بدعوة من معهد هادسون الشهير بواشنطن ،وفى حضور حوالى 60 باحثا وناشطا امريكيا من المهتمين بالشرق الأوسط وعدد 8 من المصريين، تحدث نيافة الأنبا توماس أسقف القوصية يوم 18 يوليو 2008 عن خبرات الأقباط تحت مناخ الاصولية الإسلامية. كانت الدعوة للأنبا توماس بصفته الشخصية ولم يذكر مطلقا فى محاضرته إنه يتحدث نيابة عن الكنيسة القبطية، ولم يتحدث من نص مكتوب وإنما عبر خواطر مرسلة ومع هذا كانت الكلمة واضحة ومركزة وقيمة.
فى محاضرته حاول الأنبا توماس أن يلقى الضوء بصورة أوسع على أزمة الدولة القومية فى مصر عبر قراءة تاريخية وحاضرة للواقع المصرى. سلك نيافة الأنبا توماس نفس الطريق الذى سلكه أستاذنا طه حسين فى كتابه القيم quot; مستقبل الثقافة فى مصرquot;، حيث استهل عميد الأدب العربى كتابه بفصل بعنوان quot; مستقبل الثقافة فى مصر مرتبط بماضيها البعيدquot;، وذكر ذلك صراحة طه حسين بقوله quot; ومن أجل هذا لا أحب ان نفكر فى مستقبل الثقافة فى مصر إلا على ضوء ماضيها البعيد وحاضرها القريبquot;.
يمكن تلخيص رسالة كتاب أستاذنا العظيم طه حسين بأنه لا أمل فى تقدم مصر ورفعتها ونهضتها سوى بقطع الصلة بمصادر التخلف تراثيا وجغرافيا، وأن نتجه ونتفاعل مع مصادر التقدم المتمثل وقتها فى الحداثة الآوروبية. وكما يلخص ذلك طه حسين بقوله quot; نتعلم كما يتعلم الأوروبى، لنشعر كما يشعر الأوروبى، ولنحكم كما يحكم الأوروبى، ثم لنعمل كما يعمل الأوروبى ونصرف الحياة كما يصرفهاquot; (مستقبل الثقافة فى مصر،طبعة دار المعارف،ص41)..بل أن الدكتورحسين فوزى المعروف بسندباد مصر لم يكن فقط من أكثر الدعاة للقومية المصرية ولتحديث مصر عبر إرتباطها بالحضارة الغربية بل كان يقول صراحة أن معظم ما يأتى لمصر من الشرق العربى رديئ للغاية.
لخص نيافة الأنبا توماس مشاكل الدولة القومية فى مصر فى أزمة الهوية حيث يترتب على مسألة الهوية أشياء أخرى كثيرة من الثقافة إلى السياسة إلى التسامح الدينى إلى التعاون الدولى، أما المشكلة الأخرى التى تواجه الأقباط على وجه الخصوص فهى مشكلة الأسلمة، وهناك أرتباط بين قضية الهوية وقضية الأسلمة،فإذا استعادت مصر هويتها المصرية وعادت لها شخصيتها القومية،فإن دور الدين سيتراجع ليصبح علاقة شخصية بين الإنسان وربه،أما فى حالة الهوية الحالية التى تجمع بين العروبة والإسلام وتجعل الدين هوية للدولة وتخلط بين الدين والمواطنة فإن ذلك حتما يوثر بالسلب على وضع الأقلية الدينية غير المسلمة فى مصر.
دعاة القومية المصرية متواجدون منذ عصر النهضة الليبرالية من لطفى السيد إلى طه حسين وسلامة موسى وحسين فوزى(سندباد مصر) إلى لويس عوض ومراد وهبة وفرج فودة ووسيم السيسى إلى العبد الفقير إلى الله.وبالتالى ما قاله نيافة الأنبا توماس قاله من قبله مفكرون مصريون مرموقون سواء كانوا مسلمين أو اقباط.. لماذا إذن حالة الهياج على الرجل من إصدار بيانات إلى إنذارات للبابا شنودة على يد محضر إلى إتهامات إعلامية سخيفة وكاذبة.
القضية تتلخص بالفعل فى مناخ التعصب الدينى المرتبط بالاصولية الإسلامية منذ سبعينات القرن الماضى وحتى الآن والذى يتفاقم يوما بعد يوم ويضع الأقباط بين إضطهادين، التهميش والعزل الإجبارى على يد النظام ومؤسساته واجهزته،ومحاولة التذويب فى المشروع الإسلامى على يد التيارات الإسلامية التى صنعها النظام واستخدمها ضد الأقباط،وكلاهما متداخل وكلاهما مرفوض من قبل الأقباط، وكلاهما يمثل خيارا مدمرا لمستقبل مصر ولمستقبل التعايش الدينى فيها.
ولهذا لم أستغرب أن يسارع إسلاميون بجمع توقيعات لإدانة الأنبا توماس ولكن أثار استغرابى وجود اسم الأخ العزيز أسامة الغزالى حرب مع أمثال جمال أسعد وفهمى هويدى ومحمد عبد القدوس ضمن بيان يعد إرهابا فكريا لأسقف قال رأيه الشخصى وقراءته الخاصة للتاريخ فى محاضرة علمية يتفق معه فيها الكثيرون من المهموميين بتأكل الهوية المصرية لصالح هوية أممية دينية وأفدة تقزم مصر وتسلخ جلدها . أما الأغرب فهو الانذار الذى وجهه المحامون عادل بدوى ومحمود ثابت ومحمد جمعة، كما جاء فى المصرى اليوم بتاريخ 31 يوليو، لقداسة البابا شنودة بمعاقبة الأنبا توماس لأنه متمسك بوطنيته ويدافع عن هوية بلده وتاريخها وحضارتها العظيمة ومجدها الخالد، ولأنه قال إنه يشعر بالإساءة إذا قال له شخص إنه عربى.... فهل التمسك بالوطنية المصرية يستوجب العقاب؟؟؟!!!.
الأنبا توماس لم ينف عن اخواننا وشركاءنا فى الوطن عرقهم ولا مصريتهم ولا آصالتهم الوطنية ولا تجانس مكونات النسيج الوطنى، ولكنه يعتب على بعضهم تخليه وتفريطه فى هوية بلده لصالح هوية وأفدة... فهل هذا شئ يلآم عليه؟.
نحن قلنا مرارا ونعود ونكرر بأن الأقباط حراس للهوية المصرية ومعهم الكثير من اخواننا المسلمين، لأن الوطن بتاريخه ومجده وهويته ومستقبله هو وطننا جمعيا حتى ولو وضع البعض عليه طبقة سميكة تحاول طمس هويته وروحه وتزيف تاريخه.
نحن مصريون ولسنا عربا مع احترامنا لكل العرب، نعيش العروبة الثقافية ونتحدث العربية ولكننا لسنا عربا عرقيا. هذه حقيقة تاريخية ..شاء البعض أو آبى.
الأقباط فى الداخل والخارج يشتمون ويتهمون بشتى التهم لأنهم يصرون على التمسك والإعتزاز بهويتهم الوطنية المصرية وليس لهم إنتماء أممى عابر للحدود،وإنتماءهم يتركز فى حدود مصر الجغرافية الضارب فى أعماق التاريخ . لقد وصل السخف برئيس تحرير صحيفة حكومية أمنية بأن يفرد مقالا مخصصا للهجوم على مقولة قداسة البابا شنودة quot; مصر ليست وطنا نعيش فيه، بل وطن يعيش فيناquot;، معتبرا هذه المقولة الخالدة سببا فى الإغتراب القبطى داخل الذات وتعطى المشروعية لأقباط المهجر لما يقومون به!!!.
أما موضوع الاصولية المتأسلمة فلم يعد مشكلة الأقباط فحسب وإنما مشكلة مصر ذاتها ومشكلة العالم كله،فهذه الاصولية المتطرفة دمرت مفهوم المواطنة وحاولت أن تخلق حقوقا لغير المسلمين مصدرها الدين وليس الوطن وبعثرت الإنتماء أمميا وحاربت الهوية المصرية الاصيلة،كما إنها فى النهاية هى المفرزة لتيار الإرهاب الذى يجتاح العالم منذ عقود.
نحن مصرون على أن حقوقنا تنبع من الوطن وليس الدين،ومصرون على التمسك بهويتنا المصرية، ومصرون على التعايش المشترك والمحبة لاخواننا وشركاءنا فى الوطن، ومصرون على إنتماءنا المصرى الأصيل ولو كره الكارهون.
أما الدين فكما يقول أستاذنا الراحل سعيد النجار فهو عاجز عن الإرتقاء بمستوى الحقوق إلى المستوى الدولى quot; أما القول المأثور أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا فهو ينصرف فقط إلى القضايا التى لم يرد فيها نص قرآنى أو حديث نبوى ينطوى على تمييز. ومن ثم فهو قول لا يغير كثيرا أو قليلا من واقع الأمور. والمسألة الآن هى كيف نعمل على التوافق مع المعايير الدولية دون أن ينطوى ذلك على مخالفة للدين أو الشريعة الإسلاميةquot; ( د.سعيد النجار: مفهوم المواطنة فى الدولة الحديثة: رسائل النداء الجديد رقم 64).
الدولة المصرية هى المسئولة بشكل رئيسى ومباشر عن حالة الأسلمة والهوس الدينى والعنف المصاحب له منذ عقود. فقد شكل الرئيس السادات الجماعات الإسلامية إثر اقتراح اصدقاءه عثمان احمد عثمان ويوسف مكاوى ومحمد عثمان إسماعيل، ووصل الامر بمحمد عثمان إسماعيل محافظ اسيوط بأنه كان يوزع الأسلحة على الجماعات الأسلامية وجماعة الأخوان المسلمين كما جاء فى مجلة النيوزوييك بتاريخ 26 اكتوبر 1981. ورغم ذلك القى الرئيس السادات خطابا عدوانيا فى 14 مايو 1980 حمل الكنيسة القبطية مسئولية ما أسماه الفتن الطائفية،وفى 5 سبتمبر 1981 قال الرئيس السادات فى خطاب عام quot; إنه رئيس مسلم لدولة مسلمةquot;.وفى عصر السادات كتب شيخ الأزهر الأسبق الدكتور عبد الحليم محمود عام 1972 كتابه quot; الايمان باللهquot;، طالبا العمل على تحويل الأقباط إلى الإسلام أو عزلهم كمرض خبيث وكافأه الرئيس السادات بالتجديد له فى رئاسة مشيخة الأزهر.
وتفاقمت الأمور أكثر فى عهد الرئيس مبارك، ووفقا لتقارير متعددة لمنظمات حقوقية مصرية محترمة :الدولة المصرية وأجهزتها متورطة بشكل أو بآخر فى معظم حوادث العنف ضد الأقباط وفى حركة الأسلمة والهوس الدينى الواسع المنتشر فى مصر.
إن الحملة المدارة والمنظمة فى الصحف ووسائل الإعلام المصرية هذه الأيام ضد الكنيسة وقداسة البابا ولأنبا توماس وأقباط الخارج، تحمل فى طياتها مخاطر تحريضية وربما الدفع بحوادث عنف هنا وهناك ضد الأقباط وممتلكاتهم، وها نحن ننبه ونحذر ونحمل الدولة المصرية وأجهزتها المسئولية الكاملة، وكذلك المسئولية الكاملة عن السلامة الشخصية لنيافة الأنبا توماس وعن أبروشيته.
إن القصور فى الرؤية والوطنية والمسئولية عند الكثير من صناع القرار وحاشيتهم وإعلامهم يصور لهم بأن الأقباط ضعفاء ولا يملكون من أدوات القوة شيئا،وهذه نظرة بائسة تفتقر للوطنية ولروح المسئولية. الأقباط أقوياء بتمسكهم بوطنهم وبانتماءهم المصرى الأصيل وبقوتهم الكامنة غير المستغلة وبصبرهم وجلدهم وسعيهم للتعايش المشترك، وكما قال الزعيم الخالد سعد باشا زغلول quot; الحق فوق القوةquot;،وأيضا ما قاله الأنبا توماس فى محاضرته quot; الحق قوى، المحبة قوية، الرجاء قوى المحبة فينا أقوى من الكراهية... وبقوة المحبة سنبقى ونعمل ونندمج مع المجتمع ونسعى من آجل خيره وسنتواصل مع اخوننا فى الوطنquot;.

مدير منتدى الشرق الأوسط للحريات
[email protected]