بينما النواقيس وأجراس الكنائس، تعزف أنشودة الخلود، انطلق الأطفال بعمر الزهور،عذراوات تزين ببقات الورد، شيوخ أتعبهم الدهر، رجالاً قاسوا كثيراً من وطأة الحرب وعانوا أكثر من استبداد الدكتاتورية، جميعهم تجمعوا في بيوت الله ، يحملون الشموع، وقفوا بخشوع ليصلوا من أجل السلام للعراق. لكن كان هناك في الخارج، وحوش بشرية، بعقلية ظلامية، جاؤوا يحملون قنابل الموت والدمار، زرعوها في محيط الكنائس، فجروها في وجوه المصلين، وبين جموع المؤمنين، ليخطفوا البسمة من وجوه الأطفال، ليغتالوا العراق، ليقتلوا أهل السلام، انهم قتلة.... ارهابيين.... انهم أعداء الله والدين والإنسان والوطن. انه الإرهاب المطلق، الذي لم يعد يميز بين من يحمل غصن زيتون ويطلق حمام السلام، وبين من يحمل السلاح ويطلق النار.أنه الإرهاب بأبشع أشكاله وصوره، لأنه لم يعد يميز بين مراكز العبادة وتجمعات الاحتلال.انها جريمة منظمة بحق عراقيين أبرياء عزل، ذنبهم انهم مسيحيين. انه الإرهاب المطلق الذي يستهدف، اغتيال الدين والوطن والإنسان معاً، وباسمهم جميعاً. أنه (الإرهاب المحمود) الذي دعا اليه وباركه ( اسامة بن لا دن)، شيخ الإرهابيين، الذي تناصره تيارات وشخصيات اسلامية وعربية عديدة في العالم.


تفجير الكنائس أسقط ورقة التوت عن المقاومة:
إن دوي الانفجارات ومناظر القتلى وصرخات الجرحى ، وسيل الدماء ، صور ومناظر ليست بجديدة على العراقيين، فمثل هذه الأحداث والمشاهد الفظيعة، باتت جزءاً من الحياة اليومية لشعب العراق من شماله الى جنوبه. لكن الجديد والمثير هو ان الإرهابيين هذه المرة استهدفوا قتل أناس أبرياء أتقياء ليسوا طرفاً في الحرب الدائرة، ولم يكن بينهم شرطي عراقي أو جندي لقوات الاحتلال أو رجل سياسي ، ليأخذوا منهم ذريعة للجريمة البشعة التي قاموا بها واقترفوها. لقد بدا واضحاً أنه مع تفجير الكنائس واستهداف جموع المصلين، سقطت جميع أخلاقيات الإرهاب المحمود، كما سقطت ورقة التوت عن ما يدعيه البعض بالمقاومة الوطنية لقوات الاحتلال.
إن تفجير الكنائس، لا يمكن أن تكون حوادث اعتيادية وردود أفعال عابرة في مسار الحرب العراقية، يجب أن ينظر لها بمنظار تاريخي أيديولوجي، لأنها جزء من ظاهرة الإرهاب، الفكري والديني والسياسي، المتنامية في الشرق العربي و الإسلامي. هذا الإرهاب ينطلق من أرضية فكرية (ايديولوجية) ثقافية واجتماعية وأخلاقية محددة، سابقة للاحتلال، تنتجه وتأسس له الكثير من المؤسسات الإعلامية والاجتماعية والسياسية والتربوية والثقافية والدينية، في المجتمعات العربية والاسلامية. وأصبح الكثير من المسلمين صدى لهذه الايديولوجيات المتطرفة والقاتلة، وأداة جيدة مطيعة جاهزة بيدها، بعد أن أصبحت هذه الايديولوجيا بمنزلة العقيدة المطلقة، تضفي صفة القداسة على معتنيقها، وتكفر الآخرين وتجردهم من القيم والمثل الإنسانية وتحيلهم الى كائنات مجردة محتقرة لا تستحق الحياة تستبيح قتلهم. لقد اتاحت ظروف الحرب وانهيار الدولة في العراق، للتنظيمات الإسلامية المتطرفة في المنطقة، حاملة هذه الايديولوجيا،الفرصة التي طالما تاقت إليها وتبحث عنها لتنفيذ برامجها السياسية وخططها الدينية. من دون شك أن الأمر لا يتعلق بالحرب بين الأديان، لأن هؤلاء الإرهابيين قتلوا وذبحوا من المسلمين أكثر بكثير من غير المسلمين، لكن لهذه الأعمال الإرهابية، صلة مباشرة بصدام الثقافات(الحضارات) التي تنبأ بها (صموئيل هنتنيغتون).انه صدام بين ثقافة العنف وتقديس الموت وتقطيع رؤوس البشر باسم الدين والجهاد من جهة، وبين ثقافة الديمقراطية والحريات الدينية والسياسية واحترام حقوق الإنسان وتكريمه، من جهة أخرى .

التاريخ يعيد نفسه على الآشوريين العراقيين:
من جديد اهتز ضمير العالم، كما اهتز له التاريخ، لمآسي والفواجع التي لحقت بالآشوريين والمسيحيين في هذا الشرق، الذي تحولوا فيه الى جزر معزولة في وسط بحر اسلامي هائج. انها فصول كثيرة لمأساة واحدة، لشعب غدر به التاريخ.وقد أيقظت، تفجيرات الكنائس في العراق، الذاكرة التاريخية للآشوريين والمسيحيين عامة، المليئة بالمآسي والويلات. بدءاً من المجازر الجماعية التي نفذها (بدرخان) بين عام 1841و1848م ، الى (المذبحة الكبرى) وعمليات التطهير العرقي التي قام بها (الجيش العثماني) عام 1915م بحق جميع المسيحيين الواقعين تحت حكم الامبراطورية العثمانية، في كل من أرمينيا وبلاد ما بين النهرين، والتي ذهب ضحيتها أكثر من مليوني قتيل، من أرمن وسريان(آشوريين). وصولاً الى مذبحة (سيميل الآشورية)- يحيي ذكراها الآشورييون، في كل أنحاء العالم، بعد أيام، تكريماً لأرواح شهدائهم عبر التاريخ- تلك المذبحة نفذتها قوات حكومة (رشيد علي الكيلاني) في السابع من شهر آب عام 1933م، حيث قامت بارتكاب جرائم قتل جماعية بحق أكثر من ثلاثة آلاف آشوري جلهم من النساء والأطفال والشيوخ العزل في قرية سيميل الآشورية، كرد على انتفاضة الآشوريين المطالبين بأن تعترف الدولة العراقية بهم كشعب عراقي أصيل ومنحه حقوقاً قومية الى جانب القوميات الأخرى في العراق.فقد أخذت حكومة الكيلاني من مطالب الآشوريين ذريعة وافتعلت صداماً مسلحاً معهم، بهدف صرف الرأي العام العراقي عن المشاكل الداخلية التي كانت تواجهها، فجعلت منه نصراً تاريخياً ضد بريطانيا التي كانت تحتل العراق حينذاك.واليوم يعيد التاريخ نفسه على الآشوريين في العراق،إذ تحاول المجموعات الإسلامية المتطرفة، تصوير أعمالها الإرهابية بحق المسيحيين العزل، على أنه ضرب ومقاومة لقوات الاحتلال(الأمريكية والبريطانية) وعده نصراً عليهم.فقد أعلنت مجموعة اطلقت على نفسها اسم( هيئة التخطيط والمتابعة في العراق)، في بيانا لها أصدرته في الأول من آب، مسؤوليتها عن الاعتداءات الدامية ضد الكنائس في العراق.إذا كان الإرهابيين يقتلون مسيحيي العراق انتقاماً من قوات التحالف، بهدف الضغط عليها ودفعها للانسحاب من العراق، لكن فات الإرهابيين بأن أكثر من تضرر من الوجود الغربي المسيحي في المنطقة، في الماضي والحاضر، هم مسيحييوا الشرق أنفسهم، كما أن الأميريكيين والبريطانيين لا يحاربون في العراق أو في أفغانستان، نيابة عن المسيحيين ومن اجلهم، ولا يمكن أن يهتز للإدارة الأمريكية أو للحكومة البريطانية، ضمير أو جفن، لقتل كل مسيحي العراق.
في ظل هذا الواقع العراقي المأساوي، الذي يطرح أكثر اشارة استفهام، حول مستقبل الوجود المسيحيين في المنطقة، وهل من جهة ما تخطط وتعمل لتهجيرهم منها. ثمة سؤال يطرح على مختلف الهيئات والمؤسسات الدينية والسياسية والاجتماعية الآشورية(كلدانية/سريانية) والمسيحية عامة في العراق والمنطقة: ما هي خططهم لمواجهة هذه المؤامرة الكبيرة عليهم....؟
يفترض أن تكون أولى هذه الخطوات، هي نبذ الخلافات وتجاوزها، أياً تكن أسبابها، وتوحيد الصف في مواجهة هذه المؤامرة الكبيرة التي تستهدفهم جميعاً. فالقضية لم تعد قضية تسمية(كلدانية، آشورية، سريانية، آرامية) أو بعض الحقوق القومية والمكاسب الحزبية، أن القضية هي قضية وجود أو عدم وجود.
الخطوة الثانية: أن لا يستسلموا لمشاعر القلق والخوف، وأن لا تدفعهم هذه الأعمال الإرهابية الى هجرة وطنهم وترك منازلهم، فقد تحملوا الكثير، و لم يبق إلا القليل، من أجل عراق ديمقراطي جديد وحياة حرة كريمة.
كلمة أخيرة أقولها لكل العراقيين: لا خلاص للعراق ولشعب العراق، إلا بتوحدهم جميعاً في مواجه الإرهاب الذي بدأ يستهدفهم جميعاً ولن يستثني أحداً منهم.

الكاتب آشوري سوري.... مهتم بحقوق الأقليات.
[email protected]