آخر محطة للحريري كانت في مقهىً مع الصحافيين
مقاهٍ أفل نجمها وأخرى ظلت تسطع
الحرية في لبنان على حدود الطاولة


فادي عاكوم من بيروت: لا شك أن الدور الكبير الذي لعبته المقاهي الثقافية في لبنان كان لها دور هام، ليس على صعيد لبنان و حسب، بل على صعيد الوطن العربي ككل،فروادها كان لهم الفضل الاكبر في اطلاق الكثير من الحركات التحررية العربية، بالاضافة الى البصمات الواضحة في حركة التحديث في الشعر و الادب، حتى ان القصيدة النثرية الحديثة اتت من قلب هذه المقاهي، و يكفي ذكر الاسماء التي كانت ترتاد هذه الاماكن حتى تظهر الصورة واضحة عن اهمية هذه الاماكن، و ساحاول في هذا التحقيق ان افي هذه المقاهي بعض حقها.

يعتقد ان اول ظهور للمقاهي في شكلها و دورها المعروف كان في تركيا (اسطمبول ) في اواسط القرن السادس عشر، لكن سرعان ما اكتشف الادباء و المفكرون و السياسيون تاثيرها القوي من ناحية نشر الافكار و الاراء التحررية، فصدر فرمانا بمنعها و انزال اشد العقوبات بمن يحاول تكرار التجربة . وبيروت عرفت المقاهي كغيرها من العواصم العربية، لكن روح الحداثة التي اجتاحتها جعلت من مقاهي المثقفين فيها عنوانا صارخا لتبادل الافكار و عقد حلقات الحوار، بعد ان كانت المقاهي مجرد مكان لسماع الحكواتي و لشرب القهوة و النارجيلة. وقبل الكلام عن المقاهي التي لم تمحّ كليا بعد من ذاكرتنا دعونا نسترجع بالذاكرة بعض المقاهي التي عفاها الزمان من ثقل الكلمات و طوفان بحور الشعر و بحات الحناجر.
فقبل الحرب العالمية الاولى كان مقهى ابو متري في ساحة البرج ملجأ للشعراء و ادباء ذلك الزمان، و بين الحربين اجتمع الشعراء كاحمد الصافي النجفي، و محمد كامل شعيب العاملي و محمد علي الحوماني في مطعم فلسطين، اما مقهى الحاج داوود فكان من اشهر رواده الشاعر أمين نخلة والفنان التشكيلي مصطفي فروخ، و كل هؤلاء كانوا يتقاسمون احيانا كراسي
قهوة البحرين مع سامي الصلح، وعبد الله اليافي وصليبا الدويهي ورشيد وهبي والياس أبو شبكة، ومحيي الدين النصولي وحليم دموس، و اخرين ممن اسسوا تاريخ لبنان الحديث سياسةً و ادبًا و فكرًا. هذا بالاضافة الى اللاروندا قرب ساحة البرج و مطعم ابو عفيف الذي شهد ولادة قصيدة يا عاقد الحاجبين للاخطل الصغير، الذي كان يتردد ايضًا الى قهوة فتوح مع الشاعر محمد كامل شعيب العاملي، و عمر الزعني . و بعد التوسع العمراني الذي شهدته بيروت اواسط القرن العشرين انتشرت المقاهي و اجتاحت بيروت موجة غير طبيعية من الاقبال على تقبل الحداثة، و صوغها بطريقة رائعة حتى اتت قصيدة النثر كشاهد عصري على ما نتج عن هذا التفاعل و الاختلاط الثقافي.
و تركزت المقاهي الثقافية في منطقة راس بيروت و شارع الحمرا، و لا بد من القول ان ما ساعد في نهضة هذا الشارع هو وجود الجامعة الاميركية، و العديد من الشركات الاجنبية و جريدتي السفير و النهار، و اصبحت رموزا و ليس مجرد مقاهي، كما انها اصبحت ملجأ رحبا لمفكرين عرب وجدوا في مقاهي بيروت الملاذ لاطلاق كلماتهم و صرخاتهم، التي كانت تعبر في اغلب الاحيان عن ثورة اجتماعية و سياسية و فكرية دفينة.
و يبقى القول ان الذين عاشوا في بيروت بعصرها الذهبي و تنقلوا بين مقاهيها بطريقة خارجة في بعض الاحيان عن المالوف مازجين حياة المدينة بحياتهم و طقوسهم الخاصة، ربما ضاع بعضهم بين جدران المدينة، وبعضهم برع و سطع، و بعضهم جرفتهم الذكريات الى واقع و نهاية لا يحسدون عليها وصلت الى حد الجنون في بعض الاحيان. وبعضهم راى في بيروت مبكرا وجهها الليبرالي الحر الرافض للقيود بكل انواعها فجاءت اعماله تحاكي العصر الذي مضى و عصرنا الحاضر و موجهة الى المستقبل.

أحد رواد الويمبي يحكي عن تاريخ المقاهي:
و للوقوف على تاريخ المقاهي و السبب من وراء انتشارها و لعبها هذا الدور الهام على كافة الاصعدة، التقينا في مقهى الويمبي الدكتور نقولا زيدان الذي اعتبر" أن فكرة المقاهي تعود اساسا الى مصر القديمة حيث كانت تنتشر مشارب البيرة و كان الفلاح المصري لا يقتات باللحم الا نادرًا و يكتفي بالخبز و البيرة و بعض الخضار، كما ذكرت المقاهي بملحمة جلجامش حيث مر جلجامش الى حانة امراة اسمها سيدوري، فشرب و بكى على صديقه انكيدو و قال لها انه يبحث عن الحياة الابدية، فكان جوابها ان يتمتع بحياته بما طاب له ولذ وبخلفه،لانه محكوم عليه بالموت.

ويقول زيادة إنه في القرنين السابع و الثامن عشر فالمقاهي التي انتشرت في اوروبا ارتبطت بالنهضة الاوروبية، حيث ظهرت اول جريدة فرنسية (غازيتا)في باريس، و ممكن ربطها ايضا بحركة مارتن لوثر من حيث نشر الثقافة للجميع و الاهتمام بالانسان، و بدات المقاهي في الانتشار مع شيوع الجرائد و الكتاب و تقدم الفكر و اعطاء بعض الحقوق للمراة و ايمان الشعب الاوروبي وقتها بالانسانية و الاهتمام بالمجتمع العادل للانسان. في القرن الثامن عشر بدات المقاهي في باريس تقدم القهوة مع الجرائد، والمثقفون يتبادلون فيها آراءهم، و انتشرت في الريفولي و الباك و لا تزال الشوارع قائمة الى الان و كان يتم فيها بحث الثورة الفكرية و العلمية و السلطة السياسية. و ترتبط المقاهي بالمدن حيث تختمر الثورة الاجتماعية و السياسية، التي قامت بمعونة الصحف و المقاهي بنشر التوعية، ففي المدن تختفي العلاقات القبلية الضيقة و تنتشر الاحزاب و الاتجاهات الفكرية و السياسية المختلفة، و هذا كله ساعد على الثورة الديمقراطية والصناعية و الفكرية.
اما في لبنان فالنشوء كان طبيعيا في ظل وجود التعددية الفكرية و السياسية، و من الاقطار العربية فمنح الدبغي صاحب الهورس شو كان يستقطب اكبر الشخصيات؛ كمظفر النواب و عبد الوهاب البياتي و بولاند حيدري و شوقي بغدادي و اكرم الحوراني، و صلاح البيطار، حيث كانت تجري عنده حلقات حوار مفتوحة. اما أنا شخصيا فقد تعودت على الكتابة هنا، لا تزعجني الضجة و هنا الجمع بين المفيد و الممتع كي لا تظل معزولًا عن المجتمع. وكنت سابقا من رواد المودكا الذي كان في الماضي النيغريسكو.
و يعتقد الدكتور زيدان ان افتتاح هذا العدد الكبير حاليًا من المقاهي في بيروت التي يحاو ل اصحابها اضفاء طابع الثقافة عليها،يخفي بعض عمليات تبييض اموال المخدرات،فيتم فتح المقهى لفترة ثم يباع. والجو العام في المقاهي تغيّر و ان بقي النقاش المحتدم حول مواضيع الساعة، و تساؤلات حول السلطة و الحكومة و اخبار الشرق الاوسط و غيرها من المواضيع الساخنة.
في أوروبا تنقسم المقاهي الى مقاه لليمين و اخرى لليسار الوضع في لبنان ليس كذلك فداخل المقهى ممكن لك ان تجد طاولات لعدة تيارات، و طاولات عندها صبغة سياسية حسب الشخص الابرز فيها فتسمى الطاولة على اسمه. والانقسام عندنا عائد للسكن الطائفي، ففي مقهى الكاستيل في جونية لا تجد احدا من التيارات اليسارية،انما قد تجد مثلا جورج بشير و بعض اصدقائه الذين يتواجدون هناك بسبب سكنهم في تلك المنطقة".

مقاه إندثرت:
مقاه ثقافية اندثرت و كان لها دورها الفاعل، في حركة النهوض الثوري و السياسي و الفكري و الاجتماعي.

السماغلرز إن
و هو مطعم و ليس مقهى انما صاحبه جورج الزعني لعب دورًا ثقافيًا هامًا حيث كان ينظم مهرجان شارع المكحول الفني في الهواء الطلق، مما اطغى على المطعم الطابع الثقافي، اقفل المطعم و غاب المهرجان بسبب الحرب الاهلية و لم يعاد احياؤهما.

مقهى فيصل
تستطيع ان تطلق عليه كل التسميات فالله وحده اعلم بالاتفاقيات و التحالفات السياسية التي تقررت تحت سقفه، كما ضم كل الاضداد فكريًا و سياسيًا، فمعظم اعضاء الحركة الوطنية اللبنانية ارتادوه و على راسهم كمال جنبلاط، و محسن ابراهيم و ارتاده ابرز رجالات السياسة اللبنانية في ذلك الوقت امثال كامل الاسعد و عادل عسيران، و بعض ابرز قادة ذلك الزمان كجورج حبش وإنعام رعد وشفيق الحوت، وكمال ناصر وسعدون حمادي كما احتضن ادونيس و كمال الصليبي، و الكثيرين الذين لعبوا دورًا هامًا قبل و خلال الحرب اللبنانية، و انه من النادر جدًا هذه الايام ان ترى مثل هذا المزيج تحت سقف واحد يجمعهم مع اختلاف ارائهم ناهيك عن تبادل الآراء و النقد.

المودكا
افتتح عام 1970 حيث حل مكان النغريسكو، استفاد كثيرا من اقفال الويمبي لفترة لكنه اقفل بدوره، و هو الان محل لبيع الالبسة.


مقهى الدولتشي فيتا
صاحباه سيف الدين الخوجا و عبد المعطي شاهين من زبائنه الدائمين: منح الصلح و ميشال عفلق، وصلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني ورشدي الكيخيا، وعلي صالح السعدي،ومحمد احمد المحجوب، وزهير السعداوي مؤسس جمعية الندامى و كثيرين. ومن الاسماء التي افلت ايضا مقاهي الستراند والكونغرس والكافيه دو لابرس و الالدورادو......

مقاه بقيت إلى يومنا هذا:
اما المقاهي التي لا تزال تفتح ابوابها بوجه الرواد المخضرمين نذكر منها هنا مقاهي شارع الحمرا، الذي اشتهر بانه الشارع الذي لا ينام، و منه انطلقت معظم الافكار الليبيرالية الحديثة و التي يحاول الكثيرون الان اللحاق بركبها.

الويمبي
بالاضافة الى كونه جامع للادباء و المفكرين، اشتهر الويمبي باول عملية فدائية لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، و التي نفذها خالد علوان في 24/9/1982 ضد جنود الاحتلال الاسرائيلي، الذين كانوا يشربون البيرة على رصيفه، فقتل منهم ضابط، وجرح جنديان. وللوقوف على اوضاع هذا المقهى التقينا بالسيد جان خاطر مدير مطعم الويمبي و كان لنا معه هذا الحديث:
كان شارع الحمرا و لمّايزل ملتقى المثقفين، من اساتذة جامعات و طلاب، و ادباء و صحافيين و مفكرين، يتوزعون على عدة مقاه في الشارع ولنا منهم القسم الاكبر، هذه النخبة ترتاد المقاهي ما بين الساعة العاشرة و الثانية عشرة ظهرًا، ونتشاطرهم مع الهورس شو و الكافيه دو باري، الويمبي اخذ طابع استقطاب الادباء، والفنانون ياتون عندنا ايضًا، كجميل ملاعب و جنين ربيز، ومن الصحافيين اذكر على سبيل المثال لا الحصر فيصل سلمان وجورج ناصيف و نزيه خاطر و موفق مدني و نصير الاسعد و فارس خشان، لكن لا يمكننا ان نجزم ان احدًا ياتي بشكل دائم او حصري بل يتنقلون بين مختلف مقاهي الحمرا .
تحولت بيروت من الفن و التاليف الى الفن الصحافي المرئي و المسموع، وتغلب على كتابة الشعر، فبيروت ليست كبيروت نزار قباني، بل ان التوجه العام اليوم يتجه الى الفن الصحافي و المرئي و المسموع، فهؤلاء هم النجوم اليوم . ونحن نهتم بزبائننا المثقفين غير المسيسين،فهم يعطونك طابعًا مميزًا خاصة من خلال احتكاكهم مع الآخرين.

جان خاطر

و قد اثر في حركة العمل افتتاح المقاهي وسط المدينة خاصة في المساء بعكس النهار، اما بعد عملية اغتيال الرئيس الحريري تحسن الشغل عندنا بسبب اقفال المقاهي في وسط المدينة، و تجنب الرواد تلك المنطقة بسبب المظاهرات و الاعتصامات.علما ان اثر الاغتيال كان واضحا على العمل و انخفض بنسبة 50% تقريبًا.
احيانا تجد نوعًا من النفور بين الرواد، و يظهر ذلك واضحا عندما ياتني احد الصحافيين مثلًا، و يذهب سريعا بسبب وجود صحافي اخر منافس له.
المناقشات قليلة او معدومة هذه الايام فتراهم في معظم الاحيان يجلسون لقراءة الصحف.
التحسينات التي اجريت لشارع الحمرا اعادت له بعض الروح و اتت بالزوار فاصبحت ترى في الصيف سياحًا عرب واجانب وبينهم الكثيرون ممن يعرفون اسم الويمبي عالميًا. نحن مستثمرون جدد للمحل والمحل عريق جدًا ونحاول المحافظة على تاريخه،ففي الطابق العلوي صور لبيروت القديمة،اما عن علاقتي بالزبائن فانا لا اجالسهم كثيرًا و تنحصر علاقتي معهم بحدود معينة. كنا سابقا ناتي بجرائد و لكن درج بعض الرواد على اخذها معهم ففضلنا التوقف. الوضع في البلد شاذ و يؤثر على كل شيء، و لولا ان المقهى عريق و صيته منتشر لربما كنا واجهنا مشاكل في الاستمرارية، فاصحابه شركة المطاعم الكبرى اسسوه في منتصف الستينات، وهو مرتبط بالعصر الذهبي لبيروت اي في السبعينات 1968-1974 وكنا نضاهي اوروبا وقتها و خاصة شارع الحمرا الذي كان يشبه الشانزليزه خلال الاعياد ...............

الهورس شو
الهورس شو احتضن في زمانه يوسف الخال وادونيس ومحمد الماغوط ونذير العظمة وفؤاد رفقة، فاصبح المقهى مكتب تحرير لمجلة شعر،التي اطاحت بالمفاهيم السائدة لتحل مكانها روح الحداثة، لكنه اقفل في فترة الحرب ليحل مكانه مطعم ابو النواس و بعد استقرار الاوضاع عاد جزئيا الى سابق عهده، و اصبح خليطا ما بين مطعم للوجبات السريعة و مقهى لبعض الرواد القدامى. وهو أول مقهى رصيف في بيروت،( 1959) صاحبه منح دبغي الذي نجح باستقطاب أنسي الحاج، وريمون جبارة، ورفيق شرف، ومنح الصلح، ونضال الأشقر، وجوليانا سيرافيم، وغادة السمان وبول غيراغوسيان. و من ابرز ذكرياته عندما قامت نضال الاشقر بآداء مسرحية مجدليون لهنري حاماتي سنة 1969 على رصيفه بعد رفض السلطات اعطاء التصريح للعرض.

الإكسبرس

افتتح الاكسبريس أوائل السبعينات، و يقع فوق سينما إتوال etoile و على قول المثل رب ضارة نافعة فقد استفاد كثيرًا من اقفال الهورس شو، حيث انتقل اليه رواده و اصبح اسمه يتداول كاحدى المقاهي الثقافية، كما استفاد من موقعه القريب من جريدة النهار.

السيتي كافيه
صاحبه هو منح الدبغي صاحب" الهورس شو " افتتحه بعد الحرب في التسعينات في محاولة لاعادة الجو الثقافي للمقاهي في شارع الحمرا، نجح خلال بدايته في استقطاب العديد من الصحافيين و الادباء، كما ان الشهيد الرئيس الحريري كان من رواده حيث كان يلتقي بعض الصحافيين امثال فيصل سلمان و منح الصلح، لكن في الاونة الاخيرة اصبح مقهى لطلاب الجامعات القريبة منه و خف اقبال الاسماء اللامعة إليه. والمميز فيه لوحات علقت على جدرانه تمثل تاريخ بيروت الثقافي من خلال المقاهي الثقافية.

الكافيه دو باري
من المقاهي الثقافية العريقة،يقع في شارع الحمرا من رواده المثقفون،الأدباء منهم والشعراء لكن غالبًا ما يرتاده الصحافيون واستطاع الصمود، ولم يغلق ابوابه على الرغم من النكبات التي المّت ببيروت.

الجندول
يقع مقهى الجندول خارج شارع الحمرا في كورنيش المزرعة، انحصرت مظاهره الثقافية بوجود ادونيس، و بعض منظمي المظاهرات الطلابية بقيادة القيادي الشهيد انور الفطايري. وتجب الاشارة الى الدور البسيط الذي تلعبه كافتريات الجامعة اللبنانية في فروع الاداب و الحقوق، و التي غالبا ما تكون محصورة باطار طلابي ضيق إلا انه فعال من خلال بعض المواقف الوطنية، بيد ان مرتاديها يكون همهم الاكبر و شغلهم الشاغل هو الحصول على اكبر عدد ممكن من مقاعد ومجالس الفروع في الكليات.... وخارج شارع الحمرا قامت بعد الحرب بعض المقاهي التي ظلت في اطارها التجاري فقط، و تتركز في ساحة المعرض وساحة رياض الصلح وشارع مونو في الاشرفية والباليت في الصالومي وهي تعتبر مرتعا للساهرين و محبي السهر فقط..... ويجب ان نذكر مقهى الروضة قرب الحمام العسكري، ومقهى دبيبو في الروشة اللذين كانا و لا يزالان يحتضنان بعض الشعراء و الفنانين، من وقت لآخر، الهاربين من ازدحام المدينة و الذين ينشدون الراحة وموج البحر.

دور المقاهي الإجتماعي وتاثيرها النفسي:
و عن الدور الاجتماعي و السبب وراء ارتياد المقاهي أجابنا الدكتور سمير سليمان (مدير معهد العلوم الاجتماعية سابقًا و استاذ محاضر في كلية الآداب ): لا يستطيع احد ان ينفي دور هذه المقاهي و لا اعرف اذا كان مصطلح المقاهي الثقافية مصطلح دقيق، فيوجد مقاهي كان المثقفين يرتادونها،لكن لا يوجد مقهى ثقافيا بحرفية المصطلح.
و بلا ريب ان هذه المقاهي التي كان يرتادها المثقفون هي بالتاكيد مكان للقاء و الحوار، لكن يبقى سؤال و هو التعارف الثقافي و هذا شأن مهم، و المثقف له شأن، فكيفما دارت الامور هو انسان صاحب خطاب، و نص و صاحب موقف، و بطبيعة الحال كلما حاور الاخرين، و كلما جالسهم و ناقش،نظفت و تنقت وجهات نظره ومواقفه في كثير من الاحيان، و انا هنا لا اتكلم عن نمط المثقفين الجموديين الذين يملكون بعض الافكار الجاهزة و ياتون ليتحاوروا فيها بطريقة يتحولون فيها الى مبشرين، و اذا حاوروا لا يكون الحوار لمعرفة الحقيقة، و التاكد من فرضياتهم و قناعاتهم، بل ياتون و كانهم يملكون الحقيقة وحدهم و عليهم نشرها،و انا لا اريد التحدث عن هؤلاء فساتحدث عن المثقف اي الناقد، و صاحب الموقف المتابع، و الذي يعنيه ان الاخر شريك و معني ايضًا لما يملكه من افكار، و هنا اقول من حاور الناس شاركها في عقولها و هذا النمط هو المفيد.
انا شخصيًا و على الرغم من ايجابية المقاهي الثقافية فبطبيعتي اميل الى نمط اخر من العمل و هو محاورة النص، فانا اكتب لاحاور نصي، فانا ارى ان الفائدة في جلسات المقاهي تاخذ في بعض الاحاييين باب السلوى و الترويح عن النفس، فبهذا البعد لا اجدها بالنسبة الي المكان المناسب للترويح عن النفس، فانا افضل ان اكتب و اقرأ في مناخ خاص، و بعد ان اكتب اتمنى ان يحدث هذا اللقاء فانا لست انسانا شفويا، بل انا افضل النص المكتوب ومن ثم يكون عليه الحوار، فكوني استاذ جامعي ومتخصص بالحضاريات يفرض علي العيش في النص السابق فيصبح الحاضر حالة جدلية.
* هل تعتقد ان الجلسات الحوارية تاتي بنتيجة؟
طبعا فالمثقفون الذين يترددون الى المقاهي ليسوا من العاطلين عن العمل،فهم اما يمارسون عملا وظيفيًا او صحافيون او كتاب و فنانون، فهؤلاء يحتاجون ان يتنفسوا، ناهيك عن بلورة الافكار و اقامة علاقات انسانية قائمة على التعدد، فلا يكونون اسرى خطابهم الشخصي.
* الجيل الناشىء كيف تراه من خلال الجلسات الثقافية؟
هذا ينقلنا من جيلية المثقفين لنتكلم عن موقع اخر وهو الاجيال الشابة، فانا لا ارى ان المهتمين من الشباب بالشؤون الثقافية هم من رواد المقاهي، و لا يتشابهون مع جيلنا عندما كنا باعمارهم، فهناك ندرة منهم تشارك في جلسات في هذه المقاهي، فتجد ان هؤلاء لهم امكنتهم الاخرى، لهم بمعنى اصح نواديهم و الغالب عليها ليس الجدل الثقافي الموجود في المقاهي الثقافية، والتاريخية، فلذويّة الجلسات هي المقصودة، لان معظمهم طلاب او خريجون جدد من الجامعات، لا يملكون هذا النمط من الانعقاد الثقافي الشِّللي، و عند اختيار الشِّلل تكون الاهتمامات الثقافية اخر اهتماماتهم،فانهم يفتشون عن اللهو و الترفيه و يفضلونه على الترف الفكري.

* ما سبب الفرق بين جيل السبعينات و جيل اليوم ؟
بالتاكيد يوجد تحول اجتماعي و سياسي، فالثقافة كان لها ادواتها
و فضاؤها، و تبدلت مع هذه الايام،فالاسئلة التي كانت تطرح على الاجيال السابقة تبدلت الان، و هنا يمكننا التكلم عن منافسة الادوات الثقافية المستجدة للادوات و الاليات الثقافية التقليدية، فثقافة الفضاء المفتوح، و بنوك المعلومات، و حركة العولمة، و الانترنت الذي ينافس جديا الكتاب، والانشغالات و ضيق الوقت كل هذا ولد حالة ثقافية مختلفة، و جعل هذا الجيل لا يعنيه طرح الاسئلة عن المواقف العامة و القضايا الكبرى، بل نرى جنوحًا الى الذاتيات، و هنا لا اتكلم عن هذه الظاهرة من موقع الادانة، بل احاول وصف الظاهرة و تفسيرها بان هذا المثقف من الاجيال الحالية، هو ليس مثقفًا بالمعنى التقليدي هو شيء آخر. وارى انه يوجد قطيعة نسبية بين ما كانت عليه الثقافة و المثقف الآن، اي بين اجيال الستينات و السبعينات و جيل القرن الواحد والعشرين. فمن فترة طرحنا في امتحانات مجلس الخدمة المدنية سؤال هو: كيف تفسر كثرة المتعلمين و قلة المثقفين؟ وكان الملفت ان الاجوبة كانت تجعلنا نلتفت الى ان تحولا ثقافيًا واجتماعيًا و سياسيًا وحتى وجوديًا قد حصل. و هذه الظاهرة عالمية.
ويضحكني عندما يفسر بعض المنظرين ان السبب عائد للغزو الثقافي فانا لا اوافق عليه،بل اقول موضوعيا ان العالم اصبح حاضر فينا و اصبحنا حاضرين في العالم،و ربما حضور العالم فينا اكثر بسبب تصنيفنا من دول العالم الثالث.


التوزيع الجغرافي للمقاهي الثقافية:
الدكتورة سلوى المجذوب الاستاذة في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية قالت لنا إنه اذا اردنا الرجوع الى تطور اوروبا باتجاه الحداثة، كانت المقاهي هي احد الاعمدة الاساسية باتجاه بناء هذه الحركة، حيث كان يجتمع المفكرون و الكتاب و الصحافيون. و في لبنان بالذات ومن حيث خصوصيته بالعالم العربي، بدخوله الى الحداثة عن طريق السياسة و المشاركة، و عبر الحريات، في نطاق المجتمع المدني، فلبنان كان سباقًا و استثنائيًا، و هنا شهد لبنان من بين هذه الظواهر ظاهرة المقهى، بما هو مساحة للفرد قادر ان يكون حرًّا من خلال حدود طاولته، او ان يتواصل مع الاخرين ان شاء ذلك، المقهى كمكان لتجمع الناس الذين يتعاطون الكلمة بمختلف تنوعاتهم النخبوية، و لا يجب ان ننسى حتى النخب الاقتصادية فمقهى المودكا كان مميز بالنخب الاقتصادية التي كانت ترتاده، و يذكر التاريخ اللبناني في ذروته في الستينات و السبعينات قبل الحرب الاهلية المقاهي التي لعبت دورا على مستوى المواجهة في معركة الحريات، حتى ان بعض المسرحيات عرضت في المقاهي بعد منعها على المسارح، و تتركز المقاهي في منطقة راس بيروت و منطقة الحمرا التي هي منطقة كوزموبولوتية بالنسبة للعاصمة اللبنانية،و لبنان عموما، حتى ان السوسيولوجيا اللبنانية في كثير من الابحاث تكلمت عن الفئات المدينية التي انتقلت من اطراف بيروت الى شارع الحمرا، من هنا تجد هذا التنوع في سكان المنطقة و كان المقهى احد الاشارات الكوزموبولوتية المهمة.
و بقيت هذه المنطقة مميزة خلال الحرب عندما هجمت المليشيات الطائفية الى قلب المدينة و الحمرا تحديدا،فبهذه الفترة بدأت الحمرا تذوي لان الاختلاط بدأ يخف مع بعض الاستثناءات لبعض العائلات المسيحية التي رفضت الرحيل، علمًا انهم تعرضوا للكثير من المضايقات، و بدأت المقاهي تهذل لكن بقيت الناس التي تحمل هذا التاريخ الذي هو تاريخ بيروت، و تاريخ لبنان، بقي الناس مصرون على استمراريتهم في الحياة واصروا على الثقافة، الثقافة كمعيوش بمعنى انتروبولوجي كسلوك حياة، و اذكر جيدا عندما تقرر اقفال الويمبي كيف كان الرواد يتابعون ما يحصل يوما بيوم، و كان بالنسبة لنا مثل الموت او كانها ازمة شخصية، و ظهر نوع من التفاعل الجميل بيننا و بين العاملين في المقهى الذين احسوا بمعاناتنا.
اما الان و بعد انتهاء الحرب تغيرت الحمرا و تغيرت معالم المدينة ونشات امكنة جديدة كالاشرفية و جونية و وسط المدينة. بعد اقفال الويمبي انتقلنا الى المودكا حتى اقفالها، ثم عدنا الى الويمبي بعد افتتاحه ثم ظهر السيتي كافي و اصبح يرتادها الطلاب، و بعض اصحاب الكلمة، لكن بشكل محدود، وهنا في شارع الحمرا صرنا نرى الكثير من السياح و الخليجيين بشكل خاص.
اتصور ان اماكن السكن و صعوبة المواصلات تفرض احيانا المكان الذي يرتاده رواد المقاهي، و هي ليست مواقف، و الدليل على هذا ان الداون تاون استطاعت قبل ان يغتال الرئيس الحريري ان تجمع في مقاهيها كل الناس حتى في ظل الضائقة الاقتصادية، فيكتفون ولو بفنجان القهوة و هذا دليل على ان الرئيس الشهيد كان يعي تماما اهمية وسط المدينة و مقاهيها كوسيلة لجمع اللبنانيين من كل الطوائف و الانتماءات، و هذا يعكس تطلعاته المستقبلية،فهو كان احد اشارات عالم العولمة لكن هو كانسان كان عنده شيء ذاتي لوطنه بامكاناته المميزة، و تعاطى مع الخارج بطريقة مميزة، و عرف ما يجب ان يستثمر بالانسان.
وهنا يجب ان نتوقف عند الذين يسمون انفسهم مثقفين أو يدعون الثقافة، و لا يجب ان ننسى مقهى ساحة النجمة التي كانت اخر محطة للرئيس الحريري قبل ان يستشهد، علمًا انه كان يلتقي بعض الصحافيين سابقًا في السيتي كافيه.

و قبل انتهاء جلسة الحوار في مقهى الويمبي -على وقع خطى النادل يجلب فناجين قهوة إلى طاولتنا ويسترجع الفارغ منها-مع هؤلاء المثقفين المخضرمين، عقب الدكتور نقولا زيدان عن سبب تجمع اغلب المقاهي في الجزء الغربي للعاصمة قائلًا:
إن انتشار المقاهي الثقافية في الشطر الغربي من العاصمة بيروت بشكل خاص عائد الى الخصوصية الفريدة التي تمتع بها عن الشطر الشرقي، الا هي تعدد الاحزاب اليسارية، ففيه الشيوعية بانواعها و البعثيون و القوميون السوريون و اسلاميون و حركة امل، اما في الشطر الشرقي فكان يوجد حزب واحد و هو القوات اللبنانية مما ساهم بعدم وجود حياة فكرية سياسية اذ كانوا يتصرفون مع الناس بطريقة انت لا تفكر نحن نفكر عنك. وانا اقول إنه لا يمكن ان تكون مثقفًا الا اذا كنت تملك وجهة نظر في الفكر الماركسي،فخذ مثلًا الجنوب اللبناني فالقاعدة الثقافية الموجودة هي من الماركسيين و الشيوعيين السابقين غير المنظمين حاليا،و خارج الاطار التنظيمي و يشكلون بالتالي قاعدة انتخابية كبيرة،كما ان الغالبية من الكتاب الصحافيين الحاليين في لبنان هم من اليساريين او من من اليساريين القدامى.

مقاهي وسط المدينة لا طابع ثقافي أو فكري لها بل مجرد مكان التقاء لبعض الصحافيين والسياسيين والمثقفين الجدد الذين لهم مقاهيهم. الجيل الماضي تخلى عن المعوقات الدينية و الطائفية لكن الحالي لديه نوع من التجاوز والازدواجية بين الافكار الماركسية مثلا، و الانتماء الديني فياتي خطابه ضعيفا يفتقر الى الموضوعية والدين يحتل مكانة كبيرة بخطابه اليومي وان كان لا يصرح بذلك، فجيلنا كان يصل الى النهاية بعمله و افكاره.

وفي عودة الى المنطقة الشرقية فالحياة الفكرية و الثقافية تعطلت بسبب سيطرة الحزب الواحد و هو القوات اللبنانية و الكتائب و بقيت بعض الحالات النادرة في تلك المنطقة و هي الحركة الثقافية و نادي الشراع في انطلياس و المجلس الثقافي لبلاد البترون، الذين قام مثقفوه بالمحاضرات و الندوات و النقاشات حول ماذا يدور في لبنان و ما يدور في المناطق الاخرى و تعرضت الحركة الثقافية في انطلياس لمضايقات من القوات اللبنانية فالتجأوا الى الدير في انطلياس، و يقودهم اليوم الاب انطوان ضو الذي له علاقات مهمة مع ايران على قاعدة مكافحة الغزو الثقافي الصهيوني. وممن اذكرهم من الرواد الذين لن انساهم حاتم مرداش (عراقي )، زهير غانم (سوري)، جنان جاسم حلاوة (عراقي) مقيم بالسويد تزوج من لبنانية من بيت حيدر، و آدم حاتم وكانوا يجلسون في شارع المكحول،و قد ساعدناهم في الاستحصال على هويات من الأمم المتحدة.
وفي الختام اعادك الله إلى سابق عهدك يا بيروت فكم من مرة نفضت عنك ركام الحرب، وصفقت اجنحتك كطائر الفنيق المنبعث من تحت الرماد،حرام بيروت وحرام مقاهيها التي اعطت وتعطي ألا تظل عنوانًا للثقافة، لكل عشاقها من لبنان والدول العربية وكل دول العالم.