هناك شبح يخيم فوق معرض فرانكفورت للكتاب. إنه شبح جائزة نوبل للآداب لعام 2004. لم تعرفه فرانكفورت من قبل لأن معارضها السابقة كانت حقا مجالا فكريا لعرض آخر ما تم تأليفه وابداعه عالميا. أما هذا العام، فضيف الشرف هو العرب ولا دلالة فكرية أو أدبية أو فلسفية لهذا المعرض، بالنسبة إليهم، خارج العنجهية الفارغة: أننا خير أمة أخرجت للناس! لكن... عقدة النقص هي سحنتهم، وبفضلها رأى الجميع جائزة نوبل شبحا يخيم في كل مرافق المعرض: هل سيفوز أحدنا بجائزة نوبل ويكتمل الانتصار؟

***

جائزة نوبل باتت مرضا عصابيا يكشف عن جرح نرجسي عميق في الوعي العربي. بينما هي ليست سوى جائزة.. ربما تزيد من مبيعات كتب الذي يفوز بها، لكن بالتأكيد لا تغيير شيئا من قيمة هذا الكاتب، أي لا تجعله عظيما إن هو نالها وفقا للعبة جيو سياسية، ولا تحجب قيمة الذي لا ينالها، على العكس في معظم الحالات إن هذا الذي نالها هو الذي طواه النسيان: من هو أكثر حضورا في الوعي الإنساني المعاصر الكاتب الروسي ايفان بونين الذي أخذ جائزة نوبل لعام 1933 أم رينيه شار الذي ليس لم يأخذها فحسب، بل لم يكن مرشحا أبدا لها؟ كما أنه ليس هناك جائزة عادلة، أي غير منحازة. كل جائزة، أي جائزة، تتم بشكل تمييزي وبغرضية تحيّزية لا علاقة لها بما تدعيه من موضوعية. عدالةُ جائزةٍ موتُها، وحتى تستمر يجب أن يكون لها كواليس وأغراض وحسابات إرضاء سياسية قبل كل شيء. ومع هذا فإن جائزة نوبل لهذا العام يتوقعها العرب أنها من نصيبهم. فوجودهم كضيف شرف (أبقاكم الله كما يستدرك الجاحظ) تم نتيجة سياسة الآن الواقعية من عدم إثارة موضوع التصادم بين الحضارات، وعدم الدخول في نقاش نقدي حقيقي حول الإسلام والثقافة العربية، وهذا عين ما نراه في الخطاب السياسي الغربي من مداعبة ومغازلة للإسلام والعالم العربي، وعلاوة على ذلك عزل العراق ثقافيا نزولا عند رغبة النظام العربي الشمولي.

وهذا يعني أن جائزة نوبل لهذا العام عليها الانحياز لدول التحالف بين المضطَهـِد والمضطَهَد: أي أن تخضع للجيوسياسي الراهن الذي يفرضه التحالف العالمي ضد الإرهاب. وإن تعطى جائزة هذا العام بالخطأ لشاعر غير عربي مغمور بعيد عن الأحداث كلياً، (لكنه أفضل مئة مرة من هذا العربي المسجل أسمه في سجل المرشحين منذ سنوات)، فإن العرب سيتهم جائزة نوبل بالتهرب وبعدم أخذ موقف مما يجري في عالم الأدب اليوم، وبالتالي فهي منحازة بالمعنى العربي للكلمة، لأنها تتحاشى العرب مرة أخرى بالأخص في ظرف يجب مراعاة شعورهم، فهمضحايا مساكين!

***

هذا كل ما يدور في الخلد العربي عندما تطلق كلمة جائزة نوبل. لم يفكر كاتب واحد من هؤلاء أن عدم الحصول على جائزة نوبل هي فرصة ثمينة لمراجعة تاريخنا، ثقافتنا، مراجعة نقدية لا تخشى العواقب، خالقين الرواية المطلوبة، القصيدة المتمناة. لكن كيف، ونحن نخفي غيرتنا من جرأة الآخر على النقد وانتهاك المحرم، باتهام أي كاتب يرى الإسلام سبباً في تراجيديا تاريخه، بالعنصرية والمعاداة للدين. كيف يمكننا نيل جائزة تقديرية حقاً، وكل ما نكتبه لا يحرك ساكناً حتى في مستنقع الثقافة العربية الراكد، منذ سنوات وسنوات؟ إن خطورة جائزة نوبل لا تكمن في انحيازها أو عدم انحيازها، وإنما في تحولها إلى هاجس يومي في حياة الكتاب العرب بحيث جلب انتباه المسؤولين عن هذه الجائزة أصبح هو صلب الموضوع في اعمالهم. من هنا أتمنى أن تعطى الجائزة لهذا العربي النموذجي ( المنتحل، المراوغ، المتواطئطائفيا مع حكومة بلده حد السكوت على انتهاكاتها لحقوق الإنسان)فنرتاح من هذا النقاش العقيم.

***

لكن السؤال عينَه: من يستحقها من بين العرب؟
البعض يتوقع أن محمود درويش أولى بها. البعض الآخر يرى أن أدونيس هو الأحق بها. وهناك من يفكر لماذا لا تعطى إلىادوارد الخراط، أو جمال الغيطاني أو سعدي يوسف خصوصا أنه عراقيووقف علناضد حرب إسقاط نظام صدام ولم يتوقف عن كتابة قصيدة اثر قصيدة ضد الاحتلال أخرها قصيدة بكائية على ارهابيي سامراء الذين ماتوا بأسلحة أمريكية.لكن أنا، شخصيا، لا أعتقد أن سعدي له الكبرياء الكافي لكي يزيح محمود درويش وأدونيس. فهو منذ اكثر من ربع قرن بات في خدمتهما، وأصبح في عداد الممحيين العبيد: وتجدر الإشارة هنا: لووقفت سوريا مع الحرب الأميركية ضد صدام كما جرى في حرب 1991، لكان سعدي يوسف في مقدمة مادحي الحرب.. لكن العبد أحيانا لا يستطيع تشخيص ما يفكر فيه سيده.

أما الغيطاني والخراط فليس لديهما لا المبررات الجيوسياسية ولا ذاك العمل الجبار.

***

على أن الاتفاق الحقيقي في الذهنية العربية هو أن هناك شاعرين يستحقانها، هما محمود درويش الذي لديه أكبر مبرر جيوسياسي: فهو شاعر المقاومة الفلسطينية بامتياز، والمقاومة هذه لها ما يكفي من الجثث والمفخخينلشراء جائزة نوبل. وأدونيس هوالنموذج العربي بامتياز المتعارض مع كل ما يحمله الأدب الإنساني من نزعة إنسانية واحترام للآخر. ولذا أي تتويج لأدونيس هو تتويج للدجل والرياء العربيين بامتياز.

***

في حال أن تضطر مؤسسة نوبل إلى الانحياز جيوسياسيا هذا العام،فليس أمامها سوى اختيارين: إما أن تنقذ سمعتها بإعطاء الجائزة إلى أسيا جبار كتحية لنضال المرأة العربية ضد الإرهاب الإسلامي، أو أن تمنحها إلى أدونيس، فتسجل حدثا تاريخيا لم يحدث من قبل: العار أيضا له جائزته! وفي الحالتين، نوبل هي المنتصرة!

مواضيع ذات صلة:

عكازات الثقافة العربية الرسمية في

هل سيقاطع العراقيون معرض

* فرانكفورت وانحطاط الثقافة

في ذكرى جان دمو