كامل الشيرازي من الجزائر:لا تزال مدينة المدية الجزائرية (150 كلم جنوب)، العاصمة التاريخية لـquot;بايلك التيطريquot; في عهد الدولة العثمانية، متشامخة بذاكرتها ومراياها بفسيفساء تاريخية نسجت مجد هذه المنطقة العتيقة، رغم كل الأحداث الجسام التي هزتها ، وعرفت المدينة الكثير من الحضارات منذ احتضانها لأوائل الرومان، مرورا بالفتوحات الإسلامية، وصولا إلى العهد العثماني، وتموقعها كمحطة مهمة مدت الجسور بين المشرق والمغرب منذ آلاف السنين.

ماديكس.. الصنهاجيون ويوسف بن تاشفين

يثير تاريخ تأسيس مدينة المدية جدلا كبيرا بين المشتغلين على البحوث التاريخية، حيث تنسب هذه المدينة إلى قرية قديمة تدعى (لامباديا)، بينما يعزوها آخرون إلى بلدة (ألمغارا)، بينما يؤكد فريق واسع من المؤرخين أمثال البكري، إنّ ميلاد مدينة المدية يعود إلى قرن ونيف، ويجزم هؤلاء استنادا إلى ما دلت عليه الحفريات، على أنّ المدية كانت تسمى quot;ماديكسquot; أيام الرومانيين القدامى، وكان يٌطلق عليها أيضا إسم (لمبديا)، لتأخذ اسمها الحالي quot;المديةquot; من إحدى قبائل صنهاجة الضاربة بالمنطقة، ثمّ أعاد السلطان يوسف بن تاشفين إعمارها العام 1155 م، وبناء الساقية التي أنشأها الرومان، علما إنّ المدينة مرت بفترات صعبة قبل ذاك التاريخ، لتدرك الاستقرار بعد أن تولى quot;الزيريونquot; بنائها على يد quot; بلكين بن زيري quot; 950 م على أنقاض المدينة القديمة، بالتزامن مع المنحى الذي شهدته وقتئذ مدينتا الجزائر العاصمة ومليانة.
ويروي باحثون، إنّ المدية خضعت ابتداءا من القرن الثالث عشر، لسيطرة قبيلة أولاد منديل المغراوية سنة 1289 م، حيث تمكن السلطان الزياني quot;عثمان بن يغمراسنquot; من الإستيلاء على ما يعرف حاليا بـquot;الونشريسquot;، كما تسرد مخطوطات إنّ السلطان المذكور ضرب حصارا على المدينة التي كانت سيطرة تحت قبيلة quot;أولاد عزيزquot; من أبناء الزعيم الأمازيغي quot;توجين ثنquot;.
وفي سنة 1303م، سقطت المدينة في يدي السلطان المريني quot; أبو يحيىquot;، هذا الأخير بنى قلعته المشهورة، قبل أن يقوم quot;أبو زيانquot; الذي كان سلطانا على بني عبد الواد، استرداد المدية وضمّها تحت حكمه سنة 1366 م.

إيالة الجزائر وملاحم الأمير

بدأت مدينة quot;المديةquot; عهدا جديدا مع قدوم الأتراك وإنشاء الدولة العثمانية لما عرف بـquot;إيالة الجزائرquot; سنة 1547م، حيث قسّم quot;حسن باشاquot; البلاد إلى ثلاث مناطق، وجعل المدية عاصمة quot; بايلك التيطري quot; في الوسط، وعيّن أول باي للمنطقة سنة 1578 م.
وبعد دخول المحتل الفرنسي للجزائر في يوليو/تموز 1830 م، لم تستسلم المدية مبكّرا، رغم شنّ الجيش الفرنسي عدة محاولات توغل بقيادة الماريشال (دامريمون)، حيث تمكّن الباي quot;بومرزاقquot; آنذاك من إحباط هجمات الفرنسيين ودفعهم إلى التراجع حتى الساحل، ولم يتمكن الفرنسيون من اختراق المدية إلاّ بعد سبعة أشهر، إثر إعدادهم سبعة آلاف مقاتل بقيادة الماريشال quot;كلوزيلquot;، لتدخل القوات الفرنسية المدية في 21 شباط/ فبراير 1831 م، أين جرى تعيين quot;الباي عمرquot; واليا على المدية.
وفي سنة 1836 م، أنهى القائد الشهير quot;الأمير عبد القادر الجزائريquot; السيطرة الفرنسية على المدية، ودخلت المدينة ضمن نطاق دولة الأمير بعد معاهدة التافنة التي اضطر الفرنسيون إلى توقيعها سنة 1837 م، لتبقى المدينة مركزا للمقاومة حتى سنة 1840 م، تاريخ دخول الفرنسيين المدينة مجدداً، لتبقى المدية محل شد وجذب فرابة قرن كامل، إلى حين تفجير الثورة التحريرية في الفاتح نوفمبر/تشرين الثاني 1954م، حيث كانت عاصمة الولاية التاريخية الرابعة إبان تلك الثورة، كما أسهمت غداة استقلال الجزائر سنة 1962 م، في تشكيل الكينونة الجزائرية عبر إنجابها أعلاما كبار على غرار الفنان quot;محمد محبوباتيquot;، وعظماء أمثال فضيل اسكندر، فخار مصطفى وعشرات الأسماء الأخرى.
ولا يمكن للمرء أن يذكر المدية دون أن يتوقف عند العلاّمة quot;محمد بن شنبquot; (1869م- 1929م)، فهذا الأخير كان بارعا في اكتساب العلوم والمعارف وأجاد اللغات الاسبانية، الألمانية، اللاتينية، الفارسية و التركية، ناهيك عن العبرانية، وجرى انتخابه العام 1920 عضوا ضمن المجمع العلمي العربي بدمشق، قبل أن يكون أول جزائري يتحصل على الدكتوراه في الآداب بدرجة ممتاز سنة 1922م، كما كان شاعرا مفلقا، وشارك في عديد المؤتمرات العلمية في الرباط وأكسفورد وباريس.
العلامة محمد بن شنب، أجمع العرب والعجم على عبقريته، حيث أشد به المستشرق quot;رينيه باسييهquot; وquot;مارتينيوquot;، والعلامة quot;البشير الابراهيميquot; وquot;سعيد الزاهريquot; وquot;احمد توفيق المدنيquot; والفنان quot;عمر راسمquot;، وقال فيه quot;عبد الحميد بن باديسquot; رائد النهضة الحديثة في الجزائر:quot;فقدناه لما عرفناهquot;.
وخلّف بن شنب ورائه ما يزيد عن الخمسين كتابا في سائر العلوم باللغتين العربية و الفرنسية منها: تحفة الأدب في ميزان أشعار العرب، رسالة في المنطق، quot;أمثال العوام في أرض الجزائر والمغربquot;، quot;رحلة الورتيلانيquot;، quot;أبو دلامة، حياته و شعرهquot;، وشرح quot;مثلثات قطربquot; سنة 1907، كما له العديد التحقيقات والتنقيحات، والترجمات والفهارس لكثير من نفائس الكتب، وحينما عزم علماء الاستشراق على وضع دائرة المعارف الإسلامية سنة 1899م، كان quot;بن شنبquot; العربي المسلم الوحيد بين خمسين من المستشرقين.


سحر الآثار
تزخر المدية بعديد المناظر الطبيعية ذات الجمال والسحر المنقطع النظير، على غرار فسوحات أولاد هلال ومنعرجات الحمدانية، تمزقيدة، أولاد هلال، بوقزول، سهل بني سليمان، وغيرها، كما تمتاز بإرث تاريخي يمتد إلى ما قبل التاريخ، في صورة أقواس جواب، وقلاع الكاف الأخضر، وقصر البخاري، وسانق.
اللافت، هو تميّز أبناء المدية بمحافظتهم على تقليد متوارث، يتصل بإحياء الوعدات لمن يعرفون بـ(أولياء الله الصالحين)، وتقام بالمناسبة ما يسمى بـquot;الطعمةquot;، وتقام على هامشها مسابقات لألعاب الفروسية مصحوبة بالأنغام والمدائح، كما تشتهر المدية بحفلات زفافها وتقاليد (العرضة)، (المحضر)، (الحزام)، وغيرها من الولائم المصادفة للأيام الدينية والموسمية، في صورة (عيد العنب) الذي تشتهر المنطقة بجودة محاصيله، تماما مثل أكلات شعبية تنفرد نسوة المدية بتفننهنّ في تحضيرها على منوال: العصبان، الكسكسي، البركوكس، وحلويات كـ: البغرير باللوز، حلوة العنب، المثقبة، المعارك، وغيرها من الأكلات ذات الصلة العرفية بين العوائل هناك.