تغيب عنك حين يصير الاحتياج قيدك، تتحول إلى صحراء، الكثير من السراب يستحيل إلى صنارة صيد، تغيب عنك دون إنذار منها، تحجب نفسها غير مبالية بك، أنت بحاجة شديدة إليها، تنتقم منك بطريقة الاهانة؛ لقد فعلت الشيء نفسه حين كنت في متسع الوقت، هل تعي حقا الآن ما معنى راحة الضمير و العقل و القلب؟ تغيب عنك وأنت المحرج بين ميكروفونات الهاجس، أسئلة المعضلة تحضر بقوة مؤكدة ذاتها، على مسارح تفكيرك ترتفع الستائر لتتضح الشخصيات بديكور المأساة، أنت البطل الرئيسي شريد اللغة، تسكن منفاها، ذاك العزل لا يمنحك زادا و لا ماء لتموت على درجات سلم جلاد الاضطراب والقلق، تغيب عنك، تندس معانيها في مغاليق المفاهيم لتحمل نفي نفيها، رامية بالاستحضار في مزبلة اللامبالاة، يحاصرك السؤال وتحتويك مسافات الأفكار تطوقك الحاجة فلا تصل الضفة الأخرى من الجسر؛ آذان تنتظر،عيون كثيرة ترتقب، قلوب مغمورة بالدفء ترتجف في طقس صوفي تترقب الفتح المجيد على صهوة خيل البيان علّها تلّوح بالمناديل المطرّزة لقريب آتي؛ تتلهف لقائد معه الجند حاملين مكان البنادق أوراقا و أكاليل من البلاغة بألوان زاهية وصولجان المعنى بأباريق الجمال وفوانيس الصدق، أعمدة الحكمة و اليراع، بخور مداد المحبرة و مسبحة الزاهد وسجادة الصوفي، مزهرية ومخطوطة تشبه مخطوطة ابن الأدهم. تغيب عنك حين تحتاجها، تختفي في جيوب التشفّي، تمدك بإحساس بارد كسكين يبقر أحشاء رغبتك في الحصول على الصورة ومعناها، لن تأتيك بهما. تتركك تعاني العدم والتخبط في أفضية اللاجدوى و اللاكينونة لتستحيل دلالاتها المستحثة إلى سجن رهيب. حكم قاسي لقد حكمت حكمك القاسي عليها حين كنت في واسع وقتك موفور الصحة لا تذكرها بخير تختار منها كلاما قبيحا فاحشا ذاك الخارج عن نهجها أدبته، ذاك ما تبقى لها من كرامة، حاصرته في حدود نهاية الخدمة. ألم تتخذه حينها أنت واجهتك وفخر حديثك. يغيب عنك صفوها كسماء الربيع، جمالها الخلاب كزرقة البحر و الأمواج المتدفقة في حركة مستمرة الداعية الحاثة على الإقبال، إنها المد والجزر للحياة في استمرارها. يغيب عنك عمقها كالبحر الكامنة فيه سفن القراصنة كما الفاتحين و المستكشفين بكنوز الجزر المختفية، الكنوز النادرة بأسرارها، أقسمت أن تبقى حبيسة الماء، تغيب عنك و أنت المختار شقيقاتها تلك الأخوات المنافقات العاريات حاملات الذل على ألسنة التملق الراكبات العار متبخترات راضيات بحياة الدون. تغيب عنك و قد طلقتها يوم عاشرت القبح ونمت في أحضان لغة الغواني والصالونات، حين قذفت أسيادك العابرين مع التاريخ بحجر الضغينة، اختفيت حينها وراء أعمدة الجبن، تنقصك الشجاعة لتكون رجل المواجهة، مواجهة ذاتك ليبصق عليك وجهك الساكن مرآة الوجوه شبيهتك، ستقول الوجوه الشبيهة: quot;اظهر صورتك ليتبول التاريخ عليك علينا عليهم يوما ما أنّ شاء.quot; تغيب عنك لتعلم أن الكلمة الطيبة الدافئة المزروعة في القلب القاسي ينبتها الله، تأتي أكلها، تنزع من القلب صقيعه. تغيب عنك محوّلة الأيدي الفولاذية إلى أيدي دافئة متصافحة بحرارة الحب؛ تغيب عنك حتى تسأل: ماذا لو رمى الإنسان من يده كل سلاح بارد من حديد وحمل مكانها قلما أو ريشة أو طباشير أو فأرة حاسوب أو ميكروفونا أو يراعا، منقار نحت وترجم بها إحساس ضعف الإنسان وحاجته لأخيه الإنسان ليبقى سر البشر حقيقة شاهدة تأكد كينونته كإنسان فاني ضعيف متعجل يحمل نفيه في ذاته. تغيب عنك حين ترجع إلى ضعفك وتترك غرورك لتتوحد في الصمت وكأنك في عالم قد قيل فيه كل شيء وأختصر مسافات الزمن، تغيب عنك موارية وجهها بوشاح الرؤيا وأنت لا تعلم انك تسير في حدود نهايتك التي وُلِدَتْ مع أول نبض فيك.