غابريل غارثيا ماركيز مازال حيا يدهش الناس بإبداعه المتفرد، إنه في روايته الأخيرة الصادرة هذا العام " ذكريات عن عاهراتى الحزينات " يقدم لنا درسا في فني الكتابة والحياة معا. يعود ماركيز في هذه الرواية إلى أسلوبه الأثير الذي عرف به في بداية حياته الأدبية ! حيث التقتير الشديد في الوصف والعودة إلى الحوارات السريعة المتلاحقة التي قد تربك القارئ في بعض الأحيان، ما لم يكن منتبها خلال القراءة، مع التأكيد الدائم على أجمل ما قرأ من كتب أو سمع من موسيقى، فيذكر تلك الأعمال وكأنه يريد التأكيد دائما على ثقافته الواسعة في تلك المجالات الحيوية لأي كاتب مثقف. ولعل أهم درس يقدمه لنا ماركيز في هذه الرواية هو توظيفه الجيد للعتبات النصية، فثمة ترابط بين العنوان والتصدير الذي صدر به الرواية والبداية الروائية والفقرة الختامية للنص الروائي، فبدت روايته هنا مثل كائن عضوي متناسق الأعضاء مكتمل النمو، ترتبط بدايته بنهايته، ويضحى من المستحيل حذف أية جزء من النص الروائي، فكل شيء في النص موظف في مكانه، ويقوم بدور فعال في إثراء دلالة النص ويصب في النهاية في الفكرة المركزية للنص أو فحوى الرواية كما يقال عادة في أدبيات النقد القصصي التقليدي.

بعد العنوان" ذكريات عن عاهراتى الحزينات " يصدر ماركيز مباشرة الرواية بمقطع قصير من رواية( بيت الجميلات النائمات) للروائي الياباني المعروف ياسوري كواباتا : " ما كان يجب عليك أن تفعل شيئا منافيا للذوق، حذرت العجوز "ايحوشى" سيدة الخان، ما كان يجب عليك أن تضع إصبعك في فم المرأة النائمة أو تفعل شيئا مشابها ".

ما الذي في هذه العبارة، امرأة نائمة وتحذير على لسان ايحوشى العجوز من عمل شيء مناف للآداب مع هذه المرأة النائمة، وبقطع النظر عن دلالة ذلك في النص الأصلي عند الروائي الياباني، فإن العبارة هنا صارت عتبة من عتبات نص ماركيز، ولا نبالغ إذا قلنا صارت جزءا من النص الروائي، لقد التزم عجوز ماركيز التسعينى بهذه الآداب مع المراهقة العذراء، فتركها نائمة عارية كما ولدتها أمها دون أن يضع إصبعه في فمها أو يفعل شيئا مشابها، فهذه العبارة مرتبطة ارتباطا عضويا ببناء الرواية وفكرتها الرئيسية المتمثلة في احترام جسد المرأة ومن ثم روحها بعد ذلك، وهو ما فعله العجوز مع الفتاة الصغيرة العذراء والتي أطلق عليها اسم " ديلجادينا ".

وإذا انتقلنا إلى عتبة أخرى من عتبات النص وهي عنوان الرواية " ذكريات عن عاهراتى الحزينات " نجد ثلاثة ألفاظ متوالية : ذكريات / عاهرات / حزينات، اللفظ الأول مرتبط بالماضي لذلك نجد أن معظم الحكي والأحداث تأتي عبر ذاكرة الراوي العجوز الذي يريد الاحتفال بعيد ميلاده التسعين، أما عاهرات فجمع عاهرة وهي إشارة واضحة لكثرة العاهرات اللائى مررن بحياة الراوي العجوز من ناحية وإدانة لهذا المجتمع السياسي والحضاري الذي يهين المرأة وينظر إليها في النهاية بوصفها متعة أو شيء قابل للاستخدام سواء في الجنس أو في العمل، فالفتاة العذراء في الرواية في الأصل عاملة في مصنع، تعمل يوميا في تثبيت الأزرار وهو عمل صعب جدا على حد قول صاحبة البيت السري"روسا كاباركاس"، واللفظ الثالث " حزينات " فوصف للعاهرات يشي بتعاطف الراوي العجوز معهن، وهو وصف في ذات الوقت يسمو بهن مما يؤكد إنسانية العاهرة وحقها في أن تعيش حياة كريمة، وهو ما يتلاءم والفكرة المركزية في النص كما أشرنا آنفا.

أما العتبة الثالثة التي تستحق الوقوف عندها بتأنِ فهي الفقرة الاستهلالية في الرواية أو البداية الروائية، والتي يمكن تحديدها بالفقرة الأولى من نص الرواية الكلي : " عندما أكملت التسعين من عمري أردت أن أهدي نفسي ليلة حب مجنونة مع مراهقة عذراء، تذكرت (روسا كاباركاس) صاحبة بيت سري اعتادت على الاتصال بالزبائن المميزين عندما يكون لديها شيء جديد،لم أذعن أبدا لها ولا لأي من العروض المغرية الكثيرة لكنها لم تكن تصدق نقاء مبادئي. أيضا من الطبيعي التفكير في موضوع الزمن، كانت تقول بابتسامة خبيثة سنرى، كانت أصغر مني قليلا، فقدت الاتصال بها منذ سنوات عدة لدرجة أنني فكرت أنها ربما تكون قد ماتت ولكن مع رنة الجرس الأولى تعرفت على صوتها في التليفون، وقلت لها مباشرة وبلا مقدمات :

ـ اليوم نعم " (الرواية ص 17. ).

تأخذنا هذه البداية مباشرة إلى قلب الأحداث، وفي ذات الوقت تجابهنا بالشخصيات الرئيسية الفاعلة في النص، الراوي العجوز وروسا كاباركاس صاحبة البيت السري، والفتاة العذراء التي ستظل بلا اسم سوى الذي أطلقه عليها الراوي وفي هذه البداية أيضا نجد ماركيز يصف كل شخصية وصفا بسيطا محددا ولكنه عميقا حيث يحدد الملمح الرئيسي للشخصية، فالراوي العجوز زبون مميز ذو مبادئ نقية وإن كانت صاحبة البيت السري لا تصدق ذلك، ولا يعنينا من صاحبة البيت السري سوى أنها صاحبة ابتسامة خبيثة مما يشي بالذكاء والخبرة، أما الفتاة فلا يمكن أن نعثر لها على ملامح محددة واضحة سوى ما يريده لها الراوي العجوز أو ماركيز نفسه وهي أن تكون مراهقة عذراء وهو ما تحقق في النص فيما بعد.

إذن في هذه البداية يحدد ماركيز خطة السير في الأحداث وهي أحداث في الواقع بسيطة وقليلة في المتن الحكائي، حيث ينتقل الراوي العجوز وهو صحفي يكتب مقالا أسبوعيا في إحدى الجرائد المحلية بالمدينة لعدة ليال من مسكنه إلى منزل" روسا كاباركاس" السري في المدينة نفسها، ليلقى المراهقة العذراء في غرفة خاصة من غرف المنزل، فيمكث معها من العاشرة مساء ( حيث تكون قد أنهت عملها في المصنع وعشت إخوانها وأمها الكسيحة وأخلدتهم جميعا للنوم ) إلى الصباح، والفتاة التي تكون قد شربت شرابا مخدرا تنام عارية بينما يتأمل جسدها العجوز دون أن يفعل شيئا يسيء إليها، وكأنه قد التزم بما جاء في عبارة ياسوري كواباتا التي صدر بها ماركيز الرواية.

ومع تكرار هذه اللقاءات التي انقطعت في بعض الأحيان، وهو انقطاع كان يؤكد حاجة العجوز الملحة للفتاة فسرعان ما يبحث عنها ويعود اللقاء من جديد بفضل العجوز صاحبة المنزل، تتغير نظرة الراوي العجوز للحياة، فتتحول طريقته في كتابة المقالات الأسبوعية، وفي ذات الوقت تجعله الفتاة يعود عبر الذاكرة والواقع إلى من عرفهن من النساء في حياته وتجعله يرى أنه كان يمكن لحياته أن تتغير لو كان واعيا إلى علاقة صحيحة مع المرأة، ومع تغير هذه النظرة يفضي الراوي العجوز برغبته إلى صاحبة البيت السري في ترك كل ما يملك للفتاة، وعند ذلك تتفق رغبتا العجوزين، فصاحبة المنزل على استعداد هي الأخرى للتنازل عما تملك للفتاة أيضا، ولكن المفاجأة السارة التي تكتمل بها سعادة الراوي العجوز ومن ثم النص أيضا أن هذه المخلوقة الضعيفة على حد قول صاحبة المنزل تموت حبا في الصحفي العجوز، وهنا تعرض صاحبة البيت على الراوي ترك منزله والإقامة مع الفتاة في الغرفة. لا يقول لنا ماركيز إذا ما كان العجوزقد انتقل إلى الغرفة أم لا بشكل مباشر، ولكنه يترك لنا الإجابة واضحة في الفقرة الأخيرة، إنها نعم التي رد بها على" روسا كاباركاس" في الفقرة الاستهلالية، ولا تأتي في الواقع جمال هذه النهاية في ارتباطها ببداية الرواية فحسب، ولكن لأنها تلخص في الأخير فحوى الرواية المتمثلة في تقدير المرأة جسدا وروحا وإننا مهما كان الأمر ومهما كان السن علينا أن نغير نظرتنا إلى المرأة وهو ما نحتاجه بشدة في مجتمعنا العربي، يقول ماركيز في ختام الرواية : " خرجت إلى الشارع متألقا وتعرفت على نفسي لأول مرة في الأفق البعيد لقرني الأول، كان بيتي صامتا ومنظما في السادسة والربع، بدأت استمتع بألوان الفجر السعيد، كانت دميانة تغني في المطبخ بأعلى صوتها والقط الذي استعاد عافيته لف ذيله حول كعبي وواصل المسير معي إلى أن وصلت طاولة الكتابة، كنت أنظم أوراقي المجمعة والمحبرة وريشة الإوز، عندما انبثقت الشمس من بين يدي أشجار اللوز في الحديقة العامة، وسفينة البريد النهري وصلت متأخرة عن موعدها أسبوعا بسبب الجفاف، دخلت هادرة إلى قناة الميناء أخيرا كانت الحياة الواقعية، وقلبي سليم ومحكوم عليه أن يموت بحب طيب في نزعات سعيدة لأي يوم من الأيام بعد أعوامي المائة "(الرواية ص 126. ).

إن هذه النهاية تعد في رأيي أنموذجا لما يجب أن يكون عليه ختام الرواية، أي رواية جيدة، وهو درس آخر يقدمه لنا الروائي العجوز ماركيز في فن القص، فثمة مفردات وجمل في هذه الفقرة تعد كشافات مضيئة لمناطق كثيرة في النص وفي ذات الوقت كشافات مضيئة لما سيصير إليه الراوي ومن ثم المتلقي أيضا. فدميانة وهي خادمة العجوز تغنى بصوت مرتفع وكأنها تشاركه فرحته والقط العجوز الذي كان على وشك الموت استعاد عافيته ولف ذيله حول كعب الراوي العجوز ودخلت السفينة إلى الميناء هادرة بعد أن انتهى الجفاف، أما الراوي نفسه فمتألق وقد تعرف على نفسه لأول مرة، وأصبحت حياته لأول مرة واقعية وقلبه سليم ومحكوم عليه أن يموت بعد المائة وهو مضمخ بحب طيب.وهكذا لا تعد هذه الخاتمة عتبة خروج بقدر ماهى عتبة دخول للنص والحياة معا، ترى هل وعينا درس ماركيز ؟!