أجمع المفكرون على سطح المعمورة أنَّ سيرورةَ وتطور الأديان عبر التاريخ هما النتيجة الحتمية لتطور وتشعُّب الحاجات الموضوعية للمجتمعات البدائية ولنزعات الإنسان وفضوله المعرفي المتمثل بمحاولات تفسير الظواهر الطبيعية والبشرية ولرغبته التي سببتها الضرورة في تنظيم العلاقات وتأطير المفاهيم وتحديد المتضادات والموقف منها ومتطلبات الإلتزام بما يحقق الرضى. ولا شك بأن الحاجة الموضوعية الرئيسية والأكثر فعالية في تطور الفكر الديني هي ما أفرزه أول انقسام طبقي في المجتمع البدائي والذي سبَّبه فائضُ الإنتاج، فكان لا بد من نشوء سلطة بدائية تتحكم بالثروة المتراكمة ولا بد لهذه السلطة من فكر تستخدمه للسيطرة على الثروة والممتلكات ووسائل العمل وكذلك قوته.
وسواء بقيت المفاهيم الدينية في إطارها الضيق فكرياً وجغرافياً أم تطورت فكرياً واتسعت رقعة تأثيرها الجغرافي وتعمقت في امتداداتها الفلسفية الروحية منها والمادية فإنها ظلت تشكل الغطاء غير المادي للمصالح الإقتصادية للجهات الأكثر انتفاعاً في المجتمع ووسيلتها للسيطرة على السواد الأعظم من البشر عن طريق إقناعهم، سواء باستغلال حاجاتهم النفسية المحاطة بقدرات عقلية محدودة أو بالضغط لفرض ثقافات وحيدة الجانب تكرِّس المفاهيم وقيودها وترسِّخ عُقَدَ الخوف من القوة المطلقة والحساب والعاقبة.
لقد كان ذلك الواقع مرفوضاً على الدوام من قبل المفكرين العقلانيين وقد امتلأت محطات التاريخ الإنساني بهم، بالرغم من المعاناة الكبيرة ومن الاضطهاد الفظيع الذي تعرض له فلاسفة وعلماء ماديون ومفكرون ومبدعون ذوو ضمائر إنسانية. لقد كان الصراع بين الفكر المادي والعلم من جهة والفكر الغيبي والرجعية من جهة أخرى مريراً ومستمراً وانتصرت الرجعية في جميع المراحل لأنها، بخلاف العلم، تستخدم القسوة والعنف والإرهاب والقتل والتدمير ونشر الجهل ومقوماته من الفقر والأمية إلى البطالة والجريمة مما أبقاها مسيطرة على الساحات والأوطان وثرواتها وشعوبها ومما حول الكادحين من أبناء هذه الأوطان إلى عبيد مسلوبي الحرية والإرادة فلم يبق لهم إلا الغيب يأملون عدالتـَه المفقودة على الأرض!
ولكن الانتصار الدائم للفكر الغيبي الذي مثَّل على الدوام الخلفية الآيديولوجية للطبقات المستغِلة وصولاً إلى الحكومات لم يثنِ من عزيمة أصحاب العقول النيِّرة الذيد قاموا بتأسيس حركات راحت تحرِّض المضطهدين وتحثهم على المطالبة بحقوقهم التي أقلـُّها التوزيع العادل للثروات وامتلاك وسائل الانتاج والتحكم بالمجتمع وعناصر تطوره، وكان لا بد لهذه الحركات من تنظيم وآيديولوجيا فقامت الأحزاب ذات الأهداف الواضحة المرتبطة بالمجتمع والوطن على أسسٍ متباينة الرؤى.
هذه الأحزاب، بكل بساطة، شكلت أرقاً كبيراً لدى أصحاب المصالح الاقتصادية فكان لا بد لها من القيام بتشكيل أحزاب موازية على أسس مضادة، أي على نفس الأساس الفكري الذي أنشؤوا المجتمع وعلاقات الإنتاج عليه فكانت الأحزاب الدينية الرجعية المعادية للتطور والتي أعلنتها حربأ شعواء ضد الفكر المادي العلمي متهمة رواده بالزندقة ومقاومة إرادة الله.
لم تكن الأحزاب الدينية (المسيحية) في أوروبا مقبولة إلا من أبناء وأفراد مرتبطين بأصحاب المصالح الإقتصادية من الطبقة المالكة والحاكمة.. وبالرغم من بقاء الإقتصاد حتى الآن تحت سيطرة ورثة الإقطاع والرأسمالية إلا أن هذه الأحزاب اضْمحلـَّت وهي في طريقها إلى الزوال وما بقي منها لا يتجرأ أبداً على الإعلان عن رغبة في تكوين مجتمع أو دولة على أساس ديني، وقد وصفت هذه الأحزاب وما تزال بالـ (يمينية) والـ (رجعية) والـ (محافظة) وأصبحت مضطرة إلى تغيير مناهجها الفكرية لتتماشى مع أكثر طروحات العصر قبولاً مما يحفظ للإنسان حقوقه بعيداً عن التمييز العرقي والديني.
أما في شرقنا العربي ، فبالرغم من الاختلاف في البعد التاريخي للمسألة إلا أن نشوء أحزاب سياسية على أساس ديني لم يخرج عن إطار حاجة الطبقات المسيطرة على الثروة لنشر فكر معادٍ للثورة والتطور، ولبناء مجتمع على أسس غيبية لا مادية تضمن ابتعاد المضطهدين عن معرفة الأسباب الحقيقية وراء عبوديتهم ومآسيهم وتخلـِّفِ مجتمعاتهم. لقد كانت طروحات وبرامج الأحزاب الدينية رجعية ومعادية للتطور على الدوام وهي تمثل فكر ونظام الطبقات المالكة للثروات ووسائل الإنتاج وبالتالي فإن الادعاء بأنها أحزاب وطنية وجماهيرية ادعاءٌ زائف ولا ينطلي على أصحاب العقول.
إن أيَّ حزب ديني، أياً كانت ديانته، لا بد لعقيدته وبرامجه من الإلتزام بتعاليم دينه المطلقة والتي لا تعترف أبداً بالمخالفين انطلاقاً من أساسياتٍ مفادُها أن صاحب الدين خصَّ أتباعه دون غيرهم بالحقيقة وكلَّفهم بمحاربة الآخرين والقضاء عليهم، وفي أحسن الحالات بإقناعهم ترك دياناتهم والالتحاق بأفواج التائبين! فكيف لمثل هذه الأحزاب أن تكون وطنية والوطن لجميع أفراده وكيف سيتم التعامل مع شعوب أخرى صنعت تواريخَ مجيدة من التطور والتحضر .. هل يعقل أن نحصر تعاملنا مع هذه الشعوب على أساس ديني فننظر إليهم بعين الشفقة، كونهم إلى النار آيلون، إن لم يكن بكراهية وحقد لأنهم أعداء إلهنا!
ألم تثبت الأحزاب الدينية رجعيتها وأنانيتها وفشلها، وهي تجاهد سلمياً، وعنصريتها ولا إنسانيتها، وهي تجاهد بسفك الدماء .. ألم تكن هذه الأحزاب بؤراً استغلها أصحاب المآرب من المنتمين لأديان أخرى في التحريض وفي عمليات القتل والتدمير تسهيلاً لمخططاتٍ صعبة التحقيق دون وسائل فكانت هذه الأحزاب وسائلهم الرخيصة؟
ألم تمسخ طروحاتُ الأحزاب الدينية النضالَ الوطني ومقاومةَ الاحتلال ِ واستغلال ِ احتكارات العالم الرأسمالي لطاقات الشعوب الفقيرة المتواضعة عندما حولتها إلى مقاومة دينية وجهاد ديني في سبيل الله حارمةً إياه الصفة الوطنية النبيلة ؟!
ألم تتقاطع برامج الأحزاب الدينية، التي تدَّعي الوسطية والابتعاد عن الأصولية، مع حركات أصولية رجعية ذات أهداف سياسية تتنافى مع العصر ومفاهيمه وتروِّج للعنف ولاستخدام الوسائل اللاإنسانية في التعبير عن برامجها ..!! ألم يعلن أصحاب مراكز إفتائية في هذه الأحزاب تأييدهم المطلق للعمليات الإنتقامية، مهما كان شكلها ووسائلها وضحاياها، لأنها تأتي بإرادة عُلـْوية!! وكيف لنا هنا أن نبرر لأنفسنا ما ندين الآخرين على فعله؟ ثمَّ كيف لنا أن نصف هذا الجهاد بالديني في ساحة تتنوع انتماءات أفرادها؟ وهل الطفل الفلسطيني الذي يفجـِّر نفسه في حافلة يقوم بهذا العمل انتقاماً لله؟ هل يحتاج الله إلى الأطفال ينتقمون لعقيدته بهذه الطريقة؟ وكم من الأطفال سيتطلب الأمر إلى أن يشاء الله! وهل قدَّم المحرضون أطفالهم ضحايا لهذه الأعمال الشريفة؟
هل قطعُ أعناق الرهائن المختطفين مبرَّرٌ أيضاً إرضاءً لله؟
وهل يرضي الله وأحزابه أن يجنَّدَ متخلـِّفون وأفرادُ عصابات لمحاربة الشعب العراقي وعرقلة خطة تحرر وطنه وعمليات إعادة بنائه بعد أن حطَّمه الفكر الصدامي والطائفية البغيضة.
هل اضطهاد المرأة وتهميشها، لأنها ناقصة عقلٍ ودين، وسلبها حقوقها الإنسانية وتكريس عبوديتها وإبعادها عن النور ومعاداة الفكر الداعي إلى العدالة والمساواة ومقابلته بتشريع دونية المرأة وسيطرة الرجل وتحكمه في جميع القضايا ومنها الإرث والشهادة والطلاق وتعدد الزيجات، وكذلك تبرير استخدامه العنف معها ولو وصل إلى حد الضرب، وهو ما يروِّجُ له قادة الأحزاب الدينية، هل كل هذا يرضي الله؟!
وإن كانت الأحزاب الدينية تتطلع إلى حالة تصبح فيها مجتمعاتنا قادرة على مجاراة أعداء الله الأقوياء، والذين لا أعلم كيف أصبحوا أقوياء وهم أعداء الله وكافرون إلا إذا كانت تلك إرادته، فنستطيع تطويعَهم وهزيمتَهم عبر العلم والجهاد .. فهل فكَّر أصحاب هذه الرؤى بالمطبات التي وقع فيها سابقون عندما حاولوا ربط العلم والتحرر وكلَّ شيء بالدين؟! وهل يدعو الفكر الديني المتحزب إلى استخدام جزء من العلم، يتطابق مع نصوصنا وترك الباقي ؟؟ وكيف يفسر أتباع هذه الأحزاب الحروب الضارية التي قامت بين البلدان التي لها نفس الانتمائية الدينية في كافة القارات وحصدت ملايين القتلى ودمرت مئات المدن وكرست الفقر والتخلف والبؤس والمرض؟
قادة الأحزاب الدينية يدعوننا إلى مقاومة المخططات الإستعمارية والغزو الثقافي الغربي بالمزيد من التمسك بتراثنا؟ إذن عن أي تراث يتحدثون وفي هذا التراث ما (يخدش الحياء) أكثر بكثير مما يسوقونه من أمثلة في الإعلام المرئي وبرامجه المتأثرة بالغزو الثقافي الغربي؟.
ويتحدث دعاة التحزبية الدينية (الوسطيون) عن الديموقراطية على أساس ديني!! ما هي هذه الديموقراطية التي مرجعها فكرٌ يعتنقه ويمارسه جزءٌ من المجتمع وليس كلُّه؟! وإن كان المقصود (أكثرية عددية) فمعنى هذا أن نبرر قيام دول على أساس ديانات الأكثرية فيها وسيكون على الناس جميعاً الالتزام بقوانين وأحكام وشرائع الدين السائد وسيلتزم ملايين من الآخرين (الأقلية) قسراً بدساتير صيغت للأكثرية وتجاهلتهم ، وسيعاقـَبون على عدم الطاعة حتى ولو سمح الهامش الديموقراطي (التسامح) بإبقائها خارج دين الأكثرية .. فهل هذه ديموقراطية؟!
بهذا نصل إلى القناعة التامة بأن التحزبية الدينية لا يمكن لها أن تخرج من قوقعتها الرجعية وليس أما فكرها مجالٌ ولا فرصةٌ للتطور أو إعادة النظر في الطروحات والبرامج. إن الحزب الديني حزب لا وطني ولا إنساني .. والدين، أيُّ دين، ليس بحاجة إلى حزب وليس من الصحيح إقحامه وإقحام أفراده بالسياسة لأنه بهذا سيواجه الناس (الأغيار) بعقلية التفرقة والعداء بغضِّ النظر عن معاناتهم الطبقية التي قد تجمعهم في نضالهم من أجل الخير والعدالة.
إن النظر إلى حضارة الشعوب من خلال ملفاتها الدينية فيه ظلمٌ وتجنٍ على إبداعات أبناء هذه الشعوب التي طورت أساليب الحياة ووسائلـَها واستثمارَ خيرات الطبيعة وصنعت الفنون والآداب والعلوم وفسَّرت المجهول واكتشفت الأفضل .. فالشعوب تصنع الحضارات بعقولها المادية العلمانية أما الجانب الروحي عند الإنسان فهو شاعريٌ إن أردنا الحفاظ عليه وعلى نقائه لا بد لنا من إبعاده عن ساحات الاقتتال من أجل المصالح الأنانية.
والحقيقة أن الإنسان في التاريخ كان دوماً علمانيَّ الفكر والسلوك لولا التحزيب الديني القسري الذي فرضته طبقات مالكي وسائل الإنتاج والسلطات .. والعودةُ الآن إلى العلمانية منهجاً وسلوكاً ونظاماً شاملاً على أصعدة البيت والحي والمجتمع والبلد والعالم بأسره هي واحدة من أهم ما توصل إليه الفكر البشري من إبداعات التعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد وكذلك بين شعوب المعمورة.