مروة كريدية من الخرطوم: حطت الطائرة قبل المغرب بقليل في مطارالخرطوم الدولي، وكانت الأمور التنظيمية غامضة بالنسبة إلي، وكان بانتظارنا مرافقنا السوداني الذي رتَّب لنا الاقامة في أحد الفنادق المعروفة في العاصمة على حدّ قوله، وأثناء توجهنا الى الفندق كنت أطل من نافذة السيارة أرصد الشوارع الرمليّة والأبنية المغبرة، ثمة شعور مبدئي أننا في القرن التاسع عشر.

كان يتجول بنا المرافقويسمي لنا الشوارع قائلا: اننا الآن في خرطوم الأولى طريق المطار، ليمر بنا بجوار السفارة الكندية، ليقف أمام مبنى تراثي جميل قائلا هنا توجد قرية لبنانية، كل شيء فيها لبناني!

عبرنا المدخل التراثي عبر الباب من تصوينة تحمل لوحة جدارية كتب عليها quot;الساحة، قرية لبنان التراثية quot;، وفجأة وجدنا أنفسنا في عصر الأمراء التنوخيين والشهابيين، قرية تراثية لبنانية بكل ما تحمل الكلمة من معنى بدءًا من التصوينات وصولا الى السطيحة، والتصوينة هي سور الضيعة، وهو عبارة عن جدارية تحكي حكاية القرية، أما ساحة الضيعة فيطلق عليها السطيحة بدلالاتها التراثية ويقول عنها الكاتب أنيس فريحة: quot;إن الذين بنوا القرى اللبنانية متراصّة...وحرصوا على أن تظل في وسط القرية تبعة كبيرة مستديرة أو مربعة أو مستطيلة، تكون لهم مكاناً للاجتماع وسوقاً للمقايضة وملعباً للصغار ومكاناً للمآتم والأعراس. هذه البقعة تعرف بالساحةquot;.

أما العناصر التراثية القديمة فقد تخللت الجدران المبنية من الحجر الرملي، رموز مثل دواليب العربات، النورج، جواريش القمح، أجران حجر طبيعي قديم، جرة فخار، خابية زيت، بالإضافة إلى العناصر المعمارية التراثية مثل: القمريات، المزاريب، الفجوات والشرافات.

أما بعض الجدران فتألفت من المندلون الرباعي (عنصر معماري تراثي لبناني عبارة عن نافذتين مجتمعتين بقوس واحد مع حوض للنباتات ونافذة منفردة على كلا الجانبين)، الفجوات المختلفة الأحجام، النافذة القوسية، القمريات، المزاريب والشرافات.

اما نجد في القرية القناطر المدببة مع قمريات ومزاريب فوقها شرفات مربعة. العنصر هذا منفّذ بكامله من الحجر الرملي، وتتوزع أشجار النخيل خلف التصوينة لتبرز من فوقها، لتوحي بوجود الساحة الخارجية التي تحضنها.

أما في الفناء الخارجي فقد نفذت خيمة في الساحة الخارجية، من جذوع أشجار السرو الطبيعية، وقد استعملت الحبال للتثبيت والتجميل. أما فرش الساحة الخارجية فهو عبارة عن طاولات وكراسي مصنوعة من أخشاب (التك) القديمة التي أعيد تدويرها لتنسجم بشكل جيد مع الفكرة المطلوبة. هذه الأخشاب لا تحتاج إلى أي صيانة رغم تعرضها لعوامل الطقس من شمس وهواء ورطوبة.

كان كلّ شيء من حولنا رائعا غير ان التحدي كان في المأكولات فهرعنا للعشاء، فالقرية تقدم الطعام اللبناني التراثي العريق: الكبة النية والفراكة والهندبة والتبولة والحمص البيروتي والكشك وخبز التنور وخبز المرقوق والحلويات من حلاوة الجبن وزنود الست ومعمول المدّ والبقلاوة... وانتهى بنا المطاف بتناول الأركيلة العجمية الأصيلة مع فنجان قهوة أعاد لنا صوابنا...على أنغام الرحابنة وصوت الساحرة فيروز.

طلبنا مقابلة مدير المكان فجاءنا مهندس المشروع جمال مكي ليطلعنا على quot;الساحة quot;، ويكشف لنا عن انها سلسلة مشاريع متكررة موزعة بين بيروت والخرطوم والدوحة ومن المتوقع ان تفتح في دبي، كما أطلعنا على الفن المعماري المميز والزواريب التي استمدت فكرتها من الطريقة التي اعتمدت في تخطيط المدن الإسلامية حيث تميزت شوارعها الضيقة المتعرجة وبانفتاحها على quot;مجازاتquot; (بعض الأماكن الواسعة قليلاً) ذات نهايات منغلقة تقوم بالوظيفة نفسها التي تقوم بها الافنية، فهي تعمل على تخزين الهواء المعتدل البرودة في الليل و تمنع تسربه مع أول هبوب للريح.


وقد أضفى وجود الزواريب عنصر مفاجأة للزائر بحيث إنه يقطع نصف مسافته ليفاجأ بالفسحة المؤدية إلى عين الضيعة ومدخل القلعة، ويشده الجزء الآخر منه، حيث يصل عرض الزاروب إلى 85 سنتم فقط، ليجد أن نهايته تطل على ساحة عين الضيعة الفسيحة.


و تجول بنا مكي، في quot;الخانquot; و الخان قديماً عبارة عن مبنى واسع من طابق أو طابقين، كان يستخدم قديماً لإيواء المسافرين عبر البحر، كما كان يستعمل لتخزين المواد الغذائية المستوردة من الخارج. أما في قرية الساحة فالخان عبارة عن موتيل يضم عدّة غرف للضيوف، كلّ منها منفذة بطراز يختلف عن الآخر ليشكل عرضاً لنماذج البيوت التراثية المختلفة، وهو موجود في الطابق العلوي،و يستقبل الضيوف بخدمات قياسية.
وكعادة السيدات، فإن الفضول دفعني للاطلاع على كيفية تحضير الطعام... فهي تُعد وفق الأصول العريقة على أيدي لبنانيين من ابناء القرى، فيما تستجلب quot;المونةquot; -المواد الاولية- من برغل وزعتر ومربيات وسائر الأعشاب من قرى لبنان.


هرعنا الى فندقنا quot;الحديثquot; لنحزم أمتعتنا و نعود الى quot;خان قريتناquot; لنكمل فيه ما تبقى من اقامتنا في الخرطوم !
ومن المفارقات المؤسفة،إني تعرفت إلى مفردات الضيعة اللبنانية في السودان! واني لم اكن اعلم بوجود مثيلاتها في لبنان علمًا اني لبنانية!

[email protected]
http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com

الصور: عدسة إيلاف