ان مشاهد الموت اليومية والفساد والجريمة التي ما زالت قائمة، اصبحت عادية حالها حال اي تعامل او نشاط بين العراقيين، وليس المقصود هنا اظهار شعب العراق على انه شعب همجي يعشق العنف فالجميع يعلم ان العراقيون هم اصحاب اعظم حضارة عرفتها البشرية وان ارضه احتضنت مختلف العقائد الدينية والقومية، لكن المؤسف ان هذا الشعب لم يحظى بقيادة اولت له اهتماما بحقوقه الإنسانية في حرية الرأي الى حرية المعتقد لا بل لم تحظى ارضه بحكاما حافظوا على سيادته، فمنذ تأسيس الجمهورية العراقية عام 1921 حتى يومنا فان غالبية من قاد الحكم سواء كانوا رؤوساء او مسؤولون فقد نالهم الموت بابشع صوره، فالملك المرحوم فيصل قتل ونوري السعيد قتل وسحل مع حاشيتهم ورجالهم، وعبدالكريم قاسم اعدم رميا بالرصاص مع رجاله، ثم عبد السلام عارف انتهى امره قتلا باسقاط طائرته وقتل غالبية رجاله، وآخرهم صدام حسين فقد شنق حتى الموت واكثرية رجاله قتلوا والباقي بالإنتظار، ولا اعلم كيف سيكون مصير رجال الحكم الحاليون، لأن في العراق اليوم ثقافة الثأر والحقد هي السائدة وقد ازدادت وانتشرت بين العراقيين جراء تغذيتها من قبل بعض الأطراف الدينية والقومية المتطرفة والعنصرية، ولكي يُنقذ العراق وشعبه من هذه الآفة ومن
نتائجها علينا بقادة وطنيون مؤمنون يضعون امام اعينهم مصلحة العراق وشعبه اولا واخيرا.


اعود لموضوعي..يتواجد على ارض العراق اليوم قوات اجنبية لدولة عظمى، تسيطر وتتحكم بالأمور العسكرية والإقتصادية من خلال مستشاريها الموزعين على كل مؤسسات الدولة، وبهذا الوصف فانها تعتبر هي صاحبة السيادة وبامتياز، وان الحكومة الحالية ومهما ادعت فانها لا تعدو سوى مجموعة موظفين يعملون لحسابها، واذا ما افترضنا ان الحكومة الحالية وكما تدعي انها منتخبة وصاحبة السيادة، فمعنى ذلك انها { متقاعسة ونايمة ورجليها بالشمس }...لأنها لو كانت كذلك لما تجرأ مستشاري المحتل الأمريكي ليفضح ويكشف ما يحدث في العراق من جرائم القتل والتهجير والفساد ونهب للمال العام في المجتمع وفي مؤسسات الدولة دون علمها!، ولكن ومن زاوية اخرى فان القيادة الأمريكية نراها تغض النظر عن البعض من التكتلات في الحكومة العراقية حين يعلنون جهارا وعبر الفضائيات ولائهم لإيران تلك الدولة التي تعتبرها اميركا راعية للارهاب وانها تتدخل في الشأن العراقي وتعيق بناء الديمقراطية فيه اضافة فانها بذلك تهدد امن المنطقة، اليس هذا خرقا للمصداقية الأمريكية ويعيق نجاح اتفاقية التعاون العراقي الأمريكي المزمع توقيعها...!


ثم اليس من يقيم المشاريع ويعقد الصفقات والمعاهدات ان يهيأ المجتمع ثقافيا وسياسيا واجتماعيا لكي يساند ويساهم مع القائمين على انشاءها لإنجاحها، هل ثقافة الطائفية والغاء الآخر هي التي ستبني العراق، ان غالبية المتابعين للشأن العراقي يقرون بانهناك انتشار واسع وتزايد لظواهر اجتماعية خطيرة لم يكن يعرفها المجتمع العراقي من قبل وبهذا الشكل الواسع، ومنها المخدرات والدعارة والاختطاف والسطو والسلب والفوضى ونهب المال العام، وانتشار مظاهر التدين الإستفزازي الغير مبرر والذي يشاهد وهو يمارس يوميا في مؤسسات الدولة وفي المناطق السكنية، مستندين في ذلك الى افرازات المحاصصة الطائفية البغيضة، والذي يؤكد ما ذهبنا اليه هو جرائم القتل على الهوية وتهجير الآمنين من مساكنهم، ان القلق الذي تعيشه العوائل العراقية من مختلف الأديان يوميا يدل على ان استمرارها ستؤثر على العلاقة بين المجتمع والحكومة حيث ستكون مناخا لإنتعاش الفتن والكراهية فتزيد من تفتت المجتمع بكل اطيافه بل وترهبه ليترك داره ثم وطنه!، ترى هل هذه هي السياسة المطلوبة لتحقيق الديمقراطية وبناء علاقات واتفاقيات تعاون اقتصادي وأمني بين الدول، أم ان هناك اسرارا خفية لا يعلمها العراقيون، ان السؤال المهم.. لماذا تدعم اميركا قوى دكتاتورية او دينية متطرفة وتقدم لها كل المساعدة لتوصلها الى دفة الحكم كما حدث في العراق وفي دول اخرى، ثم تأتي بعد ذلك لتزيحها بحجة دفاعها عن الديمقراطية...كيف يراد لنا ان نصدق ان الديمقراطية تتوافق مع الدكتاتورية والطائفية، الا يعني ان الداعين لإقامتها او من تحالف معهم انهم كذابون ومنافقون، اليس من يمنحون الفرصة للدجالين والمشعوذين والمصلحيين للظهور والسيطرة على البشر المحب للحياة والديمقراطية هم منافقون، هل ان عقد الأتفاقيات كالتي طرحتها اميركا المحتلة مع العراق وفي هذه الأيام والعراق يعاني من ضعف حكومي وفوضى هي الطريق السيليم لبناء عراق جديد وهي الحاجة الماسة والملحة اليوم، ام ان الأهم كان يجب على القيادة الأمريكية ان تعيد النظر بنظام الحكم المبني على اساس المحاصصة الطائفية والذي ساعد على انتشار المفاسد التي مزقت العراقيين وهدمت دولتهم العريقة.


لقد تبين ان امريكا والتي ادعت انها حررت العراق قد تبنت وجهة النظر الطائفية، وسعت الى تنمية مفهوم المظلومية حيث وظفت المفهوم الطائفي بناء على رؤية خاصة جعلت منه قضية تسعى من خلالها تمزيق شعوب المنطقة باكملها، وهذا ما ظهر جليا من خلال نمطية بعض الشخصيات والأحزاب التي عينتها بديلا لحكومة صدام، حيث سعت في زعزعة الإستقرار المنطقة اضافة لتمزيق النسيج الإجتماعي للعراق فسخرت لذلك كل اصدقاءها ووسائلها الإعلامية حيث استخدمت قضيتين اولهما قضية الشيعة واعتبرتها المحور الأول فجندت له بعض من رجال الدين الى جانب أكبر مؤسساتها ومراكز بحوثها الإستخباراتية وثانيهما قضية مظلومية الأكراد، فبالرغم من معرفة القادة الكرد ان اميركا لم تقف معهم لسواد عيونهم لكنها اي {القيادة الكردية} استطاعت ان تستغل الفرصة لتحصل على ما تريد من خلال نفس المفهوم وهذا هو السر الذي يميزها عن السياسيين من العرب العراقيين، ان استخدام اميركا الورقتين اعلاه قد ساعدها الى حد ما في تهيأت البعض من الشعب العراقي نفسيا لقبول وتأييد التغيير الذي حصل في العراق حين احتضنت مجموعات المعارضة العراقية الشيعية والكردية وبعض من المكونات الدينية والقومية الصغيرة الأخرى حيث كانوا قد أتخذوا من لندن والبيت الأبيض مقرا لهم باعتبارهما سياجا حاميا لهم لا بل وذراعا اعلاميا ايضا مما سهل لأميركا نجاح مخططها.


ومهما يكن فلقد نجحت اميركا في التفتيت الطائفي والقومي للشعب العراقي، وهو امر لم ينتبه له بعض من قادة المعارضة الممثلة { لمكونات دينية وقومية ومنهم القادة المسيحيين من الكلدان والسريان والأشوريون } وقد شكل ذلك خطرا على الوحدة الوطنية التي ينادي بها ابناء هذه الأقليات ويعتبرونها ضمانا لحماية وجودهم، وايضا فقد ساعد هذا التفتيت ايضا على انتشار اخلاقيات وسلوكيات التصادم بين المذاهب او القوميات، ودون شك فان ضحية هذا التفتيت هم ابناء الأقليات وقد ظهر ذلك مؤخرا وعبر بعض الكتابات في المواقع الألكترونية والمقابلات التلفزيونية، حيث وعلى سبيل المثال التلاسن والتصادم والتناقض الذي قرأناه بين بعض المثقفين من الكتاب والأدباء السريان والكلدان والأشوريين الى جانب صور التشتت وعدم وحدة الرؤى بين قادة بعض احزابهم وحتى مع بعض الروحانيين ورجال الدين.


ان القوى العراقية من المسلمين والمسيحيين الى جانب اليزيديين والصابئة والشبك وبكل طوائفهم وقومياتهم والتي تتبنى منهجاً وطنياً او علمانياً او قومياً معتدلا في العراق قد اصيبت بخيبة امل بعد الحرب التي قادتها اميركا على العراق لإسقاط نظام صدام الدكتاتوري، لأن اميركا صاحبة مشروع تحرير العراق وبناء الديمقراطية قد سلمت ادارة دولة العراق الى جهات صبغتها اما دينية طائفية او قومية عنصرية وهذه الجهات ادت الى خلق جو من الكراهية والعداء بين العراقيين من خلال تصرفاتها، ولكي نكون صادقين مع شعبنا فمن واجبنا ان ننبه من ان هذا المنهج خطر كبير يجب التصدي له، والبديل الناجح هو قيام حكومة وطنية شفافة ونزيهة، عندها فقط تستطيع هذه الحكومة الوطنية ان تثق بشعبها حين تطالبه لتأييد مشروع ما تنوي القيام به.

اما بخصوص القيادة الكردية وبعد الحرب مباشرة فانها تنبهت الى خطر تسييس الدين على مسيرتها النضالية، كما انها وفي نفس الوقت رفضت التوجه الطائفي المذهبي وهذا ما جعلها تحتل موقعا متقدما ضمن صفوف القيادات المحترمة في العالم، ان الحرب التي قامت في العراق وكما اثبتته الأيام لم تحقق الخير لشعب العراق بعربه وكرده ومكوناته الأخرى، انما على العكس فقد ادت الى تقسيمه الى طوائف وقوميات ومذاهب متصارعة كما هو معلوم، ولذلك فاني اعتقد ان سياسة القيادة الكردية باتزانها استطاعت كسب ود بعضا من المسيحيين من الكلدان والأشوريين والسريان والصابئة واليزيديين وخاصة الذين يتواجدون على ارض كردستان اليوم، حيث عملت مع بعض من قياداتهم لتوفير الأمان والمستلزمات الأخرى كالتعليم والصحة والسكن بكل يسر، ان القيادة الكردية وكما يبدو باتت تنظر للفكر الطائفي المتحزب او القومي المتعصب نظرة دونية حيث يشكل ذلك تهديدا للشعب الكردي قبل ان يكون خطرا على الأقليات العراقية الأخرى.


ان المشروع الديمقراطي الأمريكي الوهمي في المنطقة العربية والذي بدأته في العراق بعد غزوه كطريق للقضاء على الإرهاب والدكتاتورية ونشر الديمقراطية كما ادعت، فانه لن يكتب له النجاح الا اذا تخلت عن دعمها للقوى التي تتبنى منهجا دينيا متطرفا او فكرا قوميا متعصبا، ان شعوب هذه المنطقة التواقة للحرية والتعايش كانت وما زالت تعتبر ان الاحزاب الدينية او المرجعيات او المشايخ من حاملي التوجهات الطائفية او المذهبية او العنصرية يشكلان حجر عثرة امام تقدمهم وتطورهم، ولا يخفى على احد ان غالبية هذه القوى المتطرفة قد اسست ودعمت من قبل القيادة الأمريكية، وانها اوراق رابحة تستخدمها اميركا متى ما شاءت وفي اي مكان وزمان، ولذلك فانا غير متفائل من ان اميركا ستتخلى عن احتضانها لها على الأقل في الزمن المنظور، ولذلك فان استمرار الحال كما هو الأن سيزيد من اسباب إنعدام الثقة بالديمقراطية نفسها وبالمشروع الأمريكي في المنطقة، كما قد يجلب لاحقا كارثة مدمرة على { الأقليات الدينية والقومية الصغيرة في العراق ومن ضمنها الكلدان والسريان والأشوريين } وهذا ما يجب التحسب له.
في الختام فان العراق الان في وضع مأساوي ضعيف وهو بحاجة الى حكومةوطنية كفوءة صادقة ومخلصة تتشكلعلى اساس الإخلاص للوطن يمثلها رجالمتعلمون ومثقفونيستطيعون ان ينهضوا بالعراق بعيدا عن المحاصصات الطائفية او المذهبية، نحن بحاجةالى قيادات ادارية نزيهةغير التي على شاكلة اليوم، نريدها قيادة تعتمد مبدا الكفاءة والمواطنة، كفانا لطما وعنف ودماء، كفانا طائفية وعنصرية، نحتاج الى المصالحة معذاتنا المهدمة والحائرة ما بين الإنتساب للمذهب ام للوطن، نحن بحاجة الى من يجمع شمل الأقوام من الشمال الى الجنوب مسلمين ومسيحيين وغيرهم...فهل للقيادة الأمريكية المحتلة مصلحة في ان يصبح العراق دولة ديمقراطية شفافة،تعقد المعاهدات الخيرة مع جيرانها ومع دول العالم وتبني الديمقراطية وتصون السيادة وتحقق احلام الأقوام العراقية المتنوعة للتمتع بحقوقها الانسانية، ام انها في وادي آخر.. وما نسمعه منها مجرد اوهام....!

ادورد ميرزا
استاذ جامعي مستقل