يترقب العراقيون بلهفة ملفتة، موضوعة الإنتخابات التي راحت تقترب من مرحلة التنفيذ بشكل لا مراء فيه.ترقب يتداخل فيه كل شيء وأي شيء، الفرح والحزن، الخوف والطمأنينة، الثقة والقلق، حتى ليكاد التداخل يعلن عن نفسه بطريقة موجعة، حيث الأسئلة التي يرددها المواطن العراقي حول الجدوى وألهمية والقيمة التي تنطوي عليها مسألة الإنتخابات، ومدى علاقتها بمستقبل البلاد، هذا بحساب الوقوف عند القراءة الواعية والدقيقة لما يفرزه الواقع العراقي من تحديات ومواقف.

استبدالات المعنى
في الشعار الكبير الذي يواجه المواطن، تتبدى اللافتة التي تنطوي على قدر الواجب والمسؤولية الملقاة على كاهله، حيث المشاركة التي تفرضها قواعد التفاعل الإجتماعي، لكن هذه المشاركة تبقى رهنا بالمدى الذي تحفزه طريقة التوجيه الصادرة من لدن الفاعلين الإجتماعيين، خصوصا وأن دور القيادات السياسية والدينية، بات يؤشر وبوضوح جلي، إلى كم واضح من الحض والدفع بإتجاه تحديد الموقف من موضوع الإنتخابات، الذي راح ينتج المزيد من المدركات والمعاني التي تعن على عقل المواطن العراقي، إلى الحد الذي تكون فيه الأسئلة وقد اندرجت في مضمون الفرضيات والنوايا، التي لاتكاد تتوضح في ظل العتمة والتداخل التي يفرضها واقع التزاحم المرير الذي يحيط بكل شيء.وإذا كانت مفردتا الواجب والمسؤولية، تتصدر المشهد الإنتخابي العراقي بوضوح لا تتنازعه الريب، فإن تداخلا فجا من نوع التهديد والتحريض والإنكار والإغفال وتصفية الحسابات يكاد هو الآخر يحضر بقوة، حتى يحيل المشهد إلى تراجيديا عابسة، لاينتج عنها غير الأسى والقنوط.
في طريقة تداول الإنتماء إلى العراق، يكون الحادث النيساني بمثابة خط الشروع في ترسيم معالم محددات العلاقةمع الواقع الجديد الذي راح يحيا في ظله وطن مثل العراق. ذلك البلد الذي تم إرتهان مقدراته السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية بيد تسلط الأسرة، وليس القبيلة أو الطائفة أو الحزب. وإذا كان التسلل للطاغية قد تم من خلال توظيف هذه العوامل في مجال التسلق نحو الهرم الأعلى، فإن الإنكار والعقوق كان قد تبدى من قبل الطامح، حتى جعل المجمل من التفاصيل التي يحويها المجال العراقي، تعيش حالة التداخل والإرباك في المعاني والمدركات وحتى الرهانات، فما بين التنكب بالقومية من أجل تعزيز المواجهة بإزاء إيران، أو التنطع بالإسلاموية من أجل تبرير غزو الكويت، يكون المنطق السياسي العراقي إبان الحقبة الصدامية، وقد عانى من الهلهلة والتشظي والتداعي، حتى كانت النوازل والكوارث التي راحت تترى على رأس هذا الشعب، الذي إبتلى بقائد عد نفسه هو الرمز الأعلى للجمع المؤمن .

ازدواجية المنطق
ومن فرضية قيادة الجمع المؤمن، تبرز الحيثيات والتفاصيل التي تم التأسيس لها، عبر تحالف غير مقدس، بين السلطان الغشوم ومجموعة قوى الظلام التي راحت، تؤصل نحو إحتكار المعنى، من خلال الترويج لإسلامها الخاص بها بها. فهي وحدها المؤمنة فيما يكون ماعداها مجرد هرطقة وكفر وإلحاد وإشراك،وهكذا برز إلى الوجود عبد الله المؤمن، الذي تذكر على حين غرة بضرورة البدء بحملته الإيمانية من أجل مواجهة قوى الشر الإمبريالي الزاحف إلى ديار الإسلام،فيما يغيب السؤال البسيط والذي يتماهى مع السؤال الإستنكاري الذي صرخ به الطفل الصغير عن ملابس العاهل العظيم.حول المسبب المباشر في حث القوى الخارجية للقدوم إلى المنطقة. ما يحدث في عراق الراهن، يشير إلى كم هائل من التداخل في المعاني، حيث التنابز على أشده، بين دعاة الحرية وأهمية الخلاص من ربقة الهيمنة والطغيان وثقافة الإستبداد. والطرف المقابل المستند إلى الإبقاء على الطاغية خوفا من الفتنة التي تحط بثقلها على أحوال الأمة، والخشية من الفوضى والإضطراب.عنصران يتجاذبان بتقابلية مفزعة، لاينجم عنها غير القتل والدمار والفتك والتفخيخ والتفجير، حتى ليتعالى صوت المواطن حول هذا الشر الذي أحال حياته إلى جحيم لايطاق.فيما ينحسر نطاق المعاينة الجادة والأصيلة، للوقائع والأحداث في ظل الإضطراب الذي يضرب أطنابه.إنه العداء على أشده والتطلع نحو تصفية الحساب، مع القتلة والظلمة، الذين ما تورعوا عن إلحاق الأذى بالفئات المختلفة من الشعب العراقي، حتى كان التداول المنطقي والعميق، لمقولة أن الطاغية قد عمد إلى توزيع ظلمه بالعدل.فلم يأل جهدا ولم يدخر وسيلة إلا وسخرها في سبيل تحقيق مآربه، وبلوغ مراميه وأهدافه التي رسمها في خياله الموغل في الذاتوية، على حساب مصلحة البلاد والعباد.

القطيعة مع الواقع
الإنتخابات التي تطل اليوم كحادث يؤصل لشرعنة المستقبل العراقي، تكون بمثابة الفاصل التاريخي.حيث الرهانات في أقصاها ومن مختلف القوى، هذا مع أهمية أن المواجهة الراهنة لاتنطوي فقط على المحدد السياسي، بقدر ما يتصدر المشهد جملة من الفواعل الثقافية والإجتماعية والدينية والإقتصادية .فواعل تدخل في صميم أهمية إمعان النظر في ضرورة ترميم الذات الوطني العراقي، التي عانت من الإحتقانات والتدخلات المجزوءة من قبل السلطة الغاشمة، والتي أجادت فن التحريض والترويض بطريقة قوامها إذكاء النعرات، والقفز على حقيقة التفاعل الإجتماعي.حتى كانت التجزؤات بادية للعيان، في أعقاب سقوط الصنم، الذي تكشف عن زيفه وإدعاءاته الكاذبة بالبطولة والشهامة والعزة القومية، لتكون الحفرة التي تعف الجرذان عن المكوث فيها، بمثابة الفضح العميق والمخزي عن مكنون شخصية القاتل والمخاتل والمتآمر، الذي آثر أن يجعل من العراق العريق نهبا للأطماع والتدخلات والإنجراحات.

ماهي الحسابات والتحديات التي تنطوي عليها الإنتخابات العراقية، وكيف يمكن النظر إليها في ظل التهديدات التي تروج لها القوى المناوئة لها. في رهان المثقفين الذين يؤمنون بأن العراق يستحق ان يعيش الحرية والديمقراطية والشرعية الدستورية، إستنادا إلى تاريخه المجيد والأصيل،أم في القبليين الذين شمروا عن نواياهم في سبيل ممارسة الغنيمة على حساب المصلحة الوطنية الكبرى، أم في الطائفيين الذين لا يتورعون عن الإعتياش على التوترات والإلتباسات التي تفرضها عليهم نصوصهم السالفة، حتى وإن تقاطعت مع الواقع الموضوعي.أم في السياسيين الموغلين في ممارسة قواعد لعبة فن الممكن.الجميع يسعى نحو غاياته المفرطة في الشخصانية، فيما يبقى هذا العراق كالجثة المسجاة، لايعبأ بها أحد ولا يدافع عنها من يدعي الإنتماء إليها.قد يتعالى العويل هنا، أو يتم الندب هناك . لكن الركض إلى الوراء يبقى الكاشف والفاضح عن مكنون مايجري، في ظل هذا الزخم الهائل من التعثرات والنكسات والتأزمات.