جاءني من خلدون السوري خبر اعتقال رياض سيف والعشرات ليقدموا إلى محاكم ثورية أمام قضاة من رجال المخابرات في ملابس سود مثل دراكولا الليلي بأحكام جاهزة من رجالات الحزب ومفتي الجمهورية وآيات من القرآن ونصوص من مختارات الحزب القائد.
أرسل لي شاب في ظل هذا الإحباط واليأس المقيم يسأل عن وصفة الخلاص من الاختناق السياسي ويرى أنها اللاعنف.
وكان جوابي عليه إنه مشروع ممتاز، ولكن من يغيب عن الوعي بعد حادث مريع، ويوضع ميبس الأطراف في العناية المشددة لمدة أسابيع قليلة، يصعب عليه تحريك مفاصله إلا بتأهيل طويل الأمد، فكيف بأمة ولمدة أربعين سنة؟! النظام الشمولي مصيبة، وفكه يحتاج لسحر خاص، ووضع خطير من هذا النوع يفتح الباب لكل الاحتمالات:
ـ فإما بضربة الصدمة والدهشة ببلطة صاروخ توما هوك، وقد نجا منها الرفاق بعد كارثة العراق، خوف انتقال الفوضى العراقية إلى الحدود الصهيونية، فكانت سخرية القدر عجيبة أن تحافظ أمريكا وإسرائيل على النظام الهش الضعيف في سوريا، أمنا لحدود إسرائيل؟
وما حصل في الاستعصاء العراقي الذي لم يفك حتى الآن، أنهم استبدلوا صداما بمصدوم.
ـ وإما حرب أهلية مجنونة...
ـ أو موت الأمة حتى ولادة روح عظيمة.
وهو أمر تكلم عنه توينبي عن مصائر الحضارات، أن منها من تعطل، مثل المجتمع اليهودي والبدوي، ومجتمعات الاسكيمو والبولونيز في المحيط الهادي، ولأن سوريا والشرق الأوسط ليست في أقصى المحيط والقطب الشمالي والانتراكتيس؛ فوجب أن يكون المصير مختلفا، وأحيانا دمويا جدا..
ـ أو شيء لا أعلمه أنا ولا أنت كما جاء في قصة جحا.
وحين يصبح جحا مصدر الحكمة فأبشر بطول سلامة يا مربع؟؟
ففي يوم صعد جحا على ظهر المنبر فقال يا قوم هل تعلمون ما أنا قائل قالوا: لا.. قال: فالأفضل أن لا أقوله لكم؟
وفي الجمعة التي بعدها صعد المنبر ثم التفت إلى القوم وفي عينيه تحدي وقال: هل تعلمون ما أنا قائل لكم؟ فحك الناس رؤوسهم وهتفوا بصوت واحد: طبعاً نحن نعرف ما أنت قائله؟
فقال بابتسامة ساخرة: طالما تعرفون فلماذا أعيد الكلام؟ فأسقط في يد القوم.وفي الجمعة الثالثة اعتلى جحا المنبر وقد اتفق الناس أن يحبطوا خطته وتوقعوا منه أن يتحداهم للمرة الثالثة؟ وفعلا فالرجل وقف وقال نفس الجملة هل تعرفون ما أنا قائل؟ فابتسم معظم القوم وقال قسم بهدوء نعم وقال الفريق الثاني: لا..ففترت شفته عن ابتسامة كبيرة وقال: الحل عندكم فمن يعرف يعلم من لا يعرف.
ونحن مع مصيبة الأنظمة الشمولية مثل قصة جحا فلا نعرف شيئا،ً ولا نعرف حلاً، وننتظر وقوع شيء خارق، أو مجهول ليس بأيدينا.
وكل من يتكلم بمن فيهم المنظرون لللاعنف يتكلمون.
وحسب قوانين القوة عند روبرت غرين فإن الناس ترى الأفعال أكثر من الأقوال وهذا حق..
قال لي البليهي المفكر السعودي كتبت لمدة عشرين سنة فلم يعرفني أحد، ولكن مقابلة فضائية لمدة عشرين دقيقة عرفت الناس بأفكاري بأفضل من كتابة عشرين سنة، ذلك أننا معشر العربان ما زلنا قوم مشافهة، ولم ندخل عالم الكتابة واقرأ باسم ربك الذي خلق.
ومع أن القرآن نزل قبل 14 قرنا، ولكن قومه لم يدخلوا عالم المعرفة ونون والقلم وما يسطرون.
وفي الواقع فإن التنظيم السياسي المستقل خارج إرادة الأنظمة الشمولية يشبه من يقدم التعازي في حفلة عرس، أو من يدخل نادي القصابين يتشفع في حياة نعجة أو كبش أملح؟؟
بكلمة ثانية إن (التنظيم) في وجود (تنظيم) لا يسمح (بأي تنظيم) وهو يشبه من يذهب إلى مونت كارلو ويطالب بإغلاق نوادي القمار في دولة تعيش على القمار.ومافيا مدربة على شمشمة المواطن والقتل بالجملة والاغتيال بالمفرق..
أو من يذهب إلى الصين ويطالب بإنزال صور ماوتسي دونغ.
ومن يغامر في العيش أو زيارة غابة يحرسها نظام شمولي عليه أن يفتح كتاب النبات، ويحفظ جيدا وظائف الحشائش؛ فهي تتغذى وتتكاثر، وهو مسموح له بالأكل والإنجاب، ولكن النبات لا يتكلم ولا يعي، لذا وجب على مواطن أو زائر الأنظمة الشمولية، أن يحكم فوهات جمجمته، وفتحات جسمه، ويربط لسانه بصبر وحذر، فلا ينطق هجرا، ولا يقول إلا ما يرضي الرب؟
إن أخوف ما تخاف منه الأنظمة الشمولية، أن تتشكل في وجهها نواة معارضة، ولو كانت مثقال حبة من خردل؛ لأن هذا يعني أمرين خطيرين:
أن هناك ما هو خارج تنظيمها.وأنه يحمل بذرة فناء النظام ولو بعد حين.فهذه أبجديات وبديهيات لأي نظام شمولي وصل إلى السلطة بقوة السلاح وتسلط على رقاب العباد باللاشرعية ويحافظ على وجوده بالسيف.ويحرس الأوضاع بعيون لا تنام.

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه