً تداعب مخيلتها نفس الأحلام؟
كانت هى ما تزال فى مكانها من السور.. تتأمل.. الوهج ينعكس عليها هى أيضاً على وجهها وشعرها، كأنها ليست كائناً بشرياً، بل هى كائنة من كوكب آخر. هبطت. إلى السفينة محتفظة بوجهها وهالة النور حولها.
والسفينة تبحر، والأفق كحمل وديع تسحبه وراءها، الدنيا قرص يتوهج، وطيور البحر الوديعة ما تزال تصوصو، وتداعب نسيم السماء بأجنحتها، واقترب عصفور بحرى رمادى اللون. وقف على السور قريباً منها. وتألقت فى عينيها فرحة طفولية، ووثبت.. مدت يدها لتمسك العصفور. العصفور وثب.. فوثبت خلفه، والعصفور يثب… وهى تثب.. العصفور يقفز وهى كذلك. وظل العصفور يثب.. وهى تثب.. العصفور يقفز وهى كذلك. وصل العصفور بجواره. اقتربت هى في خفة. مدت يدها ولم تطل يدها العصفور. اقتربت حتى التصقت به. جسده التصق بجسدها وذراعه التصق بذراعها. وأصابعه التقت قريباً من أصابعها وحملة يها حرقت كتفه الأيمن فقد مد هو أيضاً يده ليمسك لها العصفور. هى لحظة التحام بريئة. واستطاع أن يمسك العصفور. والتقطت هى نفسا طويلا دليل الارتياح التام ومرت أنفاسها بوجنته وبشفتيه وبأهداب عيونه. ثم ابتعدت وسلمها العصور وهو يهتز فى سعادة، وغمرته حالة من النشوة البديعة ولأول مرة يرى نفسه يقول بأنفاس مبهورة.
امسك ها هى لحظة السعادة؟
والعصفور فى يدها يريد أن يفر، ينتفض وينفش ريشة ويصفق بجناحيه ويعض أصابعها بمنقاره الصغير فى غيظ. ما الذى جاء بالعصفور الصغير هنا. ربما أتى ليصطاد له سمكة صغيرة. ولكن الصياد أصبح صيدا. يالك من صياد وديع وتعيس الحظ.
واستطاع العصفور أن يفلت من أصابعها. وحاول أن يمسكه لها إلا أن العصفور فر بعيداً.. وتابعاه… وهو ينشر جناحيه الصغيرين، ويطير بعيداً. وقال لها بعينيه وبإشارات من أصابعه لا بد أن عصفورنا الوديع له أنثاه، تنتظر عودته هناك على أحد الشواطئ البعيدة.
وضحكت.. رغم أنه كان واضحاً أنها لم تفهم ما يريد أن يقوله؟
وعادا ينظران إلى البعيد، كان القرص الكبير الأحمر، يقف على حافة البحر تماماً، كان يتهيأ للانغماس. وهو ينظر إليه. وهى تنظر إلى. كأن هذا الفرص لهما. وحدهما. يخافان عليه من الضياع.
كان قرص الشمس فى هذه اللحظة من الغروب يبدو تماما ككرة كبيرة جميلة ملقاة فوق البحر. بل لعله فكر فى أنه لو كان البحر يابسا لجرى إلى القرص الجميل ودحرجه بقدمه حتى أتى به هنا ولعب به معها مباراة ودية فى كرة القدم!
وتمنى لو أن القرص يظل باقيا على هذا الوضع لا ينغمس. لكن قرص الشمس بدأ تدريجيا فى الانغماس اختفى فى الماء المالح جانبه الأسفل.. وقال فى نفسه
- حتى هكذا … ليبقى.
ولكن القرص بسرعة انغمس حتى بقى نصفه. ونشر النصف الذى لم يغرق بعد وهجه على كل بقاع البحر – إذن يا إلهى – ليبقى حتى هذا النصف.
ولكن النصف واصل اختفاءه، بقى مجرد الجانب إلا على الصغير كقطعة صغيرة من الحمر تحرق الأفق:
وهذا الشطر الصغير. ألا يبقي؟
وانطفأ الشطر الصغير فى مياه البحر.. وانسحب من فوق العالم ذلك الرداء المتهوج الأحمر، كأن الشمس أعارته له لحظة، ثم عادت فسحبته!
ونظر إليها.
كانت فى عينيها نفس اللهفة. تبادلاً النظرات. كأنهما يقولان بتلك اللغة الأخرى المشتركة التى تتجاوز حدود هذه اللغات القاصرة الضيقة الحدود…
لقد ضاع قرصنا الذهبي؟
ومن حولهما كان السحر الذى ينبض به المكان.. قد بدأ يختفى فجأة ليعطى الفرصة لكآبة موحشة تظل تتحرك فى كل الزوايا.
وعندما قضياً جزءاً من أول الليل فى صالون السفينة مع بقية الركاب.. كان عندما يبادلها النظرات يشعر بأن بينه وبينها رصيدا كبيراً من الذكريات المشتركة. عن سفينتهما الكونية، وعن عصفورهما ذلك الصياد الوديع وعن قرصهما الذهبى الذى ارتشفه الأفق!
وفى عينيها كان يرى نفس المعنى !
وفى صباح اليوم التالى كانت بلاد اليونان تلوح فى الأفق شريطاً رفيعاً من الأرض!
وعندما وصلت السفينة إلى ميناء بيربه، وعندما أطلقت صفارتها بالتحية وعندما شدتها الحبال إلى رصيف الميناء كان هو ما يزال يستمرى سعادته، ولا يحاول أن يصدق أنها هنا ستنزل. وأنه لن يعود إلى رؤيتها. وأن عينيها حبتى الزيتون ستختفيان عن عينيه إلى الأبد!
- توت … توووت.. توت
السفينة تنشر مناديل وداعها لمدينة "بيريه"
وفى هذه المرة كان النداء الذى تطلقه صفارة السفينة يخلف حزناً مراً وقاتماً فى قلبه.. هو فى المقهى يلتفت حوله شمالا.. ويمينا.. باحثا عنها. كأنه لا يصدق إنها ليست فى السفينة، وإنها منذ لحظات نزلت إلى أرض بلادها وعندما لم يجدها بدأ يكتشف الحقيقة وبدأ يصدق أن فراشته الفاضلة طارت... وإنه فعلا لن يعود إلى رؤيتها.
وإن عينيها حبتى الزيتون حقا، ستختفيان عن عينيه إلى الأبد.
ولحظتها بدأ يشعر كأن عالمه الفاضل ينهار.. الفراشة الوادعة لها مخالب حملت بها عالمة السعيد طارت وتركته كطير بوم مسكين يعيش وسط عالم ملئ بالخراب كان كل شئ أمام عينيه يهتز وينهار.
حتى السفينة لا تعرف كيف تعوم، كأنما أصابها غثيان البحر. وهو. كان هو أيضاً يحس بغثيان البحر يسرى فى جسمه. فى حلقه. فى خلايا رأسه. الدنيا تلف به والسفينة تدور من تحته ورأسه يلف.ولأول مرة يكتشف أن السفينة مليئة بالعجائز، وإن الذين يشربون القهوة والشاى يشربونهما فى جلافة وقلة أدب بشفطات عالية وكريهة. وإن مناضد المقهى مليئة بحروق صغيرة بانت كالجروح المتقرحة. وإن الجرسون أظافر أصابعه طويلة ومتسخة. وإن التركية العجوز أم الأطفال أصرت على أن تنشر غسيلها القذر على حبال مدتها فوق السفينة. وضاق بالمقهى. فخرج إلى ظهر السفينة. شعر بمكانة المفضل بجوار السور كئيباً. هو من غيرها كئيب. والدنيا كرة تدور. ورأسه يلف ويدور. والأحزان فى رأسه تلف وتدور هى أحزان لزجة. ومقبض الباب فى غرفته أحس به فى يده كرة من عجينة. والبحر من النافذة الصغيرة لزج. والفراش عندما ارتمى عليه لزج.
والعالم كرة. كرة طرية لزجة. والألياف تملأ حلقة والسفينة فى وضع غريب. كأنها لا تسير. وهى أيضاً لا تقف. ولا تهوى. هى فى وضع شاذ غريب. البحر قد جف ماؤه. غول مخيف بشع له شوارب كبيرة يسيل من أطرافها لعاب لزج. وينبت فوقها شعر كبيرة كالشوك. ارتشف كل ماء البحر. وبقى البحر لا ماء فيه.
والسفينة لا ماء تحتها. هى تمخر فى القاع. تمخر بتلبك ويأس. فى وحول القاع وبلا فائدة. ونزلت من عينيه دموع لزجة.
الجراد
ذات مساء..
كان كل شيء فى القرية يسير فى نفس الخط الذى يسير عليه كل يوم. تماماً كما كان بالأمس وأول أمس، ومنذ عام مضى.
عمران يزاول مهمة رفع الماء من البئر بالدلو والبقرة، يقدم لمزروعاته وجباتها اليومية، كان يمشى ويرجع خلف البقرة عبر المجر المحفور فى الأرض. وكان الحبل الذى يجر على (البكرة) تتصاعد منه نغمة حلوة رتيبة، وعمران يغنى، ويستحث البقرة، ويهش عليها بالعصى ولا يضربها ويواصل رحلته التى لا تنتهى عبر مسافة لا تزيد بأى حال عن خمسة أمتار!!
والمبروك ¬الفأس بين يديه. والعرق ينز من جبهته العريضة. وأنفاسه تتردد مجهدة مبهورة. وهو يعزق الأرض فى بستانه الصغير.
والحاج سالم يحرس حقله الذى يموج بسنابل القمح والشعير، يطرد حماراً من هنا.ويصيح فى قطيع أغنام من جهة أخرى، ويرمى بالحجارة سرباً من العصافير نزل فى جهة ما من الحقل وأحياناً يجلس لينصب "المنداف" الكبير فى المكان الذى وجد به آثار أقدام ذئب أو ثعلب يتسلل تحت جنح الليل إلى حظيرة الدجاج.
وكل أهل القرية يزاولون أعمالهم اليومية. يتفرقون هنا وهناك. هذا يسوق قطعيا من الأغنام وقد ضاع صوته فى صياحها المتواصل – ما … ماع … ما..
وآخر يشمر عن ساعديه، ويفتح قدميه، واقفاً على حافة أحد الآبار يرفع الماء ويدلقه فى أحواض من الحجر لجمالة الكثيرة التى راحت تتدافع وتشرب الماء بنخير عال. فى حين يهمهم هو بصوت مجهد.
- يا ههم.. يا ههم … يا ههم.
كل شيء فى القرية كان هادئاً، طبيعياً ذلك المساء.
وفجأة (وكم هو شئ نادر فى القرية، أندر من الذهب هذا الذى نسميه فجأة) وفجأة أتى أحد الرجال مهرولاً، وأخذ يزرع صيحاته فى القرية، كأنه الندير، كان صوته مشحوناً بالحرقة واللوعة والخوف وهو ينبئ الناس فى القرية بأن "الجراد" على أبواب قريتهم الصغيرة. أن أرجاله التى لا حصر لها تنام هذه الليلة بالبطاح القريبة التى لا تبعد عن القرية سوى خمس كيلو مترات.
وكأنما استحال الناس فى القرية إلى مجموعة من المجانين يجرون هنا وهناك فى ذعر وخوف.
كان واضحاً أن كل إنسان فى القرية يشعر بأن وحشاً مخفياً يتربص له.. فى كل زاوية وكل منعطف، وتحت كل جذع شجرة.
والبعض من أهل القرية ذهبوا إلى شجيراتهم ومزروعاتهم يكحلون أعينهم بها، ينظرون إليها فى حنين ولهفة، فمؤكد أنها مع شروق شمس الغد ستستحيل على يد الجراد إلى مجرد ذكريات ليس إلا. والحاج سالم ذهب ليقف على رأس حقله ينظر إليه فى حسرة ولوعة، لم يغالب حتى الدمعة التى ترقرقت فى عينيه، ولأول مرة يرى الطيور تنزل فى الحقل فلا يرميها بالحجارة، ويرى الشياه تتقدم نحو الحقل فلا يصيح فيها بصوته المشروخ، كان واضحاً أن خبر الجراد يشل كل شئ فى الحاج سالم.
وكان لا حديث فى القرية إلا عن الجراد. ماتت حكايات الشيوخ على أفواههم. والنساء اللاتى يتجمعن فى أكوام أمام مستوصف القرية أو على البئر عندما يملئان الماء نسين فى تلك اللحظة أحاديثهن الأبدية عن النساء الأخريات أرحنهن من السلق فى مراحل السنهن. ولم يعد يشغل الجميع إلا هذا الغول الهائل الذى اسمه "الجراد".
الجراد الذى سيبدأ مع شروق شمس الغد غزوة المدمر لقريتهم الصغيرة، الجراد الذى سيستبيح كل شجرة فى القرية فيعريها من حلتها الخضراء، يجردها من ظلها الوارف، يحيلها إلى أعواد يابسة ميتة الجراد الذى سينزع اللقمة من فم الحاج سالم وعائلة المبروك وأبناء عمران وكل إنسان فى القرية. فهم جميعاً لقمتهم فى أشجارهم وزراعتهم. التى سيجعل منها الجراد… أثراً بعد عين.
الجراد الذى سيحيل كل شبر أخضر فى أرضهم إلى جذب وخراب والجراد.. الجراد.. الجراد. الجراد. الجراد.
ثمة أشياء كثيرة تجعل أحاديث الناس فى القرية تتوحد كأن يموت إنسان ما، أو يقبض البوليس على نفر فى القرية مهما بجريمة ما.. أو تصاب بالجنون امرأة عجوز إلا أن الشئ الذى يوحد أحاديثهم، ويوجد معها مشاعرهم ومصائرهم. والذعر فى خطواتهم وفى أعينهم. فهذا ما لم تشهده القرية فى تاريخها الطويل إلا هذا المساء. فالانفعال كان واضحاً فى نظراتهم. فى طريقة كلامهم. فى خطواتهم عندما يسيرون عبر دروب القرية.
وكعادة رجال القرية دائماً عندما يدق الخطر أبواب قريتهم الصغيرة، يشعرون دائماً بضرورة اجتماعهم بالمسجد. لهذا فبمجرد ما ارتفعت عقيرة عبد النبى بأذان المغرب. وحى على الصلاة.. حى على الفلاح… حتى هرول كل رجال القرية إلى المسجد. وكان المسجد لا يشهد مثل هذا التزاحم إلا فى حالتين، عندما يكون هناك عيد، وعندما يكون ثمة شعور بالخطر.
وإمام المسجد، كان أهل القرية يقفون فى حزمة واحدة كانوا أحياناً يتكلمون فى صوت واحد. كانت أصواتهم غاضبة. ووجودهم يغشاها حزن عميق. وأيديهم التى نفرت عروقها الزرقاء يلوحون بها فى عصبية ظاهرة.
وكان بعض الشيوخ قد مضى فى سرد حكايات قديمة عن الجرد. حكى أحدهم عن الجراد عندما هجم على قريتهم ذات مساء بعيد، ليحيلها من قرية مزهوة بوداعتها وجمالها وخضرتها، كالعروسة، إلى أرض خراب ينعق فيها اليوم. ومرت سنة طويلة قبل أن تسترد القرية ثوبها الذى نضاه عنها الجراد. وبالغ شيخ أخر فحكى حكاية قال أنها حدثت قديماً. عن عشرة من الرجال كانوا ينامون ذات ليلة فى مكان ما بإحدى الشعاب. وكان أن هاجمهم الجراد وهم نيام وفى الصباح لم يبق لهم على أثر، (نعم..حتى العظام حتى العظام أكلها يا إخوان) ثم يأخذ الخيط الفقى مصباح ليتكلم بطريقته الخاصة عن الجراد، فكان يرفع يديه إلى أعلى كأنه يتقى بهما صاعقة ستنزلها السماء فوق رأسه، ويفتح عينيه على وسعهما فى انبهار كما يفعل دائماً عندما يستحضر شرتوخ وشنبروخ وغيرهما مما يسميهم أصدقائى ملوك الجان. ويتطاير لعابه وترتج لحيته البيضاء الكثيفة، ويمضى فى كلامه، بأنه عندما تقضى إرادة الله العلية بإنهاء هذا العالم فإن ذلك سيكون على يد طوفان عظيم من الجراد، يرسله الله لفناء العالم، يأكل الرجال والنساء والأطفال، ويأتى على الحيوان والأشجار ويلتهم القصور (ومكن الحديد )أيضاً.
وحكايات فظيعة عن الجراد وخطر الجراد… والجراد. الجراد. الجراد. وكان الرجال الذين يقفون بوجوههم السمراء الغاضبة، ويشعرون بالمأساة تزاد عمقاً فى قلوبهم كانت أحاديث الشيوخ تشحن أعماقهم بمقادير هائلة من المقت، لهذا الجراد. يشعرون بأنه لا الموت ولا الطاعون ولا كل مصائب الأرض، بإمكانها أن تعادل مصيبة الجراد.
وتمتم رجل عجوز والشعور بالخطر يهز كل شئ فيه اللهم لطفك يارب. اللهم عفوك يارب وارتفع صوت يتساءل فى غضب.
والآن ماذا فكرتم لنا يا رجال؟؟
وتبعه آخر
نعم يا رجال، ما العمل يا رجال؟
وانبثقت أصوات كثيرة، إلا أن جميعها تتساءل، كان الجو مشحونا بإشارات الاستفهام التى تعقف رؤوسها فى حيرة، ما العمل ؟ ما العمل؟ ما العمل؟
وكان أول اقتراح من الفقى مصباح الذى قال إنه لا يجوز أن يفكروا فى غيره وهوان يذهبوا جميعاً هذه الليلة إلى ضريح سيدى أبو قنديل.
وهناك يضيئون له الشموع، ويطلقون له أبخرة الجاوى والفاصوخ واللوبان، ويتوسلون إليه بجاهه عند الله أن يبعد عن القرية هذا الخطر. وبعد ذلك بإمكانهم أن يرجعوا إلى بيوتهم ويناموا هانئين فسيدى أبو قنديل سوف لن يخيب رجاءهم، سيبعد الجراد عن طريق قريتهم فى التو والحين.
إلا أن اقتراح الفقى مصباح سرعان ما ضاع فى غمار الاقتراحات الأخرى، التى كان من بينها اقتراح عمران الذى أنصتوا إليه بتمعن، ذلك لأن عمران فى الأربعين من عمره أى بمعنى أنه تجاوز سن الطيش وهذه ميزة. والأخرى إنه لم يصل بعد إلى أرذل العمر وهذه ميزة أكبر. وكان اقتراحه يقضى بأن يضرموا النار فى جهات متفرقة من البلدة فربما يتخذ الجراد وجهة أخرى غير وجهة القرية عندما يرى الدخان. ولأنه ليس هناك ما يؤكد أن الجراد سيتخذ عندما يرى الدخان وجهة أخرى فإنهم سرعان ما عادوا يمدون أعناقهم ونظرائهم فى انتظار اقتراح أخر، رغم عمران الذى كان يحرك قبضته ويحرك رأسه أيضاً فى غضب، مدافعا عن اقتراحه وكان المبروك يغرس رأسه إلى أسفل ولم يقل شيئاً، جسمه فقط كان يتململ فى غير ارتياح وكأنه يجلس على قرية نمل. (والمبروك فى الخامسة والعشرين من عمره، جبهته عريضة، ووجهة يضرب إلى السمرة، وعيناه كالشعلتين تعلوها حواجب خفيفة الشعر، والده مات وترك له أسرة كبيرة وبستانا صغيراً يستنزف جهد المبروك اليومى وهو بالكاد يتمكن عن طريق البستان من انتزاع لقمة العيش للأسرة الكبيرة).
وكان الفكرة التى تتردد بين جدران دهنه، تبدو له أحيانا مضحكة. وكان خائفاً من أنه لو قالها لضج الجميع بالضحك، وربما خامرهم الشك فى سلامة عقله..
وكان ما يزال يفكر وهو ساهم ساكت..
ولكزه أحد الجماعة لينبهه إلى أنهم يسألونه رأيه فى الاقتراح الذى قاله الحاج سالم، والذى يريدهم أن يستعدوا لمطاردة الجراد القادم غداً للقرية، بإحداث صخب وضجة بطرق الحديد، وضرب الدفوف، ودق النواقيس، ورن الزجاجات الفارغة، وعن طريق هذه الضجة الصاخبة سوف تغادر أرجال الجراد القرية بمجرد الوصول إليها وتسلم بذلك القرية.
وكان هذا الاقتراح وحده الذى ما زاغت النظرات ولا امتدت الأعناق والأذان فى انتظار غيره…
فالقوم بدءوا يفكرون – جديا – فى العمل به. ولهذا هم يسألون المبروك وبدأ له أن هذا الاقتراح أيضا سخيف. ونظر إلى وجه القوم. كانت سحناتهم مغبرة. وبشرة وجوههم الضاربة إلى الاستمرار مشدودة فى حزم… وتراءى له فى هذه اللحظة أن الفكرة التى تترددين بين جدران ذهنه، ليست بأى حال من الأحوال أسخف مما قاله الحاج سالم. وعندما قال له مزارع طويل… شنبه كذلك طويل..
تكلم يا مبروك ما بك. أنت ساكت هكذا لماذا؟
ألم تعجبك فكرة الحاج، أتراها لا تنفع ؟
وجد المبروك نفسه، فجأة يقول.
- نعم.. أرها لا تنفع.
وأستغرب الجماعة.
كان الحاج سالم مقدم الاقتراح يشحذ عينيه وينظر إلى المبروك فى اندهاش. كيف لا تنفع؟ وعندما، سمع المبروك يقول بأنها لا تنفع لأن الجراد عندما يطردونه من جهة فإنه سوف يذهب إلى جهة أخرى، تم حتى لو تم طرده من القرية فإنه سوف يذهب إلى بلدان أخرى فيها ناس. وفيها زرع وفيها قلوب تنبض.
وعندما قال المبروك ذلك وجد الحاج نفسه بحاجة إلى أن يدافع عن اقتراحه. إلا أن المزارع الطويل تولى عنه المهمة عندما قال بصوت مشحون بالتعجب والاستغراب..
- ما هذا الكلام يا مبروك ؟ هل تريد عندما يأتى الجراد إلى قريتنا أن نوقع معه عقداً بألا يزعج القرى المجاورة، التى بها ناس وزرع وقلوب تنبض؟؟
وانتهز الحاج سالم الفرصة ليواصل الدفاع عن اقتراحه الذى يهمنا جميعاً هو أن تكون أرضنا وزرعنا بمنجى من خطر الجراد، وليس ثمة رأى أحسن مما قلت لكم ؟ وارتفعت أصوات أخرى.
هى فكرة الحاج سالم، لن نجد فكرة أحسن منها. إلا أن المبروك استمر مواصلا كلامه، وكان أحداً لم يقاطعه.
فما رأيكم الآن، أيها الأخوان، فى فكرة أخرى ؟ كان الليل من حولهم بدأ يسدل سدوله. والوجوه أصبح لونها مبهما يلفه السواد..
ونسمات ما بعد الغروب تهب عليهم.. تلفح وجوههم.. وتحرك بعضهم يسوى نقاب عباءته.
واشرأبوا بأعناقهم، فى حين ابتدأ المبروك يسرد فكرته … كان واضحاً إنه الآن يستشعر اقتناعاً عميقاً بالفكرة التى سيقولها. وكانت سيماه تتخذ سمة القائد الذى يشرح لجنوده عملية حربية دقيقة..
فكرتى هذه … أن نأكل نحن الجراد بدلا من أن يأكلنا هو. ومن خلال الظلام تبادل الجماعة نظرات حائرة ماذا يقول المبروك؟
وأفصح أحدهم عما يدور فى ذهنه.
… لم نفهم…؟… كيف نأكله؟!
ربما كان الأمر مفهوما، إذا ما كان يتعلق بعدة جرادات طائشة يمسكها الأطفال. فيقتلونها ويأكلوها. ولكن من أرجال لا حصر لها فهذا هو العجب.
كان يبدو أنهم على استعداد لهضم جبل بأشجاره وتحاريشه وحشراته على أى يهضموا هذا الكلام. وبما أن ما قاله المبروك شئ عجيب.. فلم يكن مستغرباً أن يرين هذا السكون على الجماعة لينصتوا بوضوح إلى ما يريد أن يقول سى المبروك.
وعندما مضى المبروك يوضح فكرته لم يستطع الجماعة أن يغالبوا رغبتهم فى مصمصة شفاههم وتبادل النظرات الحائرة التى غالبا ما كانت ترافقها شفاه مقلوبة وكان مجمل فكرة المبروك التى مضى يوضحها فى خطاب طويل.. أنهم فى هذه الليلة وفى الساعات الأولى من السحر… تماما تماما … يجب أن يكونوا مجتمعين فى الطرف الجنوبى من القرية على ألا ينسى كل واحد منهم أن يأخذ معه شوالا فارغاً فأمامهم معركة لم تعرفها عهود المعارك من قبل معركة السلاح فيها شوالات فارغات ومن ثم يتجهون إلى حيث ينام الجراد – وهو عادة لا يستيقظ إلا عندما تلهبه أشعة الشمس – وهناك يعبئون الجراد النائم داخل أكياسهم الفارغة حيث يعودون إلى بيوتهم ليسلقوه فى مراجل سوداء ولينتقل الجراد من أجواف الجيش إلى أجوافهم هم وتكون أروع عملية إبادة عرفها تاريخ الجراد.
وما كاد ينتهى المبروك من إيضاح فكرته حتى كانت التعليقات الساخرة، ترتفع من كل مكان فى هذا الجمع الصغير…
هذا جيش. جيش من الجراد. ليس جرادة ولا جرادتين.
جيش بالملكة التى تحكم عرشه.
وهمهم الجميع فى سخرية. وانتهز الفقى مصباح هذه الفرصة فرجع يذكر الجماعة برأيه الأول قائلا بأنهم يجب أن يسرعوا من الآن بالذهاب إلى ضريح سيدى أبو قنديل، شيخ الأولياء والصالحين.
وفى هذه اللحظة كان الظلام يستحكم أكثر فأكثر. وكثير من الأطفال أتوا يستدعون آباءهم إلى العشاء.. وقالت لك أمى العشاء برد.
وكان المبروك يشعر بأن الجماعة لم يتمعنوا جيدا فى الرأى الذى قاله.. وكان يهم بتوضيحه أكثر…
اسمعوا يا إخوان..
واستمر بعد أن هدأت الضحية
حسب ظنى يا رجال، كلام المبروك لا يخلى من صواب.
لكن هذا جيش من الجراد الذى إذا انتشر فى الجو حجب السماء عن الأنظار. ويريد المبروك من هؤلاء المجتمعين الذين لا يزيدون عن الخمسين نفرا جمع الجراد والقضاء عليه. هذا هو المستحيل بعينه.
وأطرق الشيخ مسعود برأسه قبل أن يقول.
ولماذا هؤلاء الخمسون نفرا فقط؟ لماذا لا تخرج القرية كلها بكبارها وصغارها، العجائز والكهول والأطفال والنساء والشباب، ويشارك الكل فى عملية جمع الجراد وران سكوت..
فقد فتح الشيخ مسعود نافذة جديدة على اقتراح المبروك بقوله هذا… كان واضحاً أنهم الآن يراجعون أنفسهم حول اقتراح المبروك.
وكان أول الرافعين رأيه التأييد الحاج سالم.
وأنا كذلك أقول …. أن رأى المبروك ليس به عيب وتوالت التأييدات.
والله صحيح، لماذا لا نجرب هذا بالليل، وإذا لم تنفع لجأنا بالنهار إلى فكرة الحاج سالم.
ونضرب عصفورين بحجر. نقضى على الجراد من جهة. ومن جهة أخرى نتحصل على أكل أطفالنا ليومين أو ثلاثة.
شخص واحد فقط. هو الفقى مصباح رفض بشدة هذا الاقتراح المجنون… حيث قال.
أنتم مجانين، لا شك أنكم جميعاً مجانين.
ثم دق الأرض بعصاه، وغادر الجماعة غاضباً. كان واضحاً أن يتعجب لهؤلاء القوم الذين يتركون رأيه الرزين… ويتبعون اقتراحاً مجنوناً يقوله طفل صغير كالمبروك.
وانفض الجميع…..
وفى أول ساعات السحر… تماما … عندما كان ديك فى مكان ما يؤدون وكلب ينبح النجوم. وعواد ذئب حمله الريح. من مكان بعيد بعيد. فى هذا الوقت تماما كان الطرف الجنوبى من القرية يشهد لقاءا من نوع لم يعرفه التاريخ الاجتماعات فى هذه القرية من قبل.
كان عددهم كثيراً… كثيرا جدا … وقد عبر عاشور فعلا. عما يدور فى أذهان الجميع عندما قال أنه لم يكن يتصور أن القرية تضم ذهاء العدد الكثير من الناس.
وكانت الصفة الوحيدة التى تجمع بينهم هى هذا الشوال الفارغ، والملقى على كتف كل واحد منهم أما فيما عدا ذلك فهم خليط عجيب من الرجال والنساء والعجائز الذين تحنى السنون هاماتهم والأطفال الذين لم يمنعهم الليل ولا البرد من أن يتقافزوا هنا وهناك.
وكانت واحدة من النساء قد أحضرت معها طفلها الرضيع وعامر أتى يركب حمارة. أما عبد النبى فقد أحضر معه عربة اليد الصغيرة ليضع بها شوالين أو ثلاثة من الجراد وكان عدد من الكلاب يهرول فى أعقاب ركبهم.. يشكل ذيل طويل للركب.
وسار ركبهم الكبير يختلط فيه نباح الكلاب. مع نهيق الحمار مع صليل عربة اليد الصغيرة. مع الصوت الصادر عن أقدامهم التى تضرب عبر الأرض الواسعة.
ورغم أن الربيع يوشك على الفوات … إلا أن النسمات فى هذه الساعة من السحر… باردة باردة، بحيث تجعل وجوههم تلتهب وأذانهم وأنوفهم تحتقن وتحمر. أنهم يشعرون بهذه النسمات محملة بعبير أشجارهم ومزروعاتهم بل كان واضحاً أن كل فرد يضمه هذا الجمع يميز الآن فى هذا العبير… رائحة شجيرات البرتقال فى بستانه. أو سنابل الحنطة فى حقله. أو البلح فى شجيرات نخلة ولم يكن ثمة قمر يضيء المكان عندما كانوا يسيرون. إلا أن النجوم التى تلمع كأنها عيون السماء.. ما يزال ضوءها يبدد شيئاً من الظلمة.
أما عندما وصلوا المكان الذى ينام فيه الجراد فإن أعمدة الفجر النورانية التى يفجر بها الأفق كانت كافية لتنير أمامهم المكان بحيث يستطيعون جمع الجراد بسهولة.
وكان هذا الأفق يبدو أحمراً ملتهبا.. كان يبدأ حمرته من رئوس القرون الضاربة الى الزرقة ثم يتصاعد بها حتى تتلاشى فى السماء السوداء وكان التهاب هذا الأفق فيه حيوية ونبض وحركة.. حتى ليتهيأ لك أن نارا إلهية هائلة تستعر خلف هذه القرون. تجعل الأفق يلتهب بهذه الصورة.
وكان الجراد قد اختار لنومه هضبة عريضة انتشر فوقها. كان يبدو تحت أضواء الفجر وكأنه حقل كبير لا ينتهى من سنابل الحنطة المصفرة فى لون الذهب التى حان أوان حصادها.
وكانت لحظة البدء فى العملية…
وابتدأ القوم يستعدون. خلع الرجال عباءاتهم ورموها فى أكوام متفرقة. وربطوا الأحزمة حول بطونهم. وشمرا سواعدهم السمراء التى ينزرع فوقها الشعر. وأصحاب السراويل الفضفاضة شمروا عن سيقانهم أيضاً واختارت أم الرضيع مكانا
التعليقات