تعدد الإعلام فضائياً قد يكون له صبغة إيجابية حينما يكون التعدد غير مرتبط بالاختلاف الحاد الذي يحدث على الأرض، أما في الحالة العراقية الحالية فإن الجوّ مختلف تقريباً، فالإعلام العراقي فضائياً يعكس الاختلاف الميداني. العراق بآخر المطاف سؤال كبير ومن المبكر الإجابة على كل سؤال يتعلق بالعراق. خاصةً حينما نشاهده عن بُعد فمنذ سقوط بغداد في 9 أبريل 2003 وأنا أشعر بالعجز عن الربط بين العراق قبل السقوط وبعده، لقد تبدل الحال جذرياً.


بعد الغزو لم تعد المسالة العراقية مجرد غزو أمريكي تقف ضده ميليشيات عراقية، بل أصبح العراق ساحة للسلب والنهب، والعجب الذي يتملك الباحث لماذا مرّ زلزال بغداد مرور الكرام من جهة quot;البحثquot; والأسئلة، كما مرت نكسة 67 أو أسوأ. إن الذي حدث في العراق غيّر كل الموازين ونحن لم نزل ننتج الأجوبة وراء الأجوبة من دون استيعاب للذي يحدث على الأرض باستمرار وتحويلها من أسئلة صحافية إلى أسئلة علمية تعنى بالبحث عن الآثار الحقيقية، آثار الحرب على الروح، آثارها الوجودية كيف يفكر العراقي في المستقبل كيف يفكر في العالم هل نحن في حالة جمود قصوى تبدلت معه الذوات لتصبح مجرد أحجار تستقبل كل الكوارث بحكة أنف!


ولأنني سُئلت عن الدور الذي يلعبه الإعلام العراقي فإنني أحاول مقاربة ذلك الاستفهام عبر مقاربات استفهامية أيضاً، يمكن أن ألخصها بالآتي:
-الإعلام العراقي يطبّق ndash;وإن بغير وعي- تجربة الإعلام quot;اللبنانيquot; أن يكون لكل توجه طائفي أو ميلشياوي أو سياسي وحدات إعلامية quot;تزعقquot; باسم quot;الزعيمquot; وتلك التجربة برغم ايجابية التعدد الذي تطرحه في حال وجود التفاهمات السياسية إلا أنها سلبية جداً في حال احتدام الحرب السياسية وفي ظلّ التشابك السياسي البيني على الشكل الذي يحدث الآن في لبنان، بل توظّف حتى المسلسلات في سبيل استفزاز القناة الأخرى المجاورة، وقصة لبنان مع الإعلام الفضائي وحدها تحتاج إلى رصد وتشخيص مستقل، الآن الإعلام العراقي يتجه نحو هذا المنحى بل انزلق إلى ما هو أسوأ فأصبحت القنوات الفضائية وسيلة لكل ناعق يريد أن يجتزّ كتف زميله في الوطن، عبر التشهير والتصعيد أو التشويه والإلغاء. وهي التجربة العربية الثانية بعد لبنان. هذا فضلاً عن الصحف العراقية والتي تنتشر وتكثر باستمرار والتي تعكس حجم الحرب الشرسة التي تحدث داخل الكيانات السياسية الواحدة أو بين الكيانات المختلفة نفسها.


-أشعر أن الحالة العراقية الحالية حالة سياسية quot;متهورةquot; ثقافياً! من كان يفكّر أن بلداً مثل العراق بشموخ تاريخه وعظمة جذوره أن يتحوّل إلى بلد يستنجد برؤساء العشائر غير أن المشكلة الأمنية لا تحل بميلشيات أخرى بديلة، خاصةً وأنها ليست ميلشيات مدنية وإنما quot;عشائريةquot; وقد ينقلب سحرها على الساحر نفسه، ونستذكر هنا quot;الميلشياتquot; اللبنانية وتاريخها الطويل وكيف كان التعقيد أشدّ التعقيد في طريقة quot;تفكيكهاquot; ذلك أنها كانت ميلشيات طائفية وليست مدنية! إن ذلك الاستنجاد يشرح الحالة المزرية التي يمرّ بها البلد. حينما تتخطى الحلول عباقرة العراق وعلمائه وفلاسفته والنشطاء في السياسة والصحافة والإعلام ليصبح مستقبل البلد على كفّ عشيرة أو عشائر حينها سينفلت ولو بعد حين زمام أم السيطرة عليها في أي وقت. يجسد ذلك التهور الثقافي أيضاً رجوع العمامة المختفية تحت الكرافات لحكم البلاد لتعيد quot;ديمقراطيات التخلفquot; إلى الحياة بين ديمقراطية quot;الطوائفquot; اللبنانية وديمقراطية quot;العشائرquot; العراقية أهذه هي الديمقراطية التي تزرعها quot;الشركاتquot; الأمريكية في المنطقة؟


-لا يمكن الحديث عن الإعلام العراقي إلا عبر مدخل واحد هو الوضع في العراق، ذلك أن هذا الهيجان الفضائي السياسي بالنسبة لشرح ما يحدث في العراق يعيد إلى أذهاننا حيلة quot;المعالجةquot; والتي يستخدمها الأتباع حينما يريدون تحسين زعاماتهم فالخطوط الأولى للخبر هي الواقع، والبقية معالجات تقصد إغاضة الآخر عبر استعمال الخبر وتوظيفه من قبل كل طائفة أو زعيم أو تيار. لقد ذكرت مراراً أن المشهد العراقي يذكّر دائماً بنظرية quot;الاستبداد العادلquot; ولن أعيد الشرح. إن الذي يحدث في العراق هي ديمقراطية توزيع quot;الاستبدادquot; وللأسف فإن الاستبداد والطغبان الذي يحدث في العراق يصاغ برؤى دينية بحتة طائفية بحتة وكل النزاع السياسي له أبعاده الذاتية النزقة والتي تجد في الدين ملاذاً.


العراق كان قِدراً يبقبق بصمت وهدوء بداخله الملايين من المشردين الذين يتزاحمون داخل القدر، أمريكا تهوّرت قليلاً حينما فتحت القدر لأنها رأت ثقافة كاملة أطبق على نفَسها على مدى ثلاثة عقود! خرج المارد من قمقمه وبدأ يضرب بلا وعي في كل اتجاه. لم تفاجأ الولايات المتحدة بالهجوم الحربي الشرس ضدها بقدر ما فوجئت بـجحيم quot;الثقافةquot; وهو ما كتُبته في مقالة بعنوان quot;ليست نكتة إيران قد تسعف أمريكاquot; ذلك أن إيران تفوق أمريكا في quot;فهمها لطبيعة الثقافة العراقيةquot; وهو العنصر الذي لم تلتفت له أمريكا، باستثناء هنري كسينجر الذي نصح بوش بدراسة quot;تجربة الجزائرquot; وهي إيماءة منه إلى ضرورة دراسة تاريخ وثقافة العراق. لقد نجح الغزو في تحويل العراق إلى مجرد quot;شركة قابضةquot; يسرح ويمرح فيها بعض المقاولين. أما بالنسبة للإعلام العراقي ومدى تأثره بما يحدث فهو يعكس كل تلك الضوضاء ويجسد الاختلاف والنزاع بامتياز.

فهد الشقيران
كاتب سعودي

[email protected]