إنّ السَبر الفاعل للأحداث السياسية والاجتماعية وتطويرها لا يكون الا عبر تعيين الفكر كنظرية وتحديد المعرفة كموقف فاعل، وفتح آفاق المستقبل على مستويات الواقع المتفاوتة.

لعل الواقع السياسي والاجتماعي اليومي يضع الإنسان لا سيما المهتم بالشأن الفكري، أمام أسئلة فكريّة ملّحة، ولطالما طُلِب منِّي التعليق على موضوعٍ اجتماعي معيّن أو حدثٍ سياسي بعينه، وكنت دائما لا أتجاوب مع ذلك، لا لكوني لا رأي لي في المسائل المطروحة، بل لأني على قناعة راسخة أن معالجة أي موضوع لابد وان تتناول الأسس البنويوية المؤسسة للسلوك والفعل قبل كل شيئ، وغالبًا ما يُطلب اعلاميًّا، هو ان يكون الفرد منا طرفًا اما مستنكرًا او مدافعًا، وكلا الموقفين لا يخدم الفكر المؤسس للنهوض لأنه لا يناقش آليات البناء الفاعلة في مجريات الأمور؛ كما أن للصمت ميزة كبيرة في كثير من الأحيان، فالمواقف لا تقيّم بالأقوال وحدها فبلاغة المواقف تكون بالأعمال، في وقت غرقنا فيه بquot; ثقافة الكلامquot; على حساب الممارسة العملية.

إن المشهد الإعلامي السائد لا سيما العربيّ منه، يضعنا في دائرة ردود الأفعال على الأحداث لا في جو صناعة الحدث نفسه، فيكفي أن تحصل أزمة معينة في مكان معين، حتى نرى في اليوم التالي وقد غرقت الصحف بالآراء والمقالات لتقديم الايجابات والتحليلات التي تتفاوت إيجازًا وإطنابًا، كما تغرق الفضائيات بالبرامج و تحليلات الأوضاع الراهنة ومنعكسات السلوك السياسي الآني، الأمر الذي يُسطّح الأمور ويضع المشاهد أمام صورة مشوشّة متداخلة، ومواقف تتراوح بين المدافعة والشاجبة، ثم تُطوى صفحة هذا الحدث ليطفو حدث آخر وهكذا دواليك في دوامة مفرغة لا ترقى بالفرد ولا تقدم للمشاهد فكرًا بناءًا، و هو ان عكس أمرًا فإنه يعكس صورة الفرد المنفعل كما يكرس الذات المجتمعية المتصدّعة التي تخشى من كل ما يدور حولها، ويضع الشعوب في دائرة ردود الأفعال ويدخلها في دوامة العنف الفكري بحيث أصبحت اليوم تترقب الكوارث وترى في كل صغيرة و كبيرة مؤامرة تُحاك.

أما على مستوى خطاب القادة السياسيين تجاه الاحداث فإنه يتراوح بين خطابات اتهامية تخوينية او خطابات تَشكّريّة مؤيدة،في حين أنهم مُطالبون وأكثر من أي وقت مضى بالخروج النهائي من دائرة الآنية السياسية الى دائرة الإستراتيجية الفاعلة البعيدة المدى.

إنه من العبث - من وجهة نظري- أن نرجو لأنفسنا نهوضًا سياسيًّا أو حتى ما يُشبه النهوض قبل أ ننهض فكريًّا، ولن ننهض فكريّا مالم نفك عن عقولنا وحتى قلوبنا القيود، لأن عملية إيقاظ الوعي الإنساني داخل كينونة الفرد البشري لا تنطلق نحو ما هي تسعى اليه إلا بعد الخروج من دائرة ردود الافعال بالدرجة الاولى ثم ازالة انقاض المتراكمة في ذواتنا ثم تمهيد الطريق وحفر الاسس المتينة المكينة للفكر.

إذن الأمر اليوم ملقى على عاتق المفكرين والفلاسفة للتأسيس لفكر سياسي مبدع وخلاق يتجاوز الاحداث الآنية ويؤسس لاستراتيجية مبدعة، والعمل الدؤوب على ممارسة تطوير خطاب الساسة وسلوكهم والنهوض بهم،ولعل من اهم المرتكزات الفكرية لاحداث هذا التطوير امورًا ثلاث:

bull;ضرورة الخروج من دائرة احتكار الحقائق نهائيًّا: فنحن اليوم مُحتكَرُون ومُحتَكِرون في آن معا، وعليه فإن النهوض الفكري يتطلب الخروج من دائرة التقليد الى دائرة القراءة العقلية على مستوى الفكرالتراثي، اي التحرر من سلطة النصوص، وأن تكون السلطة أي سلطة سواء السياسية المتمثلة بالسلطان او غيرها، هي صاحبة quot;رأيquot; من جملة الآراء لا أن تكون صاحبة quot;الرأيquot; الوحيد، فالخطابات تتساوى من حيث هي خطابات وليس من حقّ واحدٍ منها أن يزعم لنفسه امتلاك الحقيقة و احتكارها، لأنه عندما يقوم بذلك فإنه يكون قد حكم على نفسه بالزيف والبطلان،فسيادة رأي واحد وتكريس خطاب واحد بعينه يعكس عوامل القهر السياسي والاذعان الاجتماعي و الاخطر من كل ذلك تزييف الوعي ؛ لأن كلّ أيديولوجية تتأسس على الاعتقاد بتمام مقترباتها تدعي احتكار الحقيقة كل الحقيقة.

bull;التفكير بمفهوم العقلنة: وهذا لا يكون الا بعد هضم فلسفة تنطلق من عناصر عدة اهمها: وحدة الوعي عبر مجموعة الافكار؛ و القوة العقلية للذات ودورها عبرالافكار في التحولات الاجتماعية والسياسية من خلال وجود الكائن الانساني وقدرته على تشكيل الدلالات الرمزية وتأويلها، و فهم الذات الانسانية كقوة اخلاقية، لأن العقل هو جوهر الذات الأخلاقية المرتبطة بالنتائج الغائية وتداعياتها النفعية.

bull;الايمان بقدر الكائن الانساني: لأن ذلك يعكس تجليات المقابلة بين مستويات الواقع واداراك الكائن،إن التمايز بين الكائنات الوجودية يسيّر إدراكه بين الكائنات الانسانية الأخرى، فكل كائن هو فرد خاص وعين مجسدّة، لكلّ منها تفصيلات تدخل في تركيبتها وقوامها من علاقات ومن صفات ومن بيئة تحيط فيها، الأمر الذي يجعله متفرّد بوجوده وتاريخه دون الكائنات الوجودية الأخرى بأسرها. وهذا أمر يتولد عنه فضاء غير محدود من التسامح والحرية الفرديّة ويؤسس لمنظومة بنيوية مفتوحة على كافة مستويات الواقع الامر الذي يفتح افق لا متناهي للتعددية الفكرية والثقافية.


مروة كريدية/ كاتبة لبنانية
[email protected]
http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية