في شوارع كابول"الساعة الخامسة بعد الظهر"

مازن الراوي من برلين: عرضت المخرجة الإيرانية الشابة سميرة مخمالباف (23 عاماً) فيلمها "الساعة الخامسة بعد الظهر" ببرلين، في قاعة "كلتور براوراي" الخاصة بتقديم أنشطة ثقافية. وكان الفيلم عرض لأول مرةٍ في مهرجان كان السينمائي في العام الماضي. ولم يحظ الفيلم الذي صَوّر شريحة من حياة أسرة في أفغانستان بأهمية استثنائية، فنياً وروائياً، وإنما حظي باهتمام لدى المشاهدين والمعنيين بالتطورات وبالحياة الجديدة في بلد خرج من العبودية ليبدأ خطواته الأولى في تطبيع الحياة. وقد قدم الفيلم من زاوية خاصة صوراً ومفردات لحياة منتقاة تتسم بالمأساوية وبانغلاق أفق أي أمل للمستقبل. وقد علق الناقد" يان اويالا" في صحيفة الـ" التاغستسايتونغ" قائلاً بأنه مغرق في التشاؤم، وأضاف: ربما جاء ضد توقعات المخرجة نفسها.
كيف تناولت إذاً المخرجة الشابة سميرة الناس والأحداث في عملها، ومن أية زاوية تناولت حياة أبطال قصتها؟

في أفغانستان، كما تقدمها المخرجة في فيلمها: يتلو الأطفال في مدرسة تعليم القرآن: " قل للمؤمين من الرجال أن يغمضوا أعينهم أمام النساء ويمسكوا بزمام شهواتهم". وفي الشوارع، عندما يصادف الرجلُ امرأةً مكشوفة الوجهِ سرعان ما يستدير نحو الحائط ويبدأ بالتمتمة: " إلهي اغفر لي خطيئتي".
أما والد " نقرة " الجميلة الذي ينقل الناس في عربته من مكان الى مكان فينهر النساء ويجبرهن على النزول من العربة عندما يبدر منهن الضحكَ أو يكشفن عن وجههن لدى اهتزاز العربة فوق الحصى والأحجار، أو عندما تنغرز عجلاتها في الرمال. فيبدأ باللعنة ويقول: " لِمَ يخترن الطريق الطويل الى الجحيم طالما هناك طريق أقصر الى السماء".

أفغانستان، في ساعة الصفر. لم يعد في الواقع وجود لطاليبان. إلاّ أن شبح طاليبان الكريه ما زال هناك. ما فتيء يعشعش في رؤوس الرجال المسنين الذين يعتقدون بأن تلفيع الجسد الحي النابض للمرأة هو أمرٌ سماوي. وهذا الشبح ما زال يعشعش أيضاً في عقول البنات الشابات اللواتي مازلن يتهمن أزواجهن وآبائهن بالبطرياشية وبالسيطرة القمعية ويحملنهم جريرة غلق الحياة العادية بستار من حديد.
أفغانستان، في ساعة الصفر. لا شيء تغير في شوارع كابول: فقط النسوة اللواتي يتجولن بين الأنقاض. نسوةٌ ملفعات لا وجوه لهن. هذه الأشباح التي تُسقِط على رأسها البرقع الأزرق الفاقع والذي يخنق في حر الصيف.


يتحدث الفيلم عن " نوكري" الشابة ( أكيلا رضائي) التي تعيش سوية مع زوجة أخيها وطفلها في كنف أب محافظ ( عبد الغني يوسف راضي)، وقد تربوا وكبروا تحت سلطة أبوية قمعية وعاشوا الحياة بكل تأرجحاتها المؤلمة. تذهب نوكري بكل أدب الى مدرسة تعليم القرآن، تلبس خفها الرمادي لتغيره أمام المدرسة بحذاء أبيض ذي كعب، تخطو به في ثبات وقوة نحو معلمتها ـ ملهمة الجرأة ـ والى أخواتها الطالبات غير المحجبات، على الأقل خلال الدروس. وعندما يدور الحديث عن المهنة المحببة تجرأ نوكري تحلم وتتأمل في المستقبل وتقول بأنها في يوم من الأيام ستصبح رئيسة لحكومة افغانستان. والواقع أن نوكري الحنون طيبة القلب لا تجيد الحديث، وليس لها معرفة بالسياسة، وهي بعيدة عما يحدث في الخارج مثلما هي نائية عن الحياة نفسها.

وكلما انتقلت العائلة اليتيمة المشردة ـ وقد أُفتقد أب الطفل منذ أمد ـ من أنقاض دارٍ الى أنقاض دار أخرى ومنها الى حطام طائرة، ثم الى بناية حكومية مدمرة، فَقَدَ الفيلم حيويته، وتكررت المأساة الى حد الإشباع. ثم يأتي شاعرٌ شاب ( راضي مُحبّي) ليمنح نوكرا بارقة أمل ويعطيها أفقاً تنظر فيه الى مستقبل مشرق. ولكن سرعان ما يختفي الشاعر. يذهب مثلما أتى.صدفة في حياة نوكرا، أو لربما كان مجرد حلم. ومع ذلك تتدرب على المشي بأرجل واثقة وهي ترتدي بخفية حذاءها الأبيض وتخطو عبر ممر أنقاض البناية الحكومية حيث تعيش الأسرة. ألاّ أن الأب الممسوس بأنباء الموت والقتل والمهووس بالشرف يريد إنقاذ الفتاتين مما يتصوره مستنقع الخطيئة في المدينة فيسحبهم الى الجبال حيت الجوع والعطش يجعلان الموت ماثلاً أمامهم. إنها أسرة منذورة للموت مثل فرقة أنتحارية. ولا يدور بخلد الأب شيء أخر عدا البقاء على قيد الحياة، بل التضحية بالنفس حفاضاً على مُثلِهِ و معتقداته الدينية.

وهكذا يجسد الفيلم حياةً دون بصيص أمل فيها ومن غير إيقاع تحت سماء عارية كئيبة. يحدث كل هذا في " الساعة الخامسة بعد الظهر". عملٌ مُعتمٌ كئيب في أحدث أعمال المخرجة الإيرانية الشابة التي قدمت " التفاحة" و " اللوح الأسود". لقد أطلقت سميرة ماخمالباف عنان مخيلتها في اختيار ابطالها وأنتقالهم من مكان الى مكان، وهي تختار لهم تلك الأماكن متخيلة بأنها تقدم بذلك قصة واقعية. وتريد بتلك الواقعية أن تعمم القصة والحالة في أماكن أخرى : أمس كان في أفغانستان، واليوم يجري في العراق، وغداً في إيران، وربما في كل مكان من الشرق الأوسط. وهي تقول ذلك بوضوح ليس في فيلمها وإنما في اللقاء الذي جرى معها في برلين. ومع ان كثيراً من الخيبة ارتسمت في وجه النقاد ونخبة المشاهدين من الرؤية السوداوية للمخرجة لما يحصل بعد طاليبان إعتبروا أفكارها السياسية إنتقائية تمضي باتجاه واحد، خاصة حينما تؤكد بأن الأمريكان يشنون حرباً باسم الديمقراطية لتأتي نتائجها في تعميق جذور قيم القرون الوسطى، كرد فعل في الإتجاه
المقابل. وتريد المخرجة سميرة ماخمالباف من فيلمها" الساعة الخامسة بعد الظهر" أن يصرخ ضد، أو على الأقل أن يتساءل المرء لدى مشاهدته ولو بصوت خفيض : دعوا الناس في شؤونهم.

حوار مع المخرجة
وفي حوار مع المخرجة، تتحدث عن عملها وتجربتها الفنية وأفكارها السياسية، أجابت على أسئلة يوليان هانيش في صحيفة " تاغسشبيغل" بما يلي:

ـ سيدة ماخمالباف، تقدمين في فيلمكِ فكرة مأساوية يؤثر في المشاهد، لماذا؟

ـ أظن إنه كوبريك ( ستانلي كوبريك) عندما اشتكى مرةً من مستوى المعرفة والتعليم في المجتمع. ولكن في هذا الجزء من العالم، الذي أعيش فيه، لا نعاني ونشتكي من نوع المعرفة، بل من النقص الشديد في المعرفة. ولأجل تغيير الحالة نحن بأمس الحاجة الى التعليم والإعداد والمعرفة. وربما ينصب اهتمامي شخصياً بأن أجسّد في ثقافتنا تلك القناعة والرغبة والتشوق لدى النساء في التعلم لحظة مغادرتهن بيت الإسرة.
في اليوم الأول عندما كنتُ أقوم بتصوير الفيلم في أفغانستان، رأيت في الشوارع نساء ملفعاتٍ ببراقعهن، وقلما يتصور المرء بأن تحت تلك الأغطية تكمن كائنات حيّةٍ تنبض. وحينما بدأت في التحدث إليهن فوجئت بأفكار وبآمالٍ وبرغباتٍ تحدوهن مثل أي كائن بشري. بل أن البعض منهن تحدث إليَّ باللغة الإنجليزية. أليس هذا هو الوجه الآخر للمرأة الأفغانية؟ هذا ما أردت تصويره وعرضه في الفيلم الذي قدمته.

* فيلمكِ يقرِّب في الواقع جزءاً من الأزمة في أفغانستان، وهو الجزء الذي يريد أن يكشف الأزمة الكامنة في علاقة الجنسين، ولكن من جانب آخر يحاول الفيلم أن يجسّد أيضاً موضوع الأجيال في صراعها وتناقضاتها.

ـ نعم. ويتعامل أيضاً مع إشكالية ثقافةٍ مغروزة بعمق في النفوس. هذا ما لم يتفهمه الأمريكيون. حسناً لقد ذهب رامبو الى أفغانستان، وفي ليلةٍ واحدة منح البلاد بديلاً لطاليبان بغية إصلاح الأمور. ولكن ما الذي تغير؟
كنت هناك في العام 2002 ولم يعد الطاليبان موجوداً، ألاّ أن 95 بالمئة من النساء ما زلن في براقعهن. يعمِّر الخوف في قلوبهن، ولا يمكن مقارنة هذا بجرح خارجي سيندمل، لأن الجرح في الحقيقة عميق متغلغل الى الأعماق، إنه مثل السرطان يتطلب معالجته صبراً ووقتاً طويلاً ومالاً كثيراً.

* يتهم البعض فيلمك بأنه جاء في سياق تأثير أفكار والدكِ، وهي أفكار متزمتة دينية، ولا يمكن الجدال معه حول قناعاته. هل هذا هو قناعاتكِ وموقفكِ من الأجيال ؟

ـ أود أن أنظر الى المسألة من زاوية إنسانية لا من زاوية تعتمد على المفاهيم السياسية من وجهة نظر ضيّقة. أردت في أفغانستان وقبل كل شيء أن أرى الناس وأعيش الأحداث عن كثب، لا أن أحكم عليها. لذا فقد حاولت أيضاً أن افهم واتفهم موقف الرجال وخاصة أولئك المتقدمين في العمر. أولئك الذين اقتنعوا بطروحات طاليبان آنذاك وهم يعانون الآن.
قبل 11 سبتمبر صوَّر والدي ( محسن ماخمالباف) فيلمه " قندهار" وقد حشد فيه معلومات ضافية عن أفغانستان، وقدّمَ صورة لبلاد يموت فيها الناس لألف سبب وسبب بينما لايهتم أحد بما يحدث. وعندما جاء 11 سبتمبر تقاطر المئات من الصحفيين والمخبرين ووكالات الأنباء الى البلاد. وفي الحقيقة أن هذه الوسائل الإعلامية هي صوت المنظمات والمؤسسات القوية وصوت الحكومات، وهي بالتأكيد لا تمثل صوت الأفغانيين ولا تعبر عن حقيقة مشكلات الناس البسطاء. وهكذا على الرغم من الأنباء ومن التغطيات الإعلامية فإننا لا زلنا حتى الآن لا نعرف في الحقيقة ما الذي يحدث في أفغانستان.

* قمت بمشاركة والدكِ بكتابة قصة الفيلم، ما أهمية وموقع والدكِ بالنسبة لكِ؟

ـ علاقتي به متعددة الجوانب. هو أبي، وصيقي، وزميل المهنة. فضلاً عن أنه معلمي الأساسي. بدأت اهوى وأحب السينما لأنني أحبهُ. رأيت كم تعني له السينما، وقد حاول جاهداً أن يكتشف عمقها وماهيتها. وقد علمني ووضعني أمام أفضل ما تعلمه من تجربته الخاصة، واستطاع أن يغرز فيَّ فكرة أن صناعة الفيلم لاتقوم ولا تعتمد على الفيلم بقدر ما تعتمد على منح الحب والعاطفة للناس وتقديمهم عبر العمل السينمائي.

* ما هي النصيحة التي تقدمينها في أعمالكِ، والى ماذا تهدفين؟

ـ حسناً، في فيلمي " التفاحة" قمت بتصوير فتاتين معاقتين، وفي " اللوح الأسود" دخلت الى عمق كردستان، وفي فيلم آخر صورت وقدمت أطفالاً أفغانيين أكثر فقراً. لقد عملت دوماً مع أناس عاديين لا يعرفون عن السينما إلاّ القليل جداً. وفي الساعة الخامسة بعد الظهر " كان الناس الذين التقيتهم يعرفون بعض الشيء عن الكاميرا، لأنهم صادفوا على الأرجح واحداً من اولئك المصورين الذين جاءوا الى أفغانستان بعد 11 سبتمبر. ولكنني وجدت صعوبة بالغة في أن يكون لهم دوراً في فيلم روائي. والحقيقة أنه من النادر أن تعثر على شخص ما يتقبل ذلك في عمل سينمائي. ولم أكن عثرت على الممثل الذي سيقوم بالدور الرئيسي حتى قبل يومين من بدء تصوير الفيلم.

* وهل فكرتِ باستخدام كاميرا رقمية ( ديجيتال ) في أعمالكِ المقبلة؟

ـ أنجزت أعمالي حتى الآن بكاميرا 38 ملم. ولكن في الواقع تعجبني فكرة استخدام كاميرا رقمية. السينما كائن حي بحاجة الى الفلسفة والى الشعر. لقد مضى وقتٌ طويل والسينما عموماً حكرٌ بيد مالكي الأموال ومالكي التقنية. ولربما ستحدث الكاميرا الرقمية وبسعر مناسب تغييراً مهماً في عالم السينما. تتناول المرء كاميرته، يصوِّر، ويقوم بإنجاز الفيلم، مثلما يفعل الكاتب تماماً عندما يملك قلماً وأوراقاً.