تعتبر فترة ما بين الحربين بمثابة مرحلة مهمة في تاريخ العراق المعماري، إذ ارست هذه المرحلة انعطافه مميزة في الممارسات المعمارية تناولت اوجه النشاط التصميمي المختلفة في القطر، فمن هيئة "الفورمات" الغريبة لتكوينات مبان ذات مهام اشغالية جديدة، الى استخدام مواد حديثة مع توظيف اساليب انشائية لم تكن معروفة سابقاً، الى نوعية بنائية انطوت على مهارة وحذق تنفيذيين عاليي المستوى، الى غير ذلك من المدخلات المعمارية الجريئة التي حفلت بها تلك الفترة.

وتمثل عمارة مبنى "الشعبة الدينية" (التابعة لمشروع جامعة "آل البيت" والمجاورة للضريح الملكي في الاعظمية ببغداد) الدرس التصميمي التأسيسي الأول في عمارة مجموعة الابنية التي نفذت في تلك المرحلة والتي امتدت تبعاتها ونتائجها الى فترة زمنية طويلة نسبياً.
تهدف الدراسة الى جلاء وتقصي القيم والمبادئ المعمارية التي اتسم بها تكوين ذلك المبنى، كما تهدف الى تتبع مرجعيات القرارات التصميمية بغية ادراك وفهم موضوعيين للناتج المنجز وتأشير اضافاته مقارنة بسياقات الممارسات البنائية وقتذاك، فضلاً عما تتوخاه هذه الدراسة من لفت الانظار الى موضوع حضاري – ثقافي، ونعني به الممارسات المعمارية الحديثة التي كان للعراق قصب السبق فيها وتكريسها ونشرها في منطقة الشرق الاوسط بعامة.

وفقاً للتخطيط الذي اعده جي. أم ويلسون (1887-1965) J. M Wllson - مدير الاشغال العمومية وقتذاك – لمجمع " جامعة آل البيت" فإن مبنى "الكلية الدينية" هو واحد من ستة مبان متكررة يفترض ان تخصص لفروع الجامعة الأخرى، وهي: "الطبية، والهندسة، والحقوق، والآداب، والفنون". وتشكل هذه المباني ايضاً، مع "الصرح المركزي"، المرتكز الاساسي لمنشآت القسم الاكاديمي التي تم توقيعها على جانبي الجادة العريضة المستحدثة في المشروع التخطيطي المقترح.

لقد راعى المصمم في أمر توقيع مبنى "الشعبة الدينية" ناحيتين أساسيتين: أولاهما سهولة التوسع الفضائي افقياً كي يمكن استيعاب المتغيرات الوظيفية مستقبلاً، والناحية الاخرى اعتماد المبنى على احياز خدمية مساندة تكون مجاورة له ومتاخمة، بغية الحصول على فراغات ذات كفاءة اشغالية عالية. ولعل العناية بهاتين الناحيتين توقيعياً هي التي تفسر لنا "تناثر" تسقيط المبنى (والمباني الاكاديمية الأخرى) على المخطط، واعتماد مساحات

فسيحة بينهما. كما توضح نزعة تمركز فضاءات ثانوية عديدة تكون مجاورة لهم، ذلك لأن كتل المباني الرئيسة تخلو من أي نوع من أنواع الاحياز الخدمية (كالمرافق الصحية وسواها)، مما حال الى عدم اللجوء الى اقامة سياجات حول المباني المصممة وجعلها (أي هذه المباني) تعمل بصورة متصلة ومرتبطة عبر ممرات ومماشي لتأشير حالة الترابط الوظيفي وتعزيز مبدأ التداخل الاشغالي بينهما (1).


تقدر المساحة الكلية لمبنى "الشعبة الدينية" بحوالي (4000) متر مربع، موزعة على طابقين تشغلها صفوف مع غرف ادارة ومخازن بالاضافة الى قاعة اجتماعات تتسع لـ (400) مقعد. وتقدر ابعاد كتلة المبنى بـ (27.4 × 66.30م) (30 ×72.5 ياردة).
ويتشكل مخطط المبنى على مسوى الطابق الارضي من ممر وسطي بعرض (3) م ينتهي بطرفيه بابان يقودان الى خارج المبنى؛ وينتظم على جانبي هذا الممر اربعة صفوف من كل جانب، وثمة قاعتان تدريسيتان كبيرتان تقعان في كل طرف من طرفي المبنى الاخيرين. ويقع المدخل الرئيس على امتداد المحور العرضي، وهناك غرفتان مخصصتان للادارة تقعان على جانبي هذا المحور الذي يقود الى سلم عريض يؤدي الى الطابق الاعلى والى مدخلي القاعة الرئيسة. ويحيط بالمبنى على امتداده الطولي ومن الجانبين رواق عريض (3.5) م يستند الى عشرة مساند في الجهة الامامية والى ستة مساند فيالجهة الخلفية، وهذه المساند تخلق سلسلة من العقود الدائرية بقطر (3) م تقريباً(2).

يكرر المصمم النسق التصميمي ذاته لتوزيع الفضاءات على مستوى الطابق الاول مع بعض الاختلافات التي تفرضها نوعية الحركة والاسلوب المعتمد في معالجات الواجهات، فيضاف صف واسع نسبياً في الطابق الاول بدلاً من المدخل وغرفتي الادارة، وتضحى الاروقة الارضية هنا شرفات في كلتا الواجهتين. ومن منبسط “Landing” الدرج الرئيسي ثمة مدخل الى شرفة القاعة، وهناك قبة مقرنصة فوق السلم تسهم في اضاءته.

يتطلب التحليل الموضوعي لتكوينات مبنى "الشعبة الدينية" رصد وتقصي معايير تقييمية عديدة بامكانها ان تتكفل بتغطية حالتين اساسيتين نزعم انهما متكافئتان. وهاتان الحالتان تنحصران في "الناتج والمنتج "، او بعبارة اخرى في "التصميم والمصمم ".فنحن ازاء"حدث معماري " مهم حدث يرسي، بلغته التصميمية واساليب تكويناته، ومكانته الريادية ومقياسه الكبير ونوعية الاعمال التنفيذية وطبيعة الوسائل الانشائية، دالة معمارية مهمة، بمقدورها ان تقود وتوجه مسار تطور العمارة في القطر. من هنا تضحى" رؤى المعمار" واتجاهاته التصميمية طرفاً أساسياً في العملية التحليلية بالاضافة الى نوعية التكوين المنجز طبعاً، عند ذاك تصبح الاجابة على نوعية تأهيل "الميجور جي. ام. ويلسون "، المصمم الرئيس لمبنى الشعبة الدينية والاحاطة بمؤهلاته المهنية والتعرف على تجاربه السابقة في هذا الشأن من الامور الضرورية في كشف اسرار التكوين المعماري للمبنى وتأشير انجازاته، بيد اننا نحرص على التذكير بقناعتنا الراسخة بأن طبيعة البيئة الثقافية واشتراطات التأهيل المهني والنفسي ونوعية المعايير الذهنية التي نما فيها المعمار أبان تلك الفترة وربما حتى ضغوطاتها هي التي تؤلف في الاخير "سبيكة" المرجعيات الابداعية للمعمار وتطبيع الحلول التصميمية المقترحة بطابع مميز لا يمكن للمعمار أن يتجاوزها بسهولة أو أن "يفك" ارتباطه بهما بيسر.
في تخوم القرن السابق والحالي، أفرزت الممارسة المعمارية العالمية توجهاً مهنياً ينطوي على تكافل وتكامل نوعية المعالجات التكوينية الجاهزة مع خصوصيات اعداد المعمار وتوجهاته ضمن طبيعة معرفية معينة. وامست عملية التفريق بينهما عملية غير ممكنة ومعقدة في آن، بحيث بات من الصعب بمكان معرفة ايهما يؤثر في الآخر: طبيعة تأهيل المعمار وثقافته، أم نفوذ اغواء تكوينات المخططات الجاهزة واغراءاتها؟!


ولقد شاع هذا النهج التصميمي في أوساط مهنية فاعلة في بريطانيا أثر تقلب الاتجاهات المعمارية فيها وتذبذبها طيلة القرن التاسع عشر؛ فمن ارهاصات عقلانية "التصميم الوظيفي " الذي طبع مباني الاشغال الصناعي في انكلترا بداية القرن الماضي، واستشفاف قيم ومبادئ معمارية سابقة لزمانها (عمارة "القصر البلوري" على سبيل المثال) الى كشف واستخدامات المواد الجديدة والاساليب الانشائية الجريئة ثم الى النكوص المفاجئ لجميع هذه الانجازات عبر طروحات حركة "الفنون والحرف" الى التعاقب السريع غير المبرر والمزاجي الذي اتسمت به لغة الاساليب المعمارية المتأخرة، ليرسو كل ذلك بعدئذ عند "أوهام" الكلاسيكية الجديدة المنطوية على لجاجة منح المباني المنجزة قوة تشكيلية وصرحية مبالغ فيها.
عند تلك المرحلة الزمنية ذاتها التي وصلت اليها العمارة الانكليزية يبدأ "جي. أم ويلسون" في تلمس تأثير شوكة الصياغات التصميمية السائدة في ممارسته المعمارية. ولقد عمل على زيادة أمر تكثيف ذلك التأثير سببان: أولهما نوعية التأهيل المهني الذي شب عليه "ويلسون" والقاضي بتعلم المهنة لمعمارية "حقلياً" وليس عن طريق مؤسسات اكاديمية، بمعنى التأهيل عن طريق التدريب في مكاتب معمارية محترفة. فمن المعروف أن قابليات خريجي "التعليم الحقلي" عادة ما تكتفي بنمط مقتن من الاساليب التصميمية؛ وتعزف بحكم نوعية التأهيل عن قابلية الاجتهاد التصميمي، كما أنها تنأى عن الاعتراف بتعددية الخيارات التكوينية، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى فإن ما يسم مؤهلي التدريب المهني كثافة المعايشة الميدانية لحقل الاختصاص وما تنطوي عليه هذه المعايشة من ضرورة التدرج الوظيفي وترقى سلم المسؤوليات فيها بتعاقب وضبط صارمين، الأمر الذي يمنح الخريج / المؤهل معرفة دقيقة بطيف واسع من قضايا و "خفايا العمل المعماري والتنفيذي.
أما الأمر الآخر الذي أثر بقوة في مسلك "ويلسون" التصميمي فهو تعرفه على "ادوين لاجنس" Sir Edwin Lutyens ومن ثم اصطحابه الى الهند والعمل معه كمعمار مساعد في تخطيط نيو-دلهي والمشاركة في اعداد تصاميم مبانيها المهمة.


لقد كانت "الفترة الهندية" في حياة ويلسون المهنية بمثابة خد فاصل بين "متدرب" ذي رغبات وتطلعات غير واضحة المعالم و "معمار" ناضج يمتلك نهجاً تصميمياً صريحاً. ذلك لأنه في هذه الفترة ذاتها تكرست بقوة لدى "ويلسون" رغبة الاهتمام والتعاطف نحو اسلوبية النهج الكلاسيكي في العمارة وفقاً لمفاهيم وتأويلات اساتذة "ادوين لاجنس".
ان تجاهل هذين المؤثرين سيخفض من دون شك مقدار ادراك مفهومية نهج "ويلسون" التصميمي، ويقلل في الوقت عينه – في حالة التغاضي عنهما- من مصداقية التحليل التكويني لانجازات المعمار. على أننا ينبغي ان لا نغفل ايضاً، في هذا المقام رغبات وتطلعات الفئة النخبوبة التي يتعاطى معها المعمار ويصمم لها، والذي يعتبر نفسه جزءاً منها. فقد بات من الأمور المسلم بها اعتماد "الصفوة" على اسلوب تصميمي معين لوحده، واتخاذه كوسيلة لتحقيق طموحاتها و مطاليبها، الأمر الذي يضع "تابو" Taboo مهنياً على استخدامات جميع الاساليب المعمارية الأخرى وخاصة تلك التي يشم منها رائحة الحداثة أو نفس الطليعية.
من هنا وتبعاً لروافد ومرجعيات المصمم فإن المخطط المنتقى لمبنى الشعبة الدينية لا يمكن أن يكون إلا " كلاسيكياً "، بغض النظر عن اشتراطات الموقع وخصوصيات البيئة المحيطة، وبالضد حتى من مفردات التطبيق الوظيفي. فخصوصية تأهيل المعمار تواقة هنا بشغف حماسي نحو اسلوبية المخططات الكلاسيكية الجاهزة، ليضحى فحوى المهمة التصميمية لديه بمثابة حل ناجز يتحرى عن "ثيمة" معمارية.


فسيان لدى "ويلسون" تنوع الموضوعة الموكلة اليه: في ما إذا كانت مستشفى "مود التذكاري" الذي صممه للبصرة (1922) أم "قصر الملك فيصل" على دجلة ببغداد (1926) الذي لم ينفذ؛ أم دائرة الميناء البحري بالبصرة (1928) أم مخطط الشعبة الدينية لجامعة "آل البيت" (1922) أم غير ذلك من المواضيع التصميمية، فجميعها متكفل بحلها المخطط الكلاسيكي العتيد المنطوي على حضور مؤثر للتماثلية!
في تعامله في الحل التكويني لمخطط "الشعبة الدينية" يشدد "ويلسون" على قناعاته التي يؤمن بها عميقاً، والتي سبق أن رسخها عنده استاذه "ادوين لاجنس" أبان اعمالهما في الهند. فـ"ويلسون" حاله حال لاجنس في مشايعته لافكار "كريستوفر رين" Sir Christopher Wren الذي يعتقد اعتقاداً ثابتاً بأن "الموروث الكلاسيكي الاوروبي " بامكانه لوحده فقط، ان يجسد الحقيقة الانسانية بطبيعتها الشاملة"(3). من هنا تبدو شرعية المخطط التصميمي وفقاً للتقاليد الكلاسيكية الاوروبية أمراً مفروغاً منه؛ وتبعاً لهذه "الشرعية" أيضاً فإن العزوف عن تناول رموز وعناصر الموروث البنائي المحلي ومحاولة توظيفه في اساسيات التكوين المقترح سيكون أمراً دخيلاً غير مرغوب فيه.
ومع أن طبيعة التكوين المبتدع بموجب هذه المعايير سينجم عنه مبنى يتسم بتنكر صاروخ للسياقات "الفورمات" المعتادة ويتميز عنها بغربة لغته المعمارية فإن ذلك لا يثير خوفاً أو ذعراً لدى المعمار عند الشروع لاحقاً في العمليات التنفيذية التي سيسهم في انجازها لا محالة "الاسطوات" والعمال المحليون: ذلك لأن هاجس السعي العميق نحو ارساء القيم المعتقد بها والتوق الشديد في انباتها وزرعها في تربة غربية وبعيدة، كان أهم بكثير من تبعات التناقص الفكري بين المعمار وعمال التنفيذ، وما سيترتب عنه من انواع المشاق والمتاعب الجمة والمنتظرة اثناء انجاز الفكرة التصميمية.
يغدو أن يكون تكوين مخطط الشعبة الدينية عملاً مألوفاً وعادياً، فصيغة "الفورم" المقترحة في شكل حرف (T) اللاتيني شائعة في الكثير من المخططات الكلاسيكية، ان اضافات المعمار تتجلى هنا في حسن المزاوجة بين انواع التفاصيل الكثيرة مع اشتراطات نسب مقياس المبنى؛ واستثمار مقتدر لخصوصية المادة الانشائية المستعملة وتطويعها جمالياً، فضلاً عن دوره الكبير في تنظيم سيرة العمل والسيطرة عليه ومتابعته الجادة للاعمال التنفيذية ودقتها.
يعالج "ويلسون" اسلوب لغة واجهات الشعبة الدينية بأهلية متمكنة إذ يحرص على تضاد خطوط التقسيمات الافقية لواجهة كتلة المبنى ذات الابعاد الطويلة نسبياً (66متراً) مع وضعية اتزان الاعمدة الشالوقية فيها؛ ويجعل من أمر معاكسة شكل الفتحات العليا ذي التناسب العرضي مع عمودية هيئة عقود رواق الطابق الارضي وسيلة في اغناء عناصر تكوين الواجهة واثرائها.
وبغية تحديد وحصر انسيابية "جريان" الحركة الايقاعية التي تمثل "الموتيف" الاساسي في منظومة جمالية الواجهات، يلجأ المعمار الى تثبيت كتلتين بنائيتين موقعتين في طرفي المبنى ويجعلهما أعلى منسوباً من مستوى الخط العام لارتفاع الواجهات. وسعياً لزيادة أهمية هاتين الكتلتين في الحل التكويني يتوق المصمم الى تزينها بتفاصيل عديدة ذات عناصر زحرفية شائكة.
يتعاطى معمار الشعبة الدينية مع مفردات تصميمية سبق ان درست هيئاتها بشكل عميق وتفصيلي من قبل معماريين عديدين في كثير من تكوينات المباني سواء كانت (التكوينات) في صياغاتها الاصيلة القديمة أم في نماذج المباني الحديثة التي تحتذي بالنموذج الكلاسيكي. ويمثل اسلوب معالجة الرواقين: الامامي والخلفي للمبنى المعتمد على استخدامات الاقبية المتقاطعة حدثاً تصميمياً مهماً يطمح المعمار الى استنفاد منتهى طاقة المادة الانشائية جمالياً. فنحن ازاء حلول رائعة لمفهوم "التكتونية"(4)، ذلك المفهوم ، الذي تتجلى فيه قوة الاحرازات الجمالية النابعة عن توظيفات المنظومة الانشائية.
في الحل التكويني الناجز للاروقة الجانبية لا يحس المرء بضخامة الكتل البنائية على الرغم من ثقلها الواقعي /الفيزياوي؛ ذلك لأن رسوم الخطوط المائلة الوثابة للعقود المتقاطعة وتناوب الكتلة مع الفراغ واستخدام امكانيات الظل والضوء، فضلاً عن التغير المتناوب لمستويات سطوح التسقيف الذي تخلفه اشكال الاقبية المتقاطعة، تعمل جميعها على "تهشيم" ضخامة الكتل البنائية وتضفي على عناصرها تداعي الاحساس بالخفة والرشاقة. ان مقدرة المصمم على تجميع التأثيرات الحسية المختلفة بصورتها الدراماتيكية، كما نراها في الحل التكويني للأروقة الجانبية، يذكرنا، بعفوية، بمقولة المعماري الفرنسي الشهير لوكوربوزيه: "ان الشغف والولع المهنيين بامكانهما ان يخلقا دراما حقيقية حتى من المادة الخاملة!" (5).
تلعب العقود كمفردة تصميمية اساسية دوراً مهما في الحلول التكوينية لمبنى "الشعبة الدينية" فهي تخلق بتعاقبها الايقاعي الرواق المقنطر في الواجهتين الامامية والخلفية(6) عند مستوى الطابق الاراضي. ومن أجل اضفاء وحدة تصميمية على مفردات التكوين، يسعى المصمم لأن يكون القوس الدائري شكلاً لجميع فتحات الفضاءات الموقعة في هذا الطابق من أبواب ونوافذ وغيرها. كما يلجأ المعمار الى مواءمة غربية بين احرازات القوس الدائري تأثيرات القوس المدبب في اشكال العقود التي أوجدها. فانسيابية وهدوء القوس الدائري الذي يمثل شكل العقد الحقيقي تتعاكس مع حركة و دينامية ايحاءات القوس المدبب المتشكل عبر اسلوب خاص من اعمال رصف فوق الفتحة مباشرة، الأمر الذي يخلق من هذا المزيج التصميمي قوة تأثيرية معبرة جراء تشغيل خاصية "التضاد" كعنصر تكويني بأقصى طاقاته. وربما كان ويلسون قانعاً باهتدائه الى تعبيرية هذه التركيبة التصميمية، فقد ظل يستعمل تلك الصبغة في تكوينات مبان عديدة نفذها بالعراق؛ وسنجد صدى لاستخدامات ذلك المزيج في عناصر اللغة المعمارية لكنيسة "سان جورج" التي صممها في الثلاثينات ببغداد(7).
يعود "ويلسون" الى منبع ثقافاته المهنية الخاصة عند اختياراته لمهام طبيعة واشكال فتحات المبنى؛ تلك المهام التي تولد الاحساس الجمالي وتمنحه للواجهات. وهو هنا في اختياراته يتغاضى عمداً عن الحلول المعتادة في اساليب البناء المحلي وتقاليده التي تجعل من جدران المبنى حيطاناً صلدة وصماء تتناثر عليها اشكال الشبابيك الصغيرة التي تتكفل بايفاء متطلبات "الخصوصية" Prlvacy واشتراطات اتقاء ظروف البيئة المحيطة القاسية؛ إذ نتلمس تنكراً قصدياً لكل ذلك. فـ "ثقوب" الشبابيك تمسي عند المعمار نوافذ عريضة ارتفاعها بطول الجدران ذاتها؛ وضخامة الحائط يتآكل بالفتحات الواسعة لها، وكل هذا الحرص يبدو ضرورياً ليتلاءم مع السمات الاساسية لعمارة انكلترا في منتصف القرن التاسع عشر عندما قوبلت اعمال المعمار "نورمان شو" Norman Shaw (1831-1912) المنطوية على نزعة استخدام اشكال النوافذ الواسعة بترحاب وانبهار وقتئذ.
على أن "ويلسون" لم يكن معماراً ساذجاً بحيث لم يراع مغبة استعمال فكرة النوافذ الكبيرة في مناخ يتسم بعوامل الحرارة العالية والضياء الساطع. من هنا تضحى مداخله المعمار في المساهمة بعناصر تصميمية جديدة تعمل على تحييد وطأة هذين العاملين أمراً لا مندوحة عنها. ولعل وظيفة الشرفات العميقة في الطابق الأعلى ( يصل عمقها الى 4 ياردة)؛ وكذلك الاروقة الجانبية في الطابق الأرضي تلبي احدى متطلبات الحماية البيئية اللازمة؛ وبهذه المداخلة التكوينية فإن المخطط الكلاسيكي المنتقى يتراءى لنا اكثر قرباً واستجابة لاشتراطات انتمائية المبنى لخصوصية المكان.
تدل تكوينات ورسوم التفاصيل الأجرية المستخدمة في مبنى "الشعبة الدينية" على مقدرة عالية وفهم عميق لطبيعة المادة التي يتعامل بها المعمار. والحق ان الرصانة الجليلة والحذق المهني الرفيع اللذين يتمتع بهما المبنى مردهما ذلك الثراء التفصيلي الذي يكتنفه وليس نسك التخطيط أو تقشفه فقط. ان تنوع لغة التفاصيل المعبرة وغناها ووفرتها هو الذي يفرز تلك الطاقة الآسرة من قوة التأثير ويجعل من مخطط المبنى العادي والمألوف تصميماً فريداً ينطوي على اضافات تكوينية بليغة. وتبدو أهلية المصمم واضحة حين يتعاطى مع مادة انشائية منفردة لوحدها (وهي هنا الطابوق) دون وجل من الوقوع في محفل الرتابة أو السقوط في طوق الملل.
لا يدع المعمار سانحة دون تذكيرنا بوفرة الخزين التفصيلي الذي يمتلكه، واشعارنا بمدى اقتداره على توظيف التفاصيل في المعالجات التصميمية للمبنى فثمة احساس مرهف يمكن اداركه من طريقة مواءمة الصياغات التفصيلية مع مزايا الطابوق، إذ تبدو خطوط ورسوم التفاصيل نابعة من طبيعة المادة الانشائية ومدغمة معها. ومما يضيف قوة تأثيرية لهذا الاحساس حصافة التنفيذ ودقة حرفية العمل.
في الحل التكويني لمنظومة تفاصيل مبنى "الشعبة الدينية" لا يعطي ويلسون أي انطباع في كونه يحتذي، أو يستلهم اشكال الاعمال الآجرية أو المحلية، فهو يتكئ في هذا المقام على تراكم خبرته الخاصة ويعتمد على تأهليه المهني الذي يعير الجانب التفصيلي مساحة واسعة من الجهد التصميمي، الأمر الذي يجعل من اسلوب الاعمال التكميلية واشكال التفاصيل المقترحة اضافة تصميمية جادة مشوبة بنوازع "الحداثة" مقارنة بما كان يجري من سياقات عمل مألوفة وتقليدية. فالمعمار ملم باصول وجذور التفاصيل التي يتعامل بها، وهو ماهر في اختيار مواقعها، كما أنه ضليع في انتقاء المقياس المناسب له. على أن الحدث الأهم في كل ذلك هو محاولة ارساء "اسلوبية" جديدة للتعامل التفصيلي التي تستند الى فكر مغاير تماماً لكنه الذائقة الفنية المحلية وحلولها المعروفة في تشكيلات الاعمال التفصيلية.
يسعى "ويلسون" لأن تكون مهام الاعمال التفصيلية استدلالية ايضاً، ولعل هذا المسعى هو الذي يفسر لنا سبب استخدام تفاصيل متباينة في الحل التكويني/ الفضائي، فمن خلال التفاصيل ذاتها تتحدد فراغات مكونات المبنى ووظائفها وتؤشر العناصر التصميمية ومواقعها وتتعين انواع الفتحات واهميتها، فثمة وحدة تفصيلية جلية، على سبيل المثال، تكتنف عناصر مخطط الطابق الارضي عمادها العقد والأقبية، ابتداءً من شكل الابواب والنوافذ الى هيئة العقود الدائرية في رواق الواجهات، الى صيغة تسقيف الممر الوسطي الداخلي الذي يعتمد على القبو الاسطواني، في حين تتغير تفاصيل العناصر الفضائية مصممة وفقاً للتناسب الهندسي المتعامد ويأخذ تسقيف الممر الوسطي في هذا الطابق مع الشرفات الجانبية شكلاً مستوياً متناسقاً مع انتظام هندسية الفتحات فيه.
يعالج المصمم مدخل المبنى باسلوبين مختلفين: اولهما يحص تأشير المدخل من الخارج والآخر كيفية تناوله من الداخل. لا نشعر بأية رغبة لدى المصمم على تأكيد أهمية المدخل من الخارج، فهيئته وتفاصيله تتبعان بصرامة منظومة مفردات الواجهة المتشابهة، وقد يكون توقيع محور التماثل الذي يمر من منتصف عقود الرواق الامامي (الذي ينبغي لهذا العدد أن يكون وترياً وليس شفعياً، وعدده هنا احد عشر عقداً) هو التأشير المهم لمكان توقيع المدخل خارجياً. أما من الداخل فإن معالجته تغدو شيئاً آخر. فالمعمار هنا معني بخلق حالة تصميمية مؤثرة تعوضه عن فقدان فرصة الافصاح عن براعته التي لم يتمكن من اظهارها خارجياً، حتى لا يخالف اشتراطات صارمة فرضتها عليه طبيعة المخطط المنتقى.
لقد استثمر المصمم هنا اتجاهية المحور العرضي مع تقاطعات مسارات الحركة، ومداخل الفضاءات المحيطة بالاضافة الى وجود السلم الرئيسي كاحداث اساسية تسهم في اثراء الفضاء الذي يتعامل معه. وتتجلى قابلية المصمم في نوعية التسقيف المختار، فنحن ازاء حالة معمارية غايتها استيلاء اشكال تكوينية مفعمة بالاحاسيس التعبيرية جراء الانتقالات التصميمية السريعة والتوظيف الخلاق لرسوم الأقبية المتقاطعة واستخدامات انواع العقود المتدرجة، فضلاً عن حزم الضوء "المسكوبة" من جوانب القبة المقرصنة. ان تكثيف وتمركز المعالجات التصميمية المختلفة في حيز فراغي محدد وقصير نسبياً كفيل بخلق تلك "الدراما الحقيقية" – كما يدعوها "لوكوربوزييه" – من الاشكال الدينامية والخطوط الحيوية ويمنح الفضاء المبتدع قيمة معمارية كبيرة تزيدنا احساساً بأهمية المكان.
ثمة اشكال فكرية وتطبيقية من الجائز ان المعمار قد اصطدم بها اثناء معالجاته تكوين مبنى "الشعبة الدينية". فهو من ناحية مقتنع قناعة تامة بأن ما يعمله هو وليد العقلية والذهنية الخاصتين اللتين جبل عليهما، وما ينجم عن ذلك من عدم اكتراث –كما ذكر سابقاً- لامكانية توظيف حقيقي لعناصر مفردات الموروث البنائي المحلي في التكوين المقترح، ومن ناحية اخرى، فإن خصوصية المكان وما تفرضه من حتمية التعامل الاجباري مع الشغيلة المحلية وتقاليدها وكذلك ضرورة ايفاء اشتراطات البيئة المعاشة تجعل من الصعوبة ان يعمل المخطط الكلاسيكي الجاهز بكاءة عالية دون اضافة أو تغيير.


لقد تصدى المعمار لحل هذه الاشكالية باستجابات تصميمية متفاوتة فسمح بممارسة متواضعة لامكانية استخدام بعض اشكال الزخرفة العربية في اماكن محددة مساحاتها سلفاً وليس بمقدورها بأي حال من الاحوال أن تؤثر في كنه نسيج تكوينات التفصيل أو ماهيته. هذا ما نراه واقعاً في أماكن الافاريز العليا وفي مقرنصات القبة الصغيرة فوق السلم وفي أماكن اخرى ثانوية وجانبية، في حين كانت استجابة المعمار للظروف المناخية السائدة واستخدامات المادة أكثر فاعلية وجدية. ولعل هذا النوع من الاستجابة هو الذي يضفي على المبنى تلك الانتمائية المكانية المألوفة ويجعله متعاطفاً الى حد كبير مع سياقات البيئة العمرانية المحلية ورموزها.
لقد كانت المعالجات المناخية في مبنى "الشعبة الدينية" بمثابة اضافة تكوينية ذات حضور مميز في التصميم. وتكمن المفارقة المهنية هنا في أن جميع استخدامات المعالجات البيئية هي بمثابة أمور غريبة وجديدة عن فكر وذهنية المعمار، ولكنها استخدامات مألوفة ومعروفة في الارث العمراني المحلي، ذلك الارث نفسه الذي يتغاضى المصمم عن الاعتراف بأهميته ويتجاهله دوماً. على أن "ويلسون" بمراعاته وسائل وقاية المبنى بيئياً، يتجاوز ذلك العزوف المهني ويتناس انكاره له عندما يحيلنا مرة اخرى لفض هذه الاشكالية الى المحاولات التجريبية التي عني بها استاذه "ادوين لاجنس" في اعماله السابقة بالهند.
فعندما نصح هيريبت بيكر (1862- 1946) Sir H. Baker المعماري المشارك في تصميم "نيودلهي" زميله "ادوين لاجنس" بأن "يستجيب الى العواطف الهندية عند وضع التصاميم… هناك عندما لا يكون ثمة تعارض معماري كبير مع المبادئ العظيمة…" وأشار عليه أن يطرح جانباً التقاليد الكلاسيكية "سيروا في طريق ايجاد الحل المعماري وفقاً لاشتراطات الشمس والظلال عند ذلك سوف يكون بمقدروكم انتاج عمارة ليست "هندية" على كل حال، ولا حتى "انكليزية" أو "رومانية" وانما عمارة "امبراطورية"…"(8)، وهو ما أخذ به "لاجنس" فعلاً، عندما اضاف الى المخططات الكلاسيكية الأصلية التي كان يتعاطى بها أساليب التقاليد الهندية في حماية المبنى بيئياً، على سبيل المثال ومن الجائز جداً أن يكون لتك الممارسة التصميمية أثر عميق على نهج "جي. أم ويلسون " الذي عمل مساعداً لـ "لاجنس" وقتذاك.


في استخداماته لوسائل الحماية البيئية في مبنى "الشعبة الدينية"، يبدو المصمم احياناً قلقاً ومشوشاً ومضطرباً. فالالحاح على خلق مجاري التيارات الهوائية في المبنى وضمن الاساليب المعقدة التي اقترحها المعماري، أمر يثير تساؤلاً عن مدى استجابة الحل المقترح للظروف المناخية المحلية، إذ يلوح لنا بأن هذه المعالجة خليقة بالأجواء الحارة الرطبة وليس بمناخ العراق الحار الجاف. كما أن "شغف" المصمم "ولعه" في استخدام "المزاريب" بتلك الكثرة غير المبررة معروفة بقلة امطارها يتطلب هو الآخر تبريراً منطقياً. ويظل قرار، استخدام مساحات زجاجية كبيرة في النوافذ الواسعة (على اهميته وجرأته التكوينيتين) لفضاءات تخلو تماماً من وسائل التكييف الاصطناعية، يظل يثير هذا القرار استفهاماً ملحاً عن كيفية ملاءمته لاشتراطات البيئة المحلية. وعلى العموم، فإن صيغ المعالجات المناخية في تصميم "الشعبة الدينية" لم تكن بتلك الكفاية والاهلية المقتدرة كما هو الحال في طروحات المعمار للنواحي التكوينية الأخرى. ومرد ذلك هو الفهم الاحادي والسريع لنوعية الحلول المصاغة تحت تأثير مناخ " الهند"الحار الرطب وما نجم عنه من شيوع استعمال وسائل حماية معينة نابعة أصلاً من خصوصية ذلك المناخ ومحاولة المعمار نقل تلك الوسائل واستعمالها في اجواء ومناخات مختلفة.

ولئن كانت طرق المعالجات البيئية المستعملة في المبنى لم تضف شيئاً كثيراً للمتعارف عليه في الممارسات البنائية المحلية في هذا المجال، فإن استخدامات مواد واساليب الانشاء في تنفيذ المبنى كان يمثل حقاً طفرة نوعية واختراق واسع لمألوفية استخدام هذين العاملين (أي المواد والاساليب)، وترتقي طريقة توظيفهما وحجم الاعمال المنفذة بهما الى مستوى الحدث الذي يؤشر انعطافاً مهماً في الممارسات البنائية ويرسي مرحلة جديدة في تطور العمارة الحديثة بالعراق.□□


الهوامش:
(1) ان السياج الامامي الحالي لم يكن موجوداً أبان تنفيذ المبنى وقد أنشأ في وقت متأخر (عام 1935)، وقام بتصميمه معمار الحكومة "كوبر" ويعتقد أن "كوبر" نفسه هو الذي نفذ في تلك الفترة أيضاً البنايتين الملحقتين والواقعتين خلف مبنى "الشعبة الدينية".
(2) جميع القياسات الواردة في النص هي قياسات ميدانية قام بها الباحث مع طلبة قسم العمارة بكلية الهندسة / جامعة بغداد.
(3) A. A. Korotlskals “Modem Architecture of India” Moscow. 1986.P 83.
(4) Tectonics التكتونية -
يقصد بالتكتونية استخدام المنظومة الانشائية من اجل احراز تأثير جمالي نابع من خصوصية المنظمة نفسها. والتكتونية عنصر فعال واساسي من عناصر التكوين المعماري.
(5) U. Savlticky “Architecture of Capitalist Countries” Moscow. 1973. P 51.
(6) تم اغلاق رواق الواجهة الخلفية في وقت متأخر وبشكل تعسفي، الأمر الذي أدى الى تشويه المبنى والاخلال بنظام انارة الفضاءات الاساسية به.
(7) تقع كنيسة "سان جورج" في الكرخ بمنطقة "كرادة مريم" مجاورة الى مبنى وزارة الثقافة والاعلام ودائرة السينما والمسرح. صممها "ويلسون" عام 1935 واكتملت في 1937.
(8) Huaasy C. “The life of Sir Edwin Lutyens” London, N. Y. 1950. PP. 240 -252.