كان إقليم كردستان العراق حتى وقت قريب مساحة مهملة ولم تكن مدنه سوى تجمعات سكانية تمارس حياة راكدة لاتعرف التطور. غير أن التقدم غير المسبوق في ميادين البناء والعمران والتجارة، بعد التحرر من قبضة حكومة صدام حسين، بات يمنح إربيل والسليمانية ودهوك وزاخو طابع مدن عصرية تنهض لتلحق بالحداثة وتتخلص من الإرث الريفي الثقيل. البنايات العالية التي تبزغ كل يوم لتشق طريقها إلى الأعلى وسط البيوت الطينية المتداعية تشير إلى المستقبل الذي ينتظر المدن الكردية.


ليس في الإقليم ما يوحي بأنه جزء من العراق. هذا مكان خاص له ملامحه الخاصة. الجداريات والنصب والتماثيل القديمة التي كانت تجسد حضور الحكومة المركزية بطابعها العربي غابت وحلت محلها الرموز والإشارات الكردية. في كل مكان يرفرف العلم الكردي الذي تتوسطه شمس مشرقة.


لايخفي الناس رغبتهم في الانفصال عن العراق وبناء دولة كردية مستقلة. ويكتسب هذا الميل قوة جارفة لدى الجيل الشاب الذي كبر وترعرع في غياب سلطة بغداد المركزية ولايعرف أغلبهم التحدث باللغة العربية.


ويتقاطع هذا الميل مع موقف القيادات الكردية من جهة التأكيد على حق الأكراد المبدئي في التمتع بحق تقرير المصير أسوة بالشعوب الأخرى. غير أن الزعماء الأكراد يحاولون لجم الاندفاع الشعبي في اتجاه الانفصال بالقول أن الظروف الدولية والاقليمية لاتساعد الأكراد على تبني خيار الاستقلال وأن الحكمة تتطلب التعايش مع العراقيين تحت سقف دولة فيدرالية واحدة تتيح للأكراد الحفاظ على هويتهم وثقافتهم وإدارة إقليمهم بأنفسهم بالارتباط مع الحكومة المركزية.


وتبذل القيادة الكردية الجهود من أجل النأي بالأكراد عن المواقف المتطرفة ونبذ الاتجاهات الراديكالية ومحاولة زرع ثقافة قوامها التعايش والتآلف بعيداً عن التعصب القومي أو الطائفي. وقد نجح هذا المسعى إلى حد بعيد. والحال أن مناخ الاعتدال الذي كرسه السلوك السياسي للقادة الكرد و إصرار رئيس الإقليم على تجاوز مآسي الماضي وعدم أخذ العرب كلهم بجريرة النظام البعثي قد هيأ الفرصة لتلاقي العرب والأكراد على القواسم المشتركة الرامية إلى بناء الدولة الفيدرالية الواحدة بعيداً عن التقسيم. ويجد معظم العراقيين في السلوك السياسي الكردي مايشجع على تقوية أواصر اللحمة الوطنية بحيث يبدو الموقف الكردي عنصر توازن في معادلة تكوينات الشعب العراقي. وإذ يحرص القادة الأكراد على الانفتاح على الأطراف السياسية العراقية كافة من دون إقصاء أحد فإنهم يؤكدون في الوقت نفسه على التشبث بما يعتبرونه مطالب أساسية في برنامجهم السياسي لا يمكن لهم التفريط بها. وتقوم كركوك في رأس هذه المطالب إذ يطالب الأكراد بإرجاعها إلى إقليم كردستان ويتهمون الأطراف السياسية الأخرى بالتملص من تنفيذ الالتزامات التي كان تم الاتفاق عليها في هذا الشأن.


غير أن ثمة إصراراً كردياً على الركون إلى الحوار لحل هذه الأمور بعيداً عن التهويل والتشنج.إذ لايمكن الوصول إلى أية غاية من دون ضمان موافقة الجميع واقتناعهم وتفاهمهم. دون ذلك سوف تستمر المشكلة قائمة حتى ولو بدا على السطح أن الأشياء هادئة.
لايبالي رئيس حكومة الإقليم نيجيرفان البرزاني بالمناكفات السياسية بل هو يكرس وقته لترسيخ البنية التحتية للإقليم والنهوض به إقتصادياً وعمرانياً واجتماعياً والقفز بالناس من حال الفقر والتخلف إلى التطور والرخاء. وهو يرى أن الحديث عن استقلال كردستان لامعنى له ما لم يتم تجاوز الفجوة الهائلة التي تفصله عن العالم من جهة التنمية والعصرنة والحداثة والتقدم المعرفي والتكنولوجي. والسبيل إلى كل هذا يكمن في إطلاق سيرورة إنمائية من خلال الاقتصاد الحر وتشجيع الاستثمار وجذب الرساميل. ويمكن للموارد الزراعية والنفطية التي تتوفر في الإقليم أن تشكل عامل الدفع الاساسي في هذا الميدان، فكردستان تنتج أكثر من 50% من القمح و40% من الشعير و30% من القمح و50% من الفواكه نسبة إلى عموم العراق. وتشكل كردستان خزاناً للمياه السطحية والجوفية كما أنها عامرة بالغابات. وتبعاً لتقديرات الخبراء النفطيين فإن إقليم كردستان يحوي أكثر من 54 مليار برميل من الاحتياط النفطي الأمر الذي يجعله سادس أكبر احتياط نفطي في العالم. وقد جرى البدء بأولى عمليات التنقيب عن النفط في الإقليم على يد شركة نروجية. وبالرغم من عمليات تفجير الأنابيب والمعدات النفطية في عموم العراق فقد أعربت شركات عالمية عن رغبتها في التنقيب عن النفط في إقليم كردستان. وقد عملت حكومة الإقليم منذ البداية على إيلاء الاهتمام بإعادة بناء القرى التي كان النظام السابق دمرها كما جرى إنشاء شبكات من الطرق والجسور الحديثة. وتكفلت شركة بريطانية بإجراء مسح وتخطيط شاملين لمدينة أربيل كما قدم البنك الدرلي منحة مالية كبيرة لمشروع إعمار حي بادوفا الذي يحوي 24 ألف منزل في المدينة. وأطلقت حملة واسعة لتنظيف المدن وإصلاح نظام الصرف الصحي وبناء شبكات المياه وتنظيم الشوارع وإشارات المرور وحفر الأنفاق لحل أزمة المرور وبناء الحدائق العامة وساحات لعب الأطفال والملاعب.


وتتسابق الشركات العالمية لكسب العقود في ميادين البناء والتصنيع والتجارة. ويوجد في الإقليم الآن 84 شركة تركية و30 شركة إيرانية فضلاَ عن شركات صينية وماليزية ولبنانية وإماراتية وأميركية وأوربية وأسترالية. وقد انتقل أكثر من مائة شركة عراقية إلى كردستان. ويتوافد إلى الإقليم في كل يوم الكثير من الأيدي العاملة من جنوب ووسط العراق للعمل حيث تتوفر فرص العمل بكثرة. ويشجع على ذلك توفر الأمن وعامل الربح. وفي الوقت الذي يتعرض فيه المواطنون الأكراد للقتل على الهوية في أماكن مختلفة من العراق فأن العرب القادمون إلى الإقليم يلقون معاملة جيدة ويتم الاحتفاء بهم من الجميع.


وسط الفوضى والإرهاب والقتل والدم المسفوح في العراق ينهض إقليم كردستان لينفض غبار سنين طويلة من الإهمال والظلم واللامبالاة تاركاً وراءه الماضي الكئيب ليمضي نحو مستقبل يرغب قادته أن يكون حافلاً بالأمان والرخاء والهناء. هذه أمنية رئيس وزراء الإقليم، الشاب الطافح بالحياة: quot; نريد أن نهيأ لشعبنا المستقبل الذي يستحقه ويريدهquot;.


بالرغم من إصرار القادة الكرد على البقاء ضمن عراق فيدرالي موحد إلا أن إقليم كردستان يسير على إيقاع خاص به يؤهله ليكون في مستقبل غير بعيد كياناً راسخاً مزدهراً لاينقصه شيء ليكون دولة مستقلة. وحين تتبدل موازين القوى وتتغير المعادلات الإقليمية والدولية لصالح قيام دولة كردية فإن السيد نيجيرفان البرزاني لن يحتاج إلى أكثر من الوقوف في البرلمان الكردي لإعلان ذلك. فهو شرع منذ الآن في تعزيز كل المقومات التحتية لدولة المستقبل التي لا يشك أي من السكان الأكراد في أنها قادمة عاجلاً أم آجلاً.

نزار آغري