مرت الذكرى السابعة والثلاثون لرحيل جمال عبد الناصر المؤسس الفعلي لدولة مصر الحديثة دون ضجيج أو تذكير في العالم العربي، فالرجل في عيون البعض من مناوئيه من الإسلاميين والماركسيين والبعثيين والليبراليين قد جسد مثال الرجل الحديدي والزعيم الملهم الذي احتكر جميع السلطات في شخصه وفرض أسلوبه في الحكم على الجميع واتبع سياسة فردية في التسيير مهيمنة حتى على بقية الضباط الأحرار الذين شاركوه الثورة ونظامه قد مثل نموذجا للنظام الشمولي المغلق الذي جعل المجتمع السياسي يبتلع المجتمع المدني ويستخدم القوة العسكرية لحلحلة المشاكل لداخلية مع معارضيه وسبب كارثة لمصر بدخولها في حرب مع إسرائيل وهزيمة للعرب مازالوا لم يخرجوا من إذلالها إلى الآن،بيد أن نفس الشخصية في عيون جيل الستينات والبعض من الشباب العربي المحبط الآن يمثل منارة ناصعة ومفخرة ينبغي على كل العرب أن يتغنوا بها وتذكروها حتى يخففوا الأوجاع التي يحسون بها اليوم فهو قد خلص المنطقة من الحكم الملكي التوريثي ومن فساد السلاطين والعائلات العابثة بحقوق الناس والتي تضع نفسها فوق كل حسيب أو رقيب وهو كذلك الذي أصلح القضاء وسن القانون الدستوري
وطور نظم التربية وقام الإصلاح الزراعي مداهما الإقطاع في قلاعه الآمنة وركز بنية تحتية تصنيعية وأنجز مشروع السد العالي وقرب إليه الموسوعة الاستراتيجي هيكل كمستشار له واقترن عصره بازدهار الفكر والفن والأدب وأنجبت أم الدنيا كبار الفنانين والكتاب مثل عبد الوهاب وأم كلثوم ونجيب محفوظ وعاطف الطيب ويوسف شاهين والشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم وقد اتفق الجميع أن لستينات من القرن العشرين هي العصر الذهبي الذي عرفه العرب بعد تراجع موجة الاستعمار وبروز الدولة الأمة التي تعتز بخصوصيتها القومية وتحاول أن تلعب دور طليعي إقليمي وتصنع ماهو كوني بالمشاركة مع يوغسلافيا والهند وبعض الدول الأخرى في تأسيس كتلة عدم الانحياز وهي مجموعة تبنت الخيار الثالث إلى جانب الانحياز إلى محور الدول الغربية والحلف الأطلسي أو الانضمام إلى المعسكر الاشتراكي وحلف فرصوفيا وعلى الرغم من العلاقات المتينة التي كانت تربط النظام المصري أيام عبد الناصر بالاتحاد السوفياتي فإن كتلة عدم الانحياز في ذلك الحين قد لعبت دورا بارزا في تخفيف حدة التوتر بين المعسكرين زمن الحرب الباردة.
ما يجدر ملاحظته أن جمال عبد الناصر ملئ المكان الذي كان يشغله على أحسن وجه وشغل الناس وكسب ود الجماهير العربية وثار في وقته على كل البديهيات والمسلمات وجعل الصراع العربي الإسرائيلي قضية العرب الأولى وقد سببه هذا لخيار العديد من العداوات والمشاكل ودفع حياته ثمن ذلك ومن هذا المنطلق كثر عليه الحديث وظل محل خلاف وتضاربت حول مشروعه الآراء وتناقضت التقييمات فهو محسن قام بما ينبغي أن يقوم به زعيم أكبر دولة عربية في نظر مريديه ولكنه في نظر آخرين مسيء ورجل فاشل أدت سياسته إلى احتلال إسرائيل لم تبقى من فلسطين وهضبة الجولان وضياع سيناء وانتكاسة المشروع القومي العربي في زمن صعوده وازدهاره.
إن الحديث عن التجربة الناصرية ليس الغاية منه تنشيط الذاكرة القومية فحسب والاعتبار من الماضي وأخذ الدروس من النجاحات والتعثرات والأخطاء بل هو كذلك البحث عن مسافة نقدية للتخلص من ضغط هذه الذاكرة وللقطع مع نفسية الفشل والإيديولوجيات المهزومة على حد عبارة المرحوم ياسين الحافظ، من هذا المنطلق حري بنا أن نبتعد عن أسلوب الذم والقدح أو التعظيم والتبجيل لنبين الركائز الفكرية للتجربة الناصرية وأبعادها الإستراتيجية ولما كانت هذه لتجربة مترامية الأطراف وقد اختلط فيها الحابل بالنابل فقد اخترنا محور الدين والسياسة وبالتحديد السياسة لدينية للدولة المصرية في عهد عبد الناصر ولو فصلنا أكثر لقلنا موقف عبد الناصر من الإسلام أولا ومن الإسلاميين ثانيا.
من المعلوم أن عبد الناصر كان شخصا متدينا وأنه على علمانيته وتبنيه الاشتراكية العلمية في الميثاق إلا أنه احترم الرموز الدينية وبدأ رحلته نحو الزعامة من على منبر جامع الأزهر عندما خطب في المصلين تلك الخطبة الشهيرة التي حدد فيها وجهة الدولة المصرية وهي القطع مع الاستعمار البريطاني ومحاربة الصهيونية والاقتراب من القاعدة الشعبية العريضة ولكن من المعلوم أيضا أن أبا خالد كانت له اجتهادات وتجديدات بخصوص الإسلام وأنه لم يقبل القراءة التقليدية كما جاءته من الماضي بل كان تلميذا وفيا لفكر عصر النهضة وبالخصوص لمدرسة محمد عبده التنويرية وفي هذا السياق حرص على عصرنة التعليم في جامعة الأزهر وكانت غايته هو تحويل هذا الجامع من حوزة دينية تقليدية إلى مؤسسة علمية حديثة.
زد على ذلك أن عبد الناصر وظف الإسلام توظيفا تقدميا من أجل إضفاء المشروعية على سياسته الاجتماعية ومن أجل التغلغل في عقول الناس وقلوبهم فاستثار فيهم العاطفة الدينية وحاول الموائمة دائما بين النظريات التي يبشر بها والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية فهو رأى في الإسلام دينا اشتراكيا تجسيدا لحديث الرسول صلعم:أنتم شركاء في ثلاث:الماء والكلأ والنار ونظر إلى محمد كأول اشتراكي في التاريخ البشري وحاول أن يفجر التصورات الاشتراكية المكنوزة في التراث من أجل توضيحها ونشرها،علاوة على ذلك ربط عبد الناصر بين شعار القومية العربية في الوحدة والتحرير وأركان الدين الاسلامي في التوحيد والحرية فالعرب أمة واحدة تعبد إلها واحدا وتتبع قرآنا واحدا ولذلك لابد من نبذ الفرقة والتشرذم وتحقيق الاعتصام والتكافل وبالتالي فانه حاول الربط بين العروبة والإسلام والجامعة العربية والدائرة الإسلامية والدائرة الإفريقية وأسس المجلس الاسلامي الأعلى وكانت هناك وزارة للأوقاف تعنى بالشؤون الدينية وسمح كذلك للأقباط بحرية ممارستهم لشرائعهم ونظر إليهم هم والمسلمين كمواطنين وساوى بينهم أمام القانون وحاول الفصل ببن الدولة
المصرية والأديان دون أن يسعى إلى نزع الأديان عن الحياة ومن قلوب معتقديها. لكن الذي يثير كثيرا من الإحراج هو موقف عبد الناصر من الإسلاميين وبالخصوص الإخوان المسلمين فهو قد تعامل معهم بقسوة كبيرة وزج بهم السجون وأعدم قياداتهم مثل سيد قطب بل انه قد اختلف مع الإسلاميين التنويريين وبالخصوص مع محمد عودة وخليل عبد الكريم وخالد محمد خالد وغيرهم وما نستنتجه أن عبد الناصر كان ينظر إلى الإسلام السياسي على أنه تحزب رجعي يفرق الأمة ويخدم الاستعمار ويخرب مسيرة القومية العربية نحو غايته النهائية وهي الانصهار والوحدة، لكن مثل هذه القراءة قد يراها البعض الآخر متسرعة وغير حقيقية لأن عبد الناصر كانت خصومته مع الإسلاميين سياسية وليست دينية وكانت من أجل الاستحواذ على السلطة والقدرة على استعمالها وليست من أجل الاستحواذ على المقدس والقدرة على الاعتناء به ضد كل تدنيس.
صفوة القول أن عبد الناصر عاصر عدة زعامات مثل الملك فيصل وبورقيبة وياسر عرفات واتخذ من الإسلام موقفا وسطا فان كان بورقيبة أكثر جرأة على الدين وكان الملك فيصل أكثر محافظة فان بد الناصر كان أكثر اتزانا وروية في تعامله مع الأديان فهو قد فصل بين اليهودية والصهيونية وبين الإسلام الرجعي والإسلام التقدمي وبين المسيحية الصليبية والمسيحية الشرقية الوطنية،زد على ذلك أن ما حصل لتجربة ناصر بعد النكسة وبعد حرب 67 ليست هزيمة بل تعثر لا يتحمل مسؤوليتها الرئيس لوحده بل كل جهاز الحكم آنذاك وبالخصوص الحقائب السيادية التي يهيمن عليها عامر وغيره من المفسدين ولكن هذا التعثر صورته الدعاية الصهيونية على أنه نكسة وهزيمة مريعة من أجل إحباط العزائم وشل القدرات وقد انطلت الحيلة على معظم المفكرين والمحللين وتناسوا أن عبد لناصر مجرد كائن بشري خطاء وأن الحقبة الناصرية مجرد تجربة ومحاولة تلونت بلون عصرها ولذلك كانت شمولية تهيمن عليها عقلية الزعيم الواحد والحزب الواحد ممثلا في الاتحاد الاشتراكي وتفتقد إلى الديمقراطية السياسية على الرغم من احترامها للحد الأدنى من الديمقراطية الاجتماعية وهذا التعثر هو دعوة
إلى المحاسبة والمراجعة الجذرية ودرس في التروي والتعقل والتخطيط الاستراتيجي الحكيم ولن يتحقق هذا المطلب إلا بتفكيك الأفكار الكليانية المزروعة في الايدولوجيا القومية مثل الزعيم الملهم والطليعة المختارة والإقليم القاعدة والايدولوجيا الانقلابية، فمتى تظهر للعيان عروبة سردية مرتكزة على الديمقراطية وبعيدة كل البعد عن الشمولية التي جلبت الخراب والوبال على الأوطان والعباد؟
* كاتب فلسفي

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه