الترجمة، من الإنجليزيّة، والتّقديم: تحسين الخطيب: كانت quot;غابرييلاّ ميسترال Gabriela Mistralquot; أوّل شاعرة أميركيّة لاتينيّة تفوز بجائزة نوبل في الأدب العام 1945. بدأت كتابة الشّعر أثناء عملها كمعلّمة في مدرسة القرية وبعدعلاقة حبّ جارفة مع quot;رُومِيليُو أُوريتَاquot;، موظّف شركة سكّة الحديد الذي انتحر، في العام 1909، بإطلاق الرّصاص على نفسه، بعد إدانته بالإختلاس، لتعيشَ، من بعده، حياة حزينة، متوحّدة، تّواقةً لأمومة ستحرم منها طيلةَ حياتها. عملتْ خلال الحرب العالميّة الثّانية قنصلاً فخريّاً لبلادها في البرازيل، فتقيم عُرى صداقة وثيقة مع الكاتب النّمساوي quot;شتيفان زفايغquot; وزوجته، غير أنّ مأساة انتحارهما معاً في quot;ريو دي جينيروquot; سنة 1942 قد بلغت من نفسها مبلغاً عظيماً أثّرَ على صحتها لاحقاً، ثمّ تكتمل فصول المأساة عنفاً بإقدام أبن أخيها quot;خوان ميغيلquot; على قتل نفسه. لم تتزوّج quot;ميسترالquot; أبداً، لكنّها تبنّتْ طفلاً سرعان ما يفارق الحياة أيضاً. وكأنّ كلّ شيء يقتربُ من هذه المرأة لا بُدّ أن يموت لتظلّ قصائدها طافحة بموت لا يُغيّب أشياءها بقدر ما يعيدها إلى الحياة ثانيةً! نُشرتْ قصائدها الأولى، في الصّحافة، العام 1905. ثمّ ظهرت في العام 1914 quot;سونيتاتُ الموت Sonetos de la muertequot;؛ مجموعة قصائد حبّ في ذكرى الموتى نالتْ جائزة الشّعر في تشيلي فعمّ صيتُ quot;مسترالquot; أنحاء أميركا اللاتينيّة. غير أنّ كتابها الثّاني quot;يأس Desolacionquot; (1922)، القائم على ثيمتيّ الإيمان المسيحيّ والموت، قد قطف لها اعترافاً عالميّاً بها كواحدة من أبرز شعراء ذلك العصر. ظهرت مجموعتها الثّالثة quot;رِقّة Ternuraquot; (1924)؛ كتابٌ هيمنت عليه ثيمة الطّفولة، ثمّ تنشرُ، سنة 1938، quot;تالا Talaquot; التي مازجتْ في قصائدها الميتافيزيقيّة بين الطّفولة وحنين مُضمَر إلى أمومة محرّمة حيث quot;الحياةُ حجٌّ غامضٌ يُفضِي ]الآن، وفيما مضى[ إلى الموتquot;. وُلدتْ quot;لُوثيلا جُوْدُوْي آلْكَايَاغَا Lucila Godoy Alcayagaquot; بِـ quot;بيكونَا Vicunaquot;، في تشيلي، سنة 1889، لأبوين من أصول هنديّة وباسْكِيّة. استلهمت اسمها الأدبيّ (غابرييلا ميتسرال) من اسميّ اثنين من أحبّ الشعراء إليها: الشاعر الايطاليّ quot;غابرييلّي دانّونْتْسِيو Gabriele D'Annunzioquot; (1863-1938)، والشّاعر الفرنسيّ، الحائز على جائزة نويل في الأدب للعام 1904، فريدريك ميسترال Frederic Mistral (1830-1914). كان لها بالغ الأثر على quot;بابلو نيروداquot; الذي قابلته حين درّستْ في quot;تيموكوquot; وهو لم يجاوز ألـ 16 بعد. ماتت بالسّرطان في العاشر من يناير سنة 1957، في quot;لونغْ آيلاندquot; قرب quot;نيو يوركquot;. ثمّ نُقل جثمانها بطائرة أميركيّة رسميّة إلى quot;ليماquot; في quot;البيروquot; لتنقل من هناك في شاحنة عسكريّة تشيليّة إلى موطنها، حيث احتشد في شوارع quot;سانتياغوquot; أكثر من نصف مليون مواطن ليرافقوا جثمان شاعرة وصفتها الأكاديميّة السويديّة بِـ quot;الملكة الرّوحية لأميركا اللاتينيّةquot; إلى مثواه الأخير في مرتع طفولتها، في القرية الجبليّة quot;مونتي غرانديquot;، حيث أوصتْ بأن تدفن هناك كي لا تنسى البلاد الأطفال الفقراء لهذه القرية الفقيرة المنعزلة. نُشرتْ أعمالها الشّعرية الكاملة العام 1958. قام المخرج يوري لابارثا Yuri Labarcaquot;، سنة 2001، يتصوير فيلم عن الرّغائب الجنسيّة لميسترال بعنوان quot;المسافر La Pasajeraquot;. فيلم شهد جدالاً حادّاً وعنيفاً، كتبه quot;فرانشيسكو كازاس Casasquot;، تناول علاقتها الجنسيّة مع quot;دوريس دانا Doris Danaquot;، سكرتيرتها الأميركيّة ومترجمة قصائدها المختارة الصادرة عن مطبعة جامعة quot;جون هوبكنزquot; العام 1971. كانت quot;داناquot; قد تبنّتْ quot;يِنْ يِنْ Yin Yinquot;، ابن ميسترال، حسب بعض المزاعم، والذي أقدم بدوره، لاحقاً، على الانتحار.

في مديح الحجارة


حجارةٌ راكعةٌ، حجارةٌ تَسَّاقطُ في مواكبَ، وتلكَ التي لا ترغبُ في السّقوطِ أبداً، كثيرةَ سأمٍ، مثلَ قلبٍ، تصيرُ.
حجارةٌ تستريحُ على أكتافها كمحاربينَ موتى- مغلقةٌ بصمتٍ نقيٍّ، لا بضماداتٍ، جراحُها.
حجارةٌ تحملُ إيماءَاتٍ متناثرةً كأطفالٍ ضائعينَ: حاجبُ عينٍ على سلسلةِ الجبالِ الوعرةِ، كاحلٌ في مسطبةِ الحجرِ.
حجارةٌ ثقيلةٌ بنومٍ، غنيَّةٌ بأحلامٍ، كَحَبِّ فُلفلٍ يحرسُ روحاً صافيةً. واهناً، نعسانَ، كشجرةٍ حالاتٍ، بوحشيّةٍ يقبضُ الحجرُ على كنزِ الأحلامِ المُطْلَقِ.
حجارةٌ راكعةٌ، حجارةٌ مُتمازِجَةٌ، حجارةٌ تَسَّاقطُ في مواكبَ، وتلكَ التي لا ترغبُ في السّقوطِ أبداً، كثيرةَ سأمٍ، مثلَ قلبٍ، تصيرُ.
منذورةٌ لِعُنِقِ يعقوبَ شاهدةُ القبرِ، كَرَقْمٍ حجرُ الحِدَادِ، بلا خَجَلٍ، وَبلا أيِّ نَدَىً، كَرَقْمٍ، ليسَ إِلاَّ.
ليسَ غير جفنٍ عظيمٍ هُوَ الحجرُ الدّائريُّ، كطاعنٍ في العُمْرِ. القمّةُ المعقوفةُ لجبالِ الأَنْدِيزَ الغامضةِ- تلكَ الشّعلةُ التي لا ترقصُ- تَلَعْثَمَتْ، فجأةً، كَسَارَةَ زوجةِ لُوْطٍ. لَمْ تَشَإِ الأجابةَ حينَ، طفلةً، سألتُهَا، وَإِلى الآنَ لَمَّا تَزَلْ.
حجارةٌ تُومِضُ بالذّهبِ أوْ بالفضّةِ- التي فجأةً نَخَبَهَا النّحاسُ- أَجْفَلَها الاقتحامُ. حجارةٌ أَغْضَبَها لوزٌ مَعدِنِيٌّ كانَ سهاماً مُرَيَّشَةً لا تُرَى.
حجارةٌ راكعةٌ، حجارةٌ مُتمازِجَةٌ، حجارةٌ تركضُ في فيالِقَ أوْ حُشودٍ، ولا تَصِلُ إلى أيِّ مكانٍ.
حجارةُ نهرٍ عتيقٍ، مِنْ شواطِئَ زَلِقَةٍ، كالغرقَى- تحملُ النَّبَاتَ الذّابِلَ ذَاتَهُ الذي، راسخاً، يلتصِقُ بِشَعر الغَرقَى. غيرَ أنْ ثمّةَ حجارةٌ حَانِيَةٌ؛ تستطيعُ لَمْسَ المَسْلُوخِ جِلْدُدُ، دونَ أنْ تجرحَهُ. بِلِسَانٍ كالّذي لِأُمِّهِ تَمُرُّ على جسدهِ ولا تَتْعَبُ.
حجارةُ نهرٍ فَتِيٍّ الحَصَى المَرْسُومُ كَثِمَارٍ. بَلَى، يقدرُ أنْ يُغنِّيْ! مَرَّةً، وأنا في الخامسةِ، وضعتُهُ تحتَ وسادتي فَأَحْدَثَ ضجيجاً كَجَبلٍ من أطفالٍ صغارٍ يختنقونَ، أَوْ عَلَّهُ على الغناءِ تَنَاوَبَ، هُنَا وَهُنَاكَ، في قلبِ أحلامِيْ. كانَ سَيِّدَ النّهرِ: حَصَىً حَانِيَاً، طاعناً في العُمْرِ، جاءَ إلى مِلاءَاتِي وَلَعِبَ مَعِيْ.
بعضُ الحجارةِ لا ترغبُ أنْ تَصِيرَ شواهدَ قبورٍ أوْ ينابيعَ؛ تجتنبُ أَيَّ لَمْسٍ غريبٍ وترفضُ النَّقْشَ المُقْحَمَ كَيْ تَنبعِثَ إيماءاتُهَا، ذاتَ يومٍ، ولُغَتُهَا الفريدةُ.
حجارةٌ خرساءُ، وُهِبَتْ قلوبُهَا شَغَفَاً قد يَتَفَشَّى. لِئَلاّ تُقْلِقَ هَجْعَةَ لَوزِهَا المُتقلِّبِ تظلُّ ساكنةً: من أجلِ ذلكَ، ليسَ إِلاَّ.

التِّين

مُسَّنِيْ: إِنّها نعومةُ السَّاتَانِ الطّاهرِ؛ حينَ تَفتحُنِيْ، يَا لِوردةِ الفُجَاءَةِ! أَنَسِيْتَ عباءَةَ المَلِكِ السّوداءَ التي تحتها توهَّجَتْ حُمْرَةٌ؟
أُزْهِرُ فِيَّ لأَنْعَمَ بتحديقةٍ جُوّانِيَّةٍ، لِسبعةِ أيّامٍ، بِشِقِّ النَّفْسِ.
ثُمَّ، بِنُبْلٍ، وفي عناقٍ طويلٍ لضحكٍ كُنْغُولِيٍّ مَديدٍ، انفتحَ السّاتانُ.
لمْ يعرفِ الشّعراءُ لونَ اللّيلِ ولا التِّينَ الفلسطينيّ. ما نحنُ سوى الزُّرقةَ الأكثرَ عِتَقَاً؛ الزُّرقةَ المُتَّقِدَةَ التي بِغِنَىً تحشدُ نَفْسها لِتَوَهُّجِهَا.
وَإِذْ أَسكبُ أَزهاريَ المعصورةَ في يَدِكَ أَخلقُ مَرْجَاً قزماً لِبهجتكَ؛ أُمطركَ بِشَذَا المرجِ حتّى يغمرَ قدميكَ.
كلاّ. أتركُ الأزهارَ مَعقودةً: تُثيرُنِيْ؛ فَالوردةُ الهاجعةُ تعرفُ إحساسِيَ هذا.
أنا قلبُ وردةِ شارونَ، مجروحةً.
دَعْ تسبيحِيَ يكتمِلُ: آزَرْتُ الإغريقَ فَمَجّدُونِيَ أَقَلَّ مِن quot;جُوْنُوْquot; التي لمْ تَهَبْهُم شيئاً.