كان الأمر مفاجئاً بالنسبة لي، إذ لم أكن أتوقع أن تسبب تربيتي الخاصة والمختلفة لأذهان طلابي إلى هكذا انجرافات متهورة وغريبة. لم أكن أشعر برضى تام، في الوقت فسه لم أكن أشعر برفض تام أيضاً. كنت محتاراً واتخبط في تلك المنطقة الواقعة بين الرغبة والخوف، كنت أدرب طلابي على رفض الخضوع للقوانين التي تكسر الروح وتشل الطاقة الداخلية، لم أكن متأكدا أن اقتراحهم المجنون الجديد الذي وضعوه أمامي هذا الصباح يصب في اتجاه رفض الخضوع أم لا إذ ماذا يعني احتلال المدرسة من قبل الطلاب واعتقال المدرسين والمدير والآذن وعمال الكافتيريا في غرفهم؟؟ هل يصب هذا الجنون في مصلحة طاقة الطلاب ومحاربة الأنظمة التعليمية التي تقهر الأحاسيس؟ طلبت من أحمد وصهيب وخالد ومحمود وأمير وهم أعضاء الهيئة الإدارية لنادي الأدباء أن يتركوني وحدي في المكتبة أُفكر في اقتراحهم. تأملت الخطة المكتوبة التي كتبها الطلاب جيداً ،رحت أناقش المسألة بشكل موضوعي محايد، فوجدت أنها متهورة ، وقد تؤذي طاقة الطلاب بدلاً من تنميتها. لكني سرعان ما استبدلت (موضوعيتي ) و (حياديتي) برؤيتي الخاصة للأشياء فوجدت انها خطة رائعة وطريفة ، تعلم الطلاب التخطيط والمبادرة ورفض الأوامر المتعفنة والمريضة ،ومناقشة الوصايا قبل تنفيذها ولحظة بعد لحظة اقنعت نفسي أن الموضوعية والحيادية اللتين تحججت فيها لرفض الخطة ما هما الإقناع لخوفي من فقدان وظيفتي التي اعتاش منها، فأنا في النهاية موظف- عبد، أنفذ ما أتلقاه من وصايا وكتب وتقارير ومناهج وإذا أردت أن أرفض كوني ذلك فهذا معناه أن أكون في الشارع عاطلاً عن العمل والتأثير والفاعلية. والمتعة ايضا .
وفجأة سمعت داخلي صوتاً آخر، عنيفاً وغاضباً ، يتهمني بالجبن وعدم الانسجام مع الذات ، والثرثرة المجانية، والصوتية، فدم ذعر غريب في مفاصلي، ومرّ أمامي شريط الحوارات التي أجراها معي صحفيون حول علاقة نصوصي القصصية بحياتي الشخصية، كنت أجيبهم بلذة : أنا نصوصي، ونصوصي أنا، تذكرت ما كنت أقول لطلابي حول ضرورة أن يكون الإنسان منسجماً مع نفسه، لا أن يقول عكس ما يفعل، رأيت نفسي أنهض، أزيح الستائر عن شبابيك المكتبة، فتشتعل أشياء المكتبة بنور الشمس الشتائية الدافئة، ناديت طلابي المجانين. أبلغتهم موافقتي وبحماسي ، ابتسم الطلاب ، عانقوني فشعرت أن الله نفسه يبتسم ويعانقني ، باشرنا في الخطة. كان المطلوب هو احتلال المدرسة كلها في ظرف نصف ساعة. كان هناك اجتماع في غرفة المعلمين يضم المدير والسكرتير ونائب المدير والآذن والفرصة كانت سانحة لإغلاق الغرفة ،عند الساعة العاشرة والثلث خرج الطلاب إلى الاستراحة ، كان عدد طلاب المدرسة يزيد عن الستمئة المشاركون في الانقلاب هم عشرة فقط، تم إغلاق الغرفة بالمفتاح ، تقدم أحمد من ميكروفون المدرسة، راح يتلو على الطلاب بيان الانقلاب: أيها الأعزاء، يا زملائي، نعلن أمامكم سيطرتنا التامة على مرافق المدرسة، سندير المدرسة هذا اليوم كما نشتهي، المعلمون والمير ونائبه والآذن والسكرتير معتقلون باحترام شديد في غرفة المعلمين، كان المدير يصيح ويهدد المعلمون ذهلوا من هكذا سلوك، لزموا الصمت، بعضهم كان يضحك، قطع الطلاب الانتحاريون (قادة الانقلاب) هاتف المدرسة.
بإمكانك يا أستاذ زياد أن تفعل ما تشاء، أن تراقب ما نفعل أو أن تجلس في غرفة الإدارة أو أن تغادر المدرسة قال لي خالد أحد الانقلابيين.
قلت له: انني سأراقب ما يحدث ولن أتدخل أبداً.
دس صهيب رسالة من تحت الباب موجهة للمدير والمعلمين والسكرتير والنائب والآذن . ملخصها "نحن نعتذر عن هذا الأسلوب في المطالبة بالحقوق، لكننا مضطرون إلى ذلك بحكم استهتار الإدارة بنا وتعاملها معنا وكأننا أطفال سذّج ، لذلك أرجو أن تتحملوا هذا الجنون الذي لن يستمر سوى اليوم واحد فقط ، رد المدير على الرسالة بالصباح مهدداً ومتوعداً بعقوبات شديدة.
جلست أنا في غرفة الإدارة أراقب ما يفعل الانتحاريون الرائعون الذين هم نتاج أسلوبي الخطير معهم في زرع داء المغامرة الجميل وحس الانقلاب على الأشياء التي فقدت ضياءها وفائدتها وشرعيتها ومستقبلها. طلب أحمد من الطلاب جمع (برابيج) المعلمين التي يضربون بها الطلاب جمع الطلاب الأربعة عشرة البرابيج، كوّمها أحمد بعضها فوق بعض ، أشعل فيها النيران في رواق المدرسة الرئيسي. صاح محمود : هيا نرقص حول النّار ابتهاجاً. رقص الطلاب وصاحوا بأعلى أصواتهم إلى الجحيم: أيها العنف إلى الجحيم ، أيها الأذى. أصابتني قشعريرة لذيذة، وتذكرت العرائض التي تقدم بها الطلاب للإدارة مطالبين فيها بإلغاء عقوبة الضرب (بالبريج). إلى الخطوة التالية ، صاح أحمد ، ركض الطلاب الخمسة عشرة (وهم من صفوف مختلفة) باتجاه الصفوف الفارغة من الطلاب، وهناك سعمت أصوات تحطيم، ركضت باتجاه الصوت فإذا بالانتحاريين يفصلون بفأس المقعد الذي يجلس عليه طالبان إلى مقعدين متجاورين.

قال لي رمزي. الم تعلمنا الاحتفاء بجسديتنا وفردانيتنا يا استاذ؟؟ نحن نطبق تعاليمك
صاح امجد : لا تلفظ كلمة تعاليم ، التعاليم وصايا وحكم وقوانين ، ونحن نرفض كل ذلك، انا افضل كلمة اقتراحاتك بدل تعاليمك، نعم نعم، كم أنا فخور بكم أيها الانقلابيون الرائعون، قلت لهم .
قال مفيد: إنه وقت رمي الطباشير هيا، تبعه الطلاب، جمعوا الطباشير في سلة كبيرة وألقوا بها من النافذة وهم يصيحون مبتهجين، الطباشير تسبب لنا التشويش الذهني والأذى الصحي أليس كذلك يا أستاذ؟ نعم نعم، وقد أبلغت الإدارة مراراً استبدالها بأقلام (فلوماستر) ولكن بلا جدوى.
بعد ذلك دخل الطلاب صفاً من الصفوف، وقف سمير وقال: سنناقش هذا اليوم قصيدة محمود درويش الملحمية (الجدارية) وأجمل ما في هذه القصيدة هو أنها غير مقررة في المنهاج بعد نصف ساعة من النقاش بين طلابي الرائعين ( وهم بالمناسبة من صفوف مختلفة أصغرهم في الصف الخامس وأكبرهم في الثامن ) طلب باسل أن يعطي الطلاب محاضرة قصيرة عن حياة أبي ذر الغفاري أحد الصحابة الجليلين. المنحازين للفقراء ، والبسطاء وهكذا أعطي كل طالب ما لديه من خبرات ومعلومات أعد لها جيداً في الأيام السابقة في الرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية .. الخ. خرج الطلاب من الصف هادئين، توجه أحمد نحو غرفة المعلمين ، فتح الباب ، تدفق سباب المعلمين وصياح المدير كشلال، هرب الطلاب إلى المكتبة فتحت أبواب المدرسة، دخل الطلاب إلى الصفوف بينما مشيت أنا إلى المكتبة بهدوء خفيف وسعادة منقطعة النظري. هناك أغلقنا باب المكتبة، رحنا نناقش الخطوة التالية بعد أن سلمني المدير قراراً بفصل الطلاب وإنذاراً أخيراً لي.
كنا محاطون بالكتب، جلسنا على الأرض على شكل دائرة، الستائر كانت مُزاحة، النوافذ مفتوحة الشمس تجلس معنا، وفراشات مختلفة الأشكال والألوان تقتحم المكتبة ، تزقزق فوقنا، تطلق أصواتاً تشبه الغناء. او الصلاة ، وهل من فرق؟؟

[email protected]