حصاد العام السينمائي

* اشكالية الهوية: افلام "عربية" تسافر الي العالم بجواز سفر
فرنسي.
* " اغترابات " جزائرية.. تحدق بعمق في مشاكل الواقع.
*"معارك حب" لبنانية.. تتواصل مع ذاكرة الحرب.
* المستقبل للسينما التسجيلية ؟

تعرض حاليا في باريس مجموعة "أفلام فرنسية "من اصل عربي، إذا صح التعبير، تفتح من جديد إشكالية جنسية الفيلم العربي وهويته، حيث أن البعض يفضل ان يطلق علي أفلام الإنتاج المشترك مع فرنسا او الدول الأوروبية وبخاصة ألمانيا أو هولندا، أفلاما فرنسية، لجهة إنتاج الفيلم، في حين أننا نعتبر أن موضوع الفيلم والهموم والمشاكل والرؤى التي يطرحها ولغة الفيلم، هي التي تحدد، من حيث التوجه، جنسية الفيلم. حيث انه من السخف ان يطلق المرء علي فيلم يناقش قضايا ومشاكل المجتمع المكسيكي، وناطق بالمكسيكية، فيلما فرنسيا،لانه من انتاج فرنسا. ولذلك يظل فيلم " معارك حب " للمخرجة اللبنانية الواعدة دانيال عربيد، وفيلم " اغترابات " للمخرج الجزائري الموهوب مالك بن اسماعيل، وفيلم " باب الشمس " ليسري نصر الله، والاخير من انتاج قناة آرتيه الفرنسية، وعلي الرغم من انها من انتاج شركات انتاج فرنسية، تظل افلاما عربية، لأنها ناطقة باللغة العربية، وتناقش مشاكل عربية في الصميم، وهذه المشاكل هي كما نعرف بالطبع نتاج لواقع وتناقضات مجتمع معين ومحدد، هو المجتمع العربي، والمشاكل المتعددة التي تعيشها مجتمعاته، مثل مشكلة الحرية والديمقراطية وحرية التعبير، وتنعكس أيضا في أفلامه، وتكشف الي جانب تسليطها الضوء علي مشاكلنا، تكشف عما اذا كانت السينما العربية في بلادنا معزولة عن، او متصلة بحركة وتطور السينما في العالم، كما توضح او تجيب علي السؤال الضروري والاساسي التالي: الاوهو تري هل تتقدم السينما في بلادنا أم تتأخر، واذا كانت تتأخر، اذن ماهي الاسباب. والواضح، من واقع متابعاتنا لافلام السينما العربية في المهرجانات العربية والعالمية ل" ايلاف " وعلي شاشة باريس، ان السينما العربية تتأخر للأسف، وهذا التأخرعلي مستوي الانتاج السينمائي، ومستوي الطرح الفني ايضا، له كما نعرف اسباب كثيرة، لايتسع المجال لذكرها، الا انه يمثل صورة من صور التخلف والتدهور العام الذي نعيشه في بلادنا،علي كافة المستويات، وانحسار الفكر والتفكير عن مجتمعاتنا، وتفشي الفكر الغيبي،الذي يريد ان يعود بنا الي ظلمات العصور الوسطي، وبخاصة بعد ان رفعت او نفضت الدولة يديها عن السينما، وتركتها نهبا للتجار الحقراء، فصاروا اوصياء علي ذوق العامة، يصنعون للجماهير الافلام التي ترضي غرائزها، وتتلاعب بعواطفها، وتهبط الي الحضيض بفكرها، وتحركها في الاتجاه الذي تشاء من أجل بقاء واستقرار الاوضاع. ولاشك ان مناخات كهذه، لاتشجع بالطبع علي عمل افلام، ناهيك عن العيش والبقاء في الوطن، الذي صار يمثل قوة طرد، بالنسبة للعديد من السينمائيين والمخرجين الشبان في بلادنا، فكان من الطبيعي، في بحثهم عن تمويل لافلامهم، بعدما انكسروا في اوطانهم، وداخوا السبع دوخات، اللجوء الي الانتاج المشترك، ليس حبا في الانتاج المشترك بالطبع، بل لان الانتاج المشترك، والحصول علي دعم من أي نوع، لايمكن ان تجده الآن الا في بلدان اوروبا، وبخاصة بعد تدهور قيمة العملة المحلية في ظل اليورو والدولار، وارتفاع تكاليف انتاج الافلام العربية بشكل مرعب، ومن ضمنها اجور بعض النجوم، الذين صاروا الآن يطالبون بأجور فلكية باهظة. ولأنك لن تجد، ودعنا نتكلم بصراحة، لن تجد منتجا في بلادنا يهتم بانتاج فيلم، ليقول أي شييء، كما في افلام من نوع " معارك حب " او " اغترابات " لمالك بن اسماعيل أو فيلم " الطوفان " للسوري عمر اميرالاي، بل ان القيم الفنية والاخلاقية الجميلة النبيلة، التي يمكن ان تروج لها بعض الافلام الجيدة في بلادنا، مثل الافلام المذكورة، تقضي عليها في يوم، للأسف برامج ومسلسلات التلفزيون العربية الرديئة الهابطة السخيفة التي لاتكف محطاته عن قصفنا بها في كل لحظة، لتغريبنا عن واقعنا، حتي صرنا مسخا في بلادنا.

معارك حب " وذاكرة الحرب

فالفيلم الاول لدانيال عربيد، وقد احببناه، وأعجبنا به، يقدم سينما خالصةpure cinema وحديثة بنت عصرها وزمنها، ويطرح تساؤلات ويحمل هما، يناقش الحرب الاهلية في لبنان، ويطعن في مقدسات المجتمع اللبناني، ويحكي عن طفلة مراهقة، تتمرد علي العائلة والدين، وترفض ان تعيش حياتها كما اراد لها المجتمع والاسرة، وفي الفيلم، الذي هو اقرب مايكون الي افلام السيرة الذاتية، والمذكرات الشخصية، من النوع الذي يستأثر باهتمامنا وأعجابنا كما في افلام الايطالي ناني موريتي، والايراني عباس كيارستمي، تتحدث دانيال عربيد في الواقع عن طفولتها، وتجارب عاشتها وخبرتها، وكانت لها تأثيراتها في تشكيل كيانها الانساني، وفكرها وعواطفها، كما تحكي عن اناس ماتوا، في حرب انقضت، وتقول لنا هكذا كانوا، وتستحضرهم من ذاكرتها، وربما يكون بعضهم، او جميعهم ماتوا بالفعل، والجميل في هذا الفيلم " الشخصي "، أن الشيء الذي يمنحه تفرده واصالته، انه يتحدث عن الحرب، وذاكرة الحرب في لبنان، من دون أن تسمع فيه طلقة رصاص واحدة، او صوت مدفع رشاش، ويمضي فيه كل شييء فيه، بشكل هاديء سلس رصين، وسينمائي ايضا بالضرورة، أي بلغة الصورة التي تفصح وحدها، ومن دون حاجة الي ثرثرات، وترهلات وآهات افلامنا العربية، وضجيجها الذي يجلب لك الصداع، يامؤمن، ويجعلك تقرف من حياتك. كما أن فيلما كهذا، في رأينا، كان من الصعب جدا ان يتحمس له منتج لبناني، و لم يكن من الممكن ان يشجع موضوعه أي منتج عربي " مستنير " علي تمويله، لخلوه من مناظر الخلاعة والرقص، ومشاهد الجنس والعري، ومتبلات السينما العربية المعهودة، في افلام السينما العربية السخيفة الممجوجة، التي ملها الجمهور في بلادنا .وقد تختلف او تتفق مع مخرجته، في الصورة التي طرحتها اللبنانية دانيال عربيد عن حربها، والويلات التي افرزتها، لكنك لا يمكن ان تنكر أو تتجاهل، كونه فيلما جميلا وبديعا ومؤثرا. بل لعله من أحسن الافلام العربية التي خرجت للعرض في فرنسا هذا العام، بسبب قيمته الفنية أولا، التي تجعله يستحق المشاهدة عن جدارة، معلنا عن ميلاد مخرجة روائية عرية موهوبة وواعدة حقا، وكانت مخرجته حققت العديد من الافلام التسجيلية والروائية القصيرة المتميزة من قبل، ولكن، لم يكن من الممكن ان تصنع فيلما كهذا في وطنها الاصلي لبنان، وعليه فأنه من السخف أن نطلق عليه، كما يفعل بعض نقاد السينما العرب، فيلما فرنسيا، حين يناقش مشاكل عربية، وينطق بلسان أهل البلد. ليس المهم جنسية الفيلم الذي يستطيع بجواز سفر فرنسي ان يسافر في العالم، لكن المهم " هويته "..

"اغترا بات": خذوا الحكمة من أفواه "مجانين" الجزائر

كما انه من السخف ايضا ان نقول عن فيلم " اغترابات " للجزائري مالك بن اسماعيل، الذي يعرض حاليا في باريس، انه فيلم فرنسي، لأنه من تمويل فرنسا، لأن توجهات الفيلم ولغته وموضوعه عربية، وكان من المحال ان يسارع الموظفون المسؤلون عن السينما في بلادنا الي الترحيب به وتشجيعه وتمويله، لأنه يناقش ببساطة موضوعا خطيرا، كالموضوع الذي يناقشه، الا وهو موضوع غربة الانسان، واستلابه داخل مجتمعاتنا العربية، هذه الغربة، او بالاحري " الاغترابات " التي تجعل الانسان العربي في الجزائر يفقد قواه العقلية، ويصبح مجنونا، ويروح يهذي في مستشفيات الامراض العقلية، فتضطر معها السلطة الي اعتقاله وحبسه. ان موضوع كهذا يقينا لم يكن ان يرحب بتمويله أي مسئول في اطار سياسات الانتاج التي تهيمن عليها الدولة، وتفرض عليها الرقابة في بلادنا، ولابد من تصويرها في صحبة مخبر. ومن الصعب علي أي مخرج العمل بالطبع في ظل مناخات القهر والقمع هذه، لابد ان يحتال علي أي مخبر كي يصنع فيلمه، أي ان تلك الظروف تجبره علي السرقة. وهناك "حجة " تأتي علي لسان بعض المسئولين عن السينما في بلادنا، من أنه لايجب تشجيع مثل هذه الافلام، مثل فيلم " اغترابات " من النوع التسجيلي، الذي يحكي عن المجانين في مصحة عقلية جزائرية، لأنه يطرح مشاكل الواقع، وينشر غسيلنا القذر، ويسيء الي سمعتنا في الخارج. لكن، متي كانت افلام مخرج هندي كبير مثل ساتيا جيت راي مثلا، لانها تنشر غسيل الهند القذر، قد منعت الناس من مشاهدة افلامه؟.بالعكس ان افلام ساتيا جيت راي، علي الرغم من " وساختها " او " قذارتها " هذه، في نظر البعض فقط من المسئولين والموظفين الحكوميين الهنود، هي التي وضعت اسم الهند علي خارطة السينما العالمية، واصبحت من " كلاسيكيات " السينما العظيمة، ولم تمنع الناس ابدا من زيارة الهند والتدفق السياحي عليها. بالعكس، ان فيلم " اغترابات " الذي يستغرق عرضه زهاء ساعتين، و نرشحه هنا للمشاهدة عن جدارة مع فيلم " معارك حب "، من ضمن الافلام العربية المعروضة حاليا في باريس، فيلم ضروري وأساسي، لأنه يشرح العلاقة بين المواطن الجزائري والسلطة، وعلاقته بالبوليس، ويناقش وظيفة الطب والاطباء، وتكمن قيمته الاساسية في انه يقدم تحليلا جريئا للمجتمع الجزائري الآن، علي لسان نزلاء مصحة عقلية في قلب الريف الجزائري، ولسوف تكتشف في الفيلم، صواب الحكمة العربية القديمة، ان خذوا احيانا الحكمة من أفواه المجانين، وليس من افواه الموظفين. ومن اروع مشاهد الفيلم ذلك المشهد الذي تحكي فيه سيدة جزائرية عن عذاباتها، فتقول انها لم تعد تقدر علي الكلام مع الناس، ولم تعد تثق في كلامهم، لأنهم تغيروا، فصارت لاتسعد المسكينة الا بالحديث مع جثث الموتي، حين تروح تغسلهم في مشرحة المنطقة، ولاتجد سلوي الا في مخاطبتهم. وبالعقل، أي موظف او مسئول عن السينما في بلادنا، كان يمكن أن يتحمس لصنع هذا الفيلم؟، أليس من السخف ان نطلق عليه فيلما فرنسيا؟. فيلم " معارك حب " لدانيال عربيد، وفيلم " اغترابات " لمالك بن اسماعيل، فيلمان عربيان انتاج فرنسي، شاركا في العديد من مهرجانات السينما العربية والعالمية، وحصلا في بعضها علي ارفع الجوائز، فالاول حصد جائزة الفيلم الاوروبي المتميز في مهرجان " كان " 57 في العام الماضي، وجائزة أحسن فيلم في مسابقة مهرجان السينما العربية من تنظيم معهد العالم العربي، كما حصل الفيلم الثاني علي جائزة من مهرجان سينما الواقع في باريس، والجائزة الكبري لمهرجان الاسماعيلية للسينما التسجيلية في مصر، ونحن نرشحهما، حيث يعرضان حاليا في باريس، للمشاهدة عن جدارة . وللمقال بقية.