إن العالم بقواه الفكرية والسياسية، لا يحترم إلا القوي، فالقوة التي تتبعها إرادة هي ما تصنع تاريخ الشعوب، بعيداً عن كل ما يتخيله الفرد من مداهنات عالمية خارجية!

فأولى القوى، هي القوة النفسية وقوة العقيدة، بحيث إن المعتقد نفسه هو ما يمنح تلك الإرادة قوة دافعة نحو تحقيق الأهداف.

أذكر أنني في عام 2001 قد كتبت نصاً مسرحياً بعنوان (حينما تموت الثعالب)، هذا النص كان يناقش تلك القوى الخارجية، التي تعمل على ما يسمى التلاعب بالعقول، وهو ما يدعى في علم النفس الانزلاق الوجداني والتسرب الانفعالي، وهو تطويع كل الرسائل الإعلامية والأدبية والثقافية لهدف ما، في سبيل ذلك التسرب إلى الوجدان حتى يصدق الفرد كل ما يتلقاه من فكر وثقافة؛ إذا لم تعتمل دماغه للتحليل والتفسير بسؤال ماذا في هذا؟

وفكرة النص، أن هناك شاباً دخل مع خطيبته إلى مطعم لم يدخله من قبل؛ إلا أن كل من فيه يوهمونه بأنه زبون دائم، ويقدمون له القهوة مع البسكويت بإقناع تام بأنه طعامه المفضل. ويتواصل الإقناع إلى أنه هو سبب دمار العالم وأنهم سوف يموتون جميعاً بسبب فعلته، في حين إقناعهم له أن المطر بالخارج غزير وأن الثلج يغطي المكان وهو في شهر يوليو، ثم يستمر ذلك الإقناع بأن المكان يغوص في الطين ويختنقون جميعاً، موت تمثيلي كموت الثعالب. حينها يشنق الشاب نفسه لأنه صدق أنه السبب في دمار العالم، وبعدها يستفيقون ويأكلونه على طقس الفطيرة المقدسة تحت شعار الثعبان الملتف على غصن الزيتون.

حينها في مناقشتنا حول هذا النص، كان يعارضني كثيرون حينما قلت إن العربي لا ند له، لكن السبيل في هزيمته هو صنع الهزيمة من الداخل فحينما ينهزم الإنسان من داخله لن يبقى له باقية، وتلك هي الانهزامية الكبرى، فلا تسقط القلعة لكثرة المحاصرين لها، لكنها تسقط حين يتساءل حماتها عن جدوى حمايتها.

في هذا الشأن يقول سمو الأمير خالد الفيصل في كلمة له: "دعونا نقولها بكل صراحة الحال اليوم في الوطن العربي لم يعد كما كان في السابق، وهذا الوضع هو وضع التجدد في الثقافة والفكر والأسلوب، في الإدارة والمسؤولية، ولكن هناك عناصر تجهلها ولا تتحدث عنها وأن تهملها وأن تهمشها بل توصمها بالرجعية وبالتبعية وبالجاهلية. تحدث الكثير عن الوحدة العربية التي لم تتحقق. هناك وحدة عربية نجحت بعد الحرب العالمية الثانية سميت بالمملكة العربية السعودية".

ففي هذا السياق يتحدث سموه عن قوة الإرادة، وكيف تدفع المجتمعات إلى القوة والرفعة والعلم والاستقرار، ويسوق مثالاً في حديثه عن توحيد المملكة على يد المغفور له الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه-، كيف جعل من مجموعة إمارات متناثرة في مساحات واسعة دولة عظمى، ينتقل أفرادها من القبلية والبداوة إلى مصاف الدول العظمى، ويستاء سموه من تهميش هذا المثال الذي يُقتدى به لصنع الشعوب ونمط أسلوب حياتهم.

فتطور المجتمع السعودي من تنظيماته القبلية إلى مستوى الأمة الواحدة بسلطتها المركزية، قد بدأ مع مطلع القرن العشرين ويرجع الفضل في النمو الثقافي والاجتماعي في المجتمع السعودي، إلى جلالة المغفور له -بإذن الله- الملك عبد العزيز آل سعود، الذي وحد أجزاء المملكة، وأقام الدولة الحديثة ووضع أسس الإصلاح والنهوض الاجتماعي والاقتصادي الشامل للمجتمع العربي السعودي، حيث إنه وضع أساس الحكم المحلي، مع التركيز على ربط تلك الوحدات المحلية بالحكومة المركزية، ونظم القضاء والعدالة في دولته.

وبذلك يكون انطلاق المجتمع إلى التطور بفضل فكرة الدولة التي أنشأها جلالته، فقد وضع باختصار لكل الأنظمة الحكومية الحديثة تنظيماً لكافة الأعمال، والأنشطة العامة والخاصة وتبعاً لمقتضيات التنمية. ولقد استطاع جلالته -رحمه الله- بهذه الأنظمة الحديثة أن يغير الكثير في البنية الأساسية للمجتمع وأن يضع بداية سياسات التنمية الثقافية والاجتماعية، والاقتصادية، في حين أنه أدرك أن البداوة تشكل إحدى الخصائص المهمة في المجتمع، وعنصراً بشرياً رئيساً من عناصره. ومن ثم كان اهتمامه بالنهوض بهم لأنهم يمثلون السلسلة الفقرية للدولة وعمادها، فكان ربطهم بالأرض واستقرارهم بها مطلباً أساسياً لتحقيق التقدم.

فقد كانت بداية التطور والتحديث بتوطين عدد من القبائل ومدها بالخدمات الضرورية فضلاً عن المخصصات المالية التي كانت السبب تطور البنية التحتية في المملكة ونهضتها.

ولقد كان التوسع في التعليم وخاصة المرأة من أهم المظاهر العامة للتغيير الاجتماعي في السعودية، فكان يستهدف تعريف الطلاب بالإسلام معرفة صحيحة بأسلوب واضح، وغرس ونشر العقيدة وتزويد الطلاب بالقيم والتعاليم والمثل وتزويدهم بالمهارات المختلفة والمعرفة، وذلك للعمل على تطوير سلوكهم في اتجاه بَنّاء، وإيجابي، وتطوير المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وثقافيًا، حتى أصبح شبانهم وشاباتهم اليوم يحصدون الجوائز العالمية؛ فمن ذا الذي يصدق بأن هناك هيئة للبيانات وللذكاء الاصطناعي (سدايا)، وأن المملكة أصبحت هي الأولى عالمياً في هذا المجال.

لقد كان التعليم السعودي في الماضي القريب -لمحة بصر بمقياس التاريخ- دينياً إلى حد بعيد، ويسيطر عليه علماء الدين، ومع بداية الأربعينات من القرن الماضي -وفي عهد الملك "عبد العزيز"- بدأت الحكومة السعودية تنشئ المدارس وتولي الاهتمام الواجب لهذا القطاع المهم من قطاعات التنمية الاجتماعية للشعب السعودي.

وبطبيعة الحال هناك بالفعل تجربة عربية عالمية لم تحدث من قبل في الوحدة، وكيف صعد نجمها بسرعة الضوء بقياس الزمن، في وقت لا يتجاوز المائة عام لتكن في مصاف الدول العظمى بل تسابقها إن لم تكن على مستوى الند بالند في كثير من الأحيان.

وبذلك لا بد أن يعي العربي مقدار نفسه ومدى قوته، فهو ابن الصحراء وفارسها بجيناته المتوارثة التي تكمن في ذاته مهما طرأ عليها من تغيرات، فقوة الذات والإيمان بالقوة المكتسبة والمتوارثة لديه لا تضاهيها قوة، وهو ما جعل الإعلام الغربي يستخدم القوى الناعمة -كما في كتاب التلاعب بالعقول لكاتبه الأميركي (هربت شيلر)- لتفتيت الذات وإذابتها تجاه قوى عالمية تعمل لهذه الذات ألف حساب.