في جدلية النظام والفوضى يتبدى علي السوداني، في أشد مرارته ساخرا ، يصدق عليه القول ، ضاحكا في عز بكائه.يبز العالم بلحيته الكثه، وصوته الذي يأتيك بطيئا، كأنه يحاول تذكر جملة، ضاعت عليه ، حتى تراه يحاول إعادة صياغتها بأكثر من معنى. هو معني بما ابتلى به هذا الجمع ، ومن هذا تراه مفتونا بثقافة الحشد، لايتورع عن دس أنفه في الصغيرة والكبيرة، ينسجها ساخرا من نفسه أولا ومن العالم أولا ومن الجميع أولا، هكذا هو يحاسب الحياة أولا بأول ، من دون السقوط في دوامة المراهنات والمزايدات والإنكفاءات. تراه مغتبطا بكل شيء، قنينة العرق الرخيص التي يفخر بها ويبز بها الأعتى من أنواع المشروبات التي يحتسيها، من يظنون أنفسهم كبارا.
في خارج العراق كان القراء يتساءلون عن هذا السوداني ، الذي يكتب باللسان العراقي، فيما لايتورع هو عن الزهد بمنصب الوزارة ساخرا، ولسان حاله يقول (( شكلي لا يساعد عليها )) وهو بها أو بدونها يعيش الدنيا بما تمليه عليه لحظته التي يحاول مصمصة عظامها، كأنه زوربا اليوناني، أو عباس أبو الباجة أو حنون أبو الطرشي، أو شعلان المغني، أو جواد الحلاق.هو المتأمل في هذا الكون من دون الوقوع في وهم المطلق ، الذي يجثم على الصدور المطفأة. يتلظى بجمر العشق الذي يتنزل عليه، حتى يحاول إدراك ماتبقى من وهدات الأسى والقنوط والقنوت والفوضى والتوسلات ، وربما التنهدات.ما في قلبه على لسانه، ومن هذا تراه لا يفتأ من تكرار جملته التي لا تغيب،؛(( آه منك يا لساني)).
علي السوداني ، هذا الفتى العصي على الإنطفاء المغرم بالبوح والنوح والهيام، يفترض العالم مجرد قميص، أو حتى سيكارة لاتلبث أن تنتهي وتذوب وتغدو مجرد دخان في الفضاء الفسيح، الذي يمكن أن يستوعب المسرات والأوجاع والأفراح والأتراح والتجهم، والعبث والنكات بأنواعها والكلمات طرا وما أنزل الله بها من سلطان.إنها عوالم السوداني المنخرط بالضحك من هذه التقيحات والتشنجات أو حتى التبصرات ، هو يطلقها بكل ما فيه من جموح، من دون الوقوع تحت سطوة الهواجس. يقولها بملء فمه غير هياب من عقلية المراقبة والمعاقبة. يغني بكل حرقة قلبه كأنه المجنون الحكيم الذي استبد به حلم الوحشة والوحدة وغياب الرغبة بمعاينة هذا الكم من الخروقات التي راحت تنشر قلوعها على الواقع.
هذا الضالع بإرتكاب إثم البوح، ما إنفك بيت شعر قاله البياتي، يقض عليه مضجعه، حيث الرثاء في أقصاه (( أظلمت حانات بغداد فلا جدوىوعباس من الحزن يموت)) ذلك هو عبث الأقدار الذي يحط بكل ثقله على كاهل هذا الكائن الذي لا يكف عن شحذ خياله في كل شيء، كأنه في حلبة سباق مع الوقت ، تراه يطارد شيئا ضاع منه وسط الزحمة التي تفرضها التفاصيل المملة.إنه المفتون بنانسي عجرم والساكب الدمع على بوابة حانة بلقيس، والضاج عشقا لسدة ناظم باشا، والملتحف ولهاً لأرصفة أبو نؤاس.إنه الدينامي الذي يكره المشي حد الموت، والملول من (( الكلاوات)) والمزايدات. هو نموذج العراقي الذي كنا نعرف، بكل مافيه من خشوع وإيمان وبساطة وميانة ومحبة تتسع لإستقبال العالم، إنه الضاحك والعابس واللاطم والنادب والشاكي والباكي، عراقي حد النخاع يفرح لأبسط الأسباب، ويحزن للأبسط منها.لايعرف التكفير أو التسفيه، بل تراه باحثا في صميم العلاقات عن المعنى الذي ينشد، حيث الرغبة الجامحة والأمل الذي لا يغيب، حول عالم يتسع لإشراقة الحب والإلفة والتسامح والإختلاف والتنوع.
يكتب ما يعن على باله،من (( السيتة فيتة والدولمة والكركري، وصولا إلى التبصرات المعرفية التي يحشدها كتاب مابعد الحداثة)) يسطر الأفكار على الورق غير عابيء بمن يرضى أو يغضب،ذهب إلى بغداد التي يعشق على أمل تنسم هواء الحرية، برغم التقحمات والترصدات والأهوال التي تنتظره ، لكنه أبى إلا أن يكون قريبا من معشوقته. وبكل ما فيه راح يصرخ ويكشف ويسخر ويفضح ، فكان مآله الطرد والإقصاء، وهكذا يكون مرة أخرى ضحية للخطوط الحمراء التي يحددها المتنفذون والمنتفعون.علي يا سوداني.. أيها العصي على الترويض، أيها القاص والصحفي والكاتب الذي يلوذ بقداسة الكلمة وشرف المعنى، لك التحيات الوافرات.، يامن يحق له الإسترخاء في زمن العبث والتوتر والإصطخاب المرير.