رضا البهات

معركتان دالتان على الحالة المجتمعية في مصر اليوم.

رغيف الخبز.. ذلك الرمز التاريخي للمصريين، والحد الفاصل بين الرضا والثورة، يسميه المصريون العيش- بمعنى الحياة-. في شأنه يدور صراع يومي حقيقي يسقط فيه قتلى وجرحى.. أنباء يطلع عليها سكان الكوكب.. ومعارك متى اندلعت عرف الجميع أن خطأً كبيراً في طريقة الحكم قد وقع. وأن سرقات وفساد الكبار جاوزت جميعاً الحد المتعارف عليه لسرقات الحكام.. وهو حد رغيف الخبز.. والمدهش أن خطأً كهذا لم يرتكبه أبداً أي محتل لمصر.. وظل حكراً على حكامها الوطنيين.

تقول مأثورات المصريين laquo;اللي عنده عيش ويبله عنده الهنا كلهraquo;.. وتقول laquo;يا واخد قوتي يا ناوي على موتيraquo;.. ويقول شعراً laquo;عضّ قلبي ولا تعض رغيفي... فإن قلبي على الرغيف ضعيفraquo;.. وتقول laquo;كبشتين عجين ولا جيرة السلاطينraquo;.. وهو أول شعب يقسم باللقمة قسمه بالله وبأرواح الراحلين.. ويحرم خيانة صديقين أكلا عيشاً وملحاً معاً.. وأول شعب يصنع حجاباً من حبوب الغذاء كالقمح والذرة يعلق على صدر الرضيع.. ومن laquo;الشدة المستنصريةraquo; التي يصفها الجبرتي والتي أكل فيها المصريون بغلة الوالي.. إلى طقس laquo;الرزقةraquo;، إذ تخرج المرأة التي حطّت حملها.. وحيدة في الفجر وبيدها صرّة من الخبز.. تناولها لأول من يقابلها في غبشة الفجر.. عطاء هو تيمن بعودة هذا القليل رزقاً وخيراً إلى المولود الجديد.. وقد صحبت أمي في طقس laquo;رزقةraquo; لأختي الصغرى ولم أفهم الأمر إلا مع اندلاع مظاهرات الجياع في يناير (كانون الثاني) 1977 وقد رفعوا رغيف الخبز على أسنة العصيّ.

ثم أخيراً إلى قولة laquo;طظraquo; التي نحتها اللسان المصري وأطلقها ضد الجميع.. اليوم طظ في فلان بمعنى أن فلانا لا شيء ولا قيمة له.. فإذا هي بحسب الجبرتي.. كان المحتسبون وجامعو الضرائب يجوبون القرى ليصادروا الغلال من بيوت الفلاحين لحساب الحاكم أو المملوك الأكبر.. ولم يكن الملح الذي اسمه بالتركية laquo;طظraquo; يستوجب مصادرته أو أي ضريبة عليه.. فكان الفلاح المصري الماكر يضع طبقة من الملح فوق الغلة وحين يكشف المحتسب فوهة الجوال يصيح به الفلاح laquo;طظraquo;.. وبذا ينجو بقوت عياله.

لم تعد تكفي المصريين اليوم قولة طظ.. فقد صارت المعادلة.. لا خبز ولا ثقافة أيضاً.. ترى هل هناك ثقافة لجائع؟.. الواقع يجيب بأن.. نعم، فالجوعى لا يهتدون إلى الرغيف إلا عبر حرية الكلمة.. وإلا ما تزامن سلوك سارقي الرغيف مع سلوك حماة الإرهاب الفكري في نفس واحد على سلب تاريخ قوامه.. الرغيف والكلمة.. وبدا أن التلازم بينهما عضوي.. هذا بما هو حياة وهذه - الكلمة- بما هي حرية الاحتفال بالحياة.

كانت الفقرة الأولى في حصن الكلمة.. نقابة الصحافيين إذ أشهرَ سبعة من الصحافيين، حماة الكلمة - أو هكذا نظن- العصي والشوم تصدياً لإقامة النقابة مؤتمراً عنوانه laquo;مصريون ضد التمييز الدينيraquo;.. هكذا.. وكأنما قصدوا إلى القول إن الإسلام هو عقيدة laquo;التمييز الدينيraquo;.. فقد منعوا دخول حتى النقيب مكرم محمد أحمد الذي قال إن هؤلاء - يقصد السلفيين- لا يسمعون وجهة نظر أخرى غيرهم.. حقيقة هم لا يؤمنون بالحرية..raquo; وأضاف laquo;إن الفوضى تحتل كل يوم مساحات وأماكن كثيرة.. وهي اليوم تحتل النقابةraquo;.. هكذا اختتم النقيب كلامه بعدما تلقى إهانة من أحد المحتسبين الجدد.. ورغم أن النقابة ذاتها هي من احتضن أكثر من مؤتمر وأمسية لجماعة الإخوان المسلمين دفاعاً عن حقهم في إعلان آرائهم.

غير أن السلفيين كانوا يخوضون بقية الجولة في ساحة أخرى.. ساحة القضاء. إذ كسبوا حكماً بوجوب استرداد laquo;الدولةraquo; لجائزة منحتها لأحد شعرائها - حلمي سالم- وبقي أن تدافع الدولة - مانحة الجائزة- عن شرفها وصدقيتها بالطعن على الحكم.. وقد فعلت. إنما بطريقة غير حاسمة في مواجهة الظلام والظلاميين. ليصرح أحد رجال الدولة بأن الجائزة منحت للشاعر قبل كتابته لقصيدته محل الجدل.. laquo;شرفة ليلى مرادraquo;.. وكأنما تتنصل من حرية الشعر والشاعر.. الذي قال إن القضية الآن قضية الدولة ودولة رخوة.. ومفصل تاريخي يقف فيه المصريون على أعتاب غامضة بجسد ساقاه لقمة العيش.. وحرية الكلمة.

اليوم صار الرغيف في مصر دمعة مخبوءة في الطحين.. والكلمة.. فرحة مؤجلة مخبوءة في النواح.. فما عاد يكفي القول.. طظ. فقد صار يقولها عبر احتجاجاته وتظاهراته اليومية، يدفع فيها بالأيدي عالياً لإراحة تلك الغيمة السوداء التي تحول بين نور الله والوطن.