أكثر ما ينغص المزاج أن يظن البعض أنك حينما تبتسم في وجهه فأنك تشترك معه في كل أفكاره، لذا لا تفرح كثيراً بالابتسامة لأنه سيسحبها من وجهه ويضعها في جيبه بمجرد أن تختلف معه، أما حينما تثني على نتاج له له فيبصم بأصابعة العشرة وأصابع من حوله بأنك أصبحت تلميذاً نجيباً له، بينما أنا مجرد مواطن سعودي عادي يشتري كيس خبزه بعد صلاة العشاء ثم يخلد إلى النوم بعد مشاهدة أخبار التاسعة مباشرةً؛ لا أهتمّ لأي ثرثرة خارج الهم الذي أتنفسه، حدودي النضالية تبدأ وتنتهي بـquot;ذاتيquot;! اشترك مع الكثيرين في القراءة والكتابة، لكنني لست تلميذاً لأحد ولا أطمح لأن أكون جيفارا أو غاندي، ببساطة أحرص على أن أكون أحد المواطنين الصالحين.


يسألني أحد أصدقائي -الذين يعشقون الفستق والحديث عن القضايا العربية- لماذا تفضل الجلوس مع مسنّ يكبرك بعقود في دكان خضار على ندوة ثقافية أو حضور فعالية لمؤسسة فكرية، هذا السؤال يجلب الملل مثل أن تُسأل عن سبب تفضيلك للرياضة على حكّ الأذن؟
أجبته بأنني لست طالب أفكار، أنا أبحث عن quot;التوهج الإنسانيquot; حينما أقابل صديقي المسن في دكانه أشعر بأنني أمام إنسان ولست أمام كتاب مزيّف، لأنني أمتلك الكثير من الكتب في البيت، ومن جهة أخرى فإنني أحرص على الخروج عن قراءة التلاميذ. في وجه هذا المسنّ تقرأ تاريخ مجتمع بأسره، بينما في ندوة ثقافية تقرأ نضال الأصباغ ودهونات العود يصرخ بعضهم من أول الأمسية حتى آخرها عن الإخلاص وخطر الارتزاق ثم يركب سيارته الفارهة ويمضي بعد أن يضع مشلحه على المرتبة المجاورة ويعطس بضع عطسات، أما حين يختلف مثقف ومثقف تقوم القيامة وأذكر أن الأيادي كادت أن تتشابك في ندوة ثقافية في نقاش حول quot;بوشquot; بين مؤيد ومعارض، وانهارت صحة أحدهم! وقلت في نفسي: لو شاهد نشرة أخبار المساء لكان خيراً له.


قلت لصديقي وهو ينصت لي: لقد عملتُ صحافياً بضع سنوات، وحضرت الندوات، وسافرت مرات كثيرة من أجل بعض الفعاليات؛ ولكن لن تشعر بالسكينة على طول تلك الساعات من لحظة تتناول فيها كوب شاي من يد صاحب الدكان المشار إليه، فهو باستطاعته سرد فوائد الزنجبيل الأخضر بهدوء، وبين فائدة وفائدة تجد قصة هنا أو قصة هناك، ثم يبدأ يسرد عليك تاريخ تضميد التمر، وسواها من السواليف التي لا تهم أي أحد. تشعر بعدها أنك جلست مع كائن بشري وليس مع شمبازي قرأ بضعة حروف وحضر بضعة فعاليات وناضل بضعة أيام، ياصديقي: بإمكانك أن لا تذهب إلى الدكان نفسه ولكن اذهب إلى البيت واقرأ بعقلية خلفيتها فنية وصوفية لا إصلاحية أو نضالية أو تصحيحية. باستطاعة أي كائن يمتلك بعض الأنياب أن يصبح قارض كتب لكن لن يستطيع أن يصبح قارئاً للحياة بسهولة، نحتاج إلى كتابة ما نقتنع به بعد طول خضّ وتفويح نمارسه مع الأفكار داخل العقل، أفضل من أن نصبح مجرد آلات تقرأ من الكتب بأصوات عالية، وهذه هي الظاهرة الثقافية التي تنتشر منذ الستينيات وإلى اليوم.


المشكلة أن في كل وجه مواطن عربي quot;حبة خالquot; اسمها إسرائيل، لم ننظف وجوهنا من القضايا الخاسرة حتى الآن، بينما يظن البعض أنك تنافسه، أو تريد اللحاق بركبه الهزيل أنت تمضي في طريق أخرى، هنا القراءة للحياة، أن نصبح في واد مليء بالزهور والنبض، بدل الغرق بأشواك من التأملات الهابطة عن القضايا العربية، تحتاج إلى أن تتأمل ببطء أن تكتب آلامك بهدوء أن ترصد أفكارك على هيئة شعر، أن تتنفس بهدوء وانتظام وأن تقرا بشكل صحي وأن تحيا بنظام متماسك واعتدال وأن تصبح quot;الذاتquot; هي مركز التفكير وأن نشدّ طوق فكرنا بتصحيح ذواتنا، حينما نكنس قلوبنا من الكره الذي يملأ الأجواء التي تسمى ثقافية أو حينما نكفّ عن التسول للوسائل الإعلامية من أجل أن نصبح quot;خبراءquot; وحينما نكفّ عن بيع أفكارنا في مزاد الصحافة لمجرد الوصول إلى مكان نظن أنه مرتفع، حينها نعرف أن الذات هي بيت الداء والدواء معاً. صاحب الدكان لا يعرف عن العالم سوى فلسطين وإسرائيل ولكنه يتحدث كثيراً عن مواطئ قدمه، يعرف كل شبر في الرياض، يتحدث عن الحب والأرض، يتحدث عن quot;السنابلquot; بشاعرية تفوق شاعريتكم وأنتم تتحدثون عن quot;الديمقراطيةquot;، تتحدثون عن الظلم وبعضكم يشي ببعض من أجل منافسة طفولية على زاوية في جريدة أو على منصب في مؤسسة ثم بعد أن ينتهي العراك وتنفضوا ثيابكم وتصلون إلى مبتغياتكم تأتون إلى المبتدئين في الثقافة وتحاضرون عن quot;خطر الارتزاقquot;. سأحافظ على زيارة دكان صاحبي صباح كل خميس بدل الإنصات لكلامكم المكرر والمستهلك والممل. اعذروني فأوراق دعواتكم أهديتها لصحابي ليلفّ بها quot;البقدونسquot; و quot;الجرجيرquot; ليس لدي الوقت الكافي لمتابعتكم أنام في تمام التاسعة بتوقيت مكة، وكل ندوة ثقافية وكل فعالية فكرية وأنتم ودهوناتكم ومشالحكم و quot;محاضرتكم عن الارتظاقquot; بألف خير.

فهد الشقيران
كاتب سعودي.
[email protected]