فيصل الياسري:غربال ذاكرتي هذه المرة يختلف عن سابقاتها، فقد كنت كل مرة اكتب عن معايشة ذاتية عن قرب لمبدع غادر الدنيا قبل سنوات او اشهر على الاقل، هذه المرة اكتب عن مبدع عرفته عن قرب: الروائي فؤاد التكرلي (1927) وغادر الدنيا قبل ايام قليلة وما زال صوته يرن في اذني وذكرياتي الودودة معه ما زالت متجسدة في مخيلتي، وقبل ساعات فقط من وفاته كانت هند كامل تجلس جوار سريره برفقة زوجته التونسية السيدة حياة!!
وعادت هند الى البيت لتنقل لي تحيات فؤاد التكرلي وتأكيده انه مستعد لتصوير البرنامج التلفزيوني الذي خططنا له، في اقرب وقت، وربما الاسبوع القادم..
لم يعش فؤاد التكرلي حتى الاسبوع القادم.. فقد رن الهاتف في منزلنا صباح يوم الاثنين 11 شباط 2008 وكانت المتحدثة صديقة مشتركة ابلغت هند بان فؤاد قد غادر هذه الدنيا التي لم يمل منها ولم يكرهها ابدا بالرغم من كل الاحباطات وخيبات الامل الكثيرة،!!

فيصل الياسري، فؤاد التكرلي وزوجته

السيدة حياة

اسرعنا هند وانا لنكون بجانب زوجته حياة التي روت لنا كيف كانت ساعاته الاخيرة، وكان حديثها مؤثرا ومتقطعا بسبب الدموع تارة والرد على الهاتف تارة اخرى بينما كان ولده الشاب عبد الرحمن يستقبل بعض الاشخاص الذين سيرتب معهم مراسيم الدفن في مقبرة سحاب في عمان!! كان عبد الرحمن يرغب في نقل جثمان ابيه الى بغداد ليدفن في مقبرة العائلة ولكن ظروف العراق الامنية الحالية تحول حتى دون دفن موتانا في تربة الوطن!!

التقيت فؤاد التكرلي اول مرة عام 1982 وكنت قد قرأت روايته (الرجع البعيد) التي سحرتني بسردها المحكم واحداثها المتشابكة وبنائها المعماري، وبحوارها الصادق والمتنامي باللهجة العراقية الرشيقة وكأنه مكتوب للمسرح او السينما، وعرضت عليه ان نتعاون في تحويلها الى فيلم روائي او مسلسل تلفزيوني، فطلب مني ان نتريث حتى يتفرغ من مهنة القاضي التى امضى فيها 27 عاما (اصبح قاضيا عام 1956).. وفعلا تمت احالته على التقاعد عام 1983
ولسبب ما، لم يتحقق مشروعنا السينمائي ولم التق فؤاد التكرلي الا بعد عشر سنوات عندما زارني في منزلي بحي الجامعة في بغداد في امسية جمعت الكاتب جبرا ابراهيم جبرا والشعراء يوسف الصايغ وعبد الرزاق عبد الواحد وحميد سعيد واخرين..
فاجأني فؤاد التكرلي بنسخة معه من روايته (الرجع البعيد) قدمها لي ليذكرني بمشروعنا القديم بتحويلها الى فيلم، وتحمس الحاضرون للفكرة، وشجعونا كثيرا، وتطوع جبرا لتولي مهمة الدراماتورج (المستشار الدرامي)...
ولم يتحقق المشرو

فؤاد التكرلي مع هند كامل

ع هذه المرة ايضا، فقد دفعت الاحباطات وخيبات الامل، والانزعاج مما اصاب العراقيين جراء خطيئة اقتحام الكويت، دفعت التكرلي الى النزوح الى تونس.. ليعيش ظروفاً نفسية واقتصادية صعبة، اثرت سليبيا على الكتابة والإبداع، فقد كان يجد ndash; حسب قوله- صعوبة وعسرا في عملية الخلق بعيدا عن الوطن!!
ولكن هذا العسر تمخض عن عمل فني عملاق هو رواية (المسرات والأوجاع) عام 1998 التي تناول فيها بجرأة وادراك الوضع السياسي في العراقي... من خلال تجسيد الهم الاجتماعي للمواطن العراقي ndash; وقد اعتبر الناقد صبري حافظ رواية (المسرات والاوجاع) من الروايات العربية النادرة التي نستطيع ان نضعها في مصاف الروايات العالمية الكبرى..ويضيف (.. فالمسرات والاوجاع رواية انسانية كبيرة باي معيار من المعايير وهي في الوقت نفسه رواية عربية خالصة، او بالاحرى رواية عراقية حتى النخاع)
قبل ايام من وفاة فؤاد التكرلي، وفي موجة البرد والصقيع في عمان، اتصل بي المخرج محمد شكري جميل وعرض علي ان نذهب لزيارة فؤاد التكرلي، وعندما عرف انني كنت عنده قبل يومين طلب ان اكرر الزيارة اليوم، وجوابا عن استفساري عن سبب الحاحه للقيام بالزيارة قال انه بحاجة الى ان يشكر التكرلي ويعبر له عن اعجابه بروايته الرائعة (المسرات والاوجاع) فقد قضى معها ايام البرد الاربعة فشعر بدفئ المشاعر الانسانية ومتعة اكتشاف عمل فني كبير..
كانت هند كامل قد سبقت محمد شكري جميل في اطراء الرواية عندما اعادت قرأتها في غمرة التحضير لبرنامج تلفزيوني كان سيجمعها مع فؤاد التكرلي في حوار فكري حول ملامح السرد الروائي عربيا وعالميا، وتاثير وسائل المولتيميديا على الكتاب المقروء ورواج روايات حكايات الفنتازيا التي تجنح الى الخيال والغرابة وتجمع التاريخ بالحاضر والعلم بالخرافة.. وقد تحمس صديقنا فؤاد التكرلي للموضوع واغناه بافكاره وكان من المفروض ان نصور هذه الايام كاول حلقة من برنامج (على ضفاف الفكر).. ولكن كان للموت حسابات اخرى فاقتلع فؤاد التكرلي من بيننا تاركا فراغا في دنيا الرواية العربية لن يعوض بسهولة.

زوجة التكرلي: حياة أم رشيدة؟