مدخل سريع
كانت هجرة الرسول الكريم من مكّة إلى المدينة حدثاً كبيراً في التاريخ الاسلامي بل في تاريخ الانسان، وقد تناولت مصادرنا التاريخية والحديثيّة موضوع الهجرة بالتفصيل، وذلك منذ أن أذن الله لرسوله بالهجرة حتى دخوله المدينة المنوّرة، والّذي يقرأ هذه المصادر سيرى ان أحداث الهجرة مفصّلة جداً، حتى تبدو للقاريئ أنّها قصّة مكتلمة العناصر والمواد، ويمكننا أن نوزّع هذه المادّة التاريخية على المفاصل التالية: ــ
أولاً: مؤامرة قريش لقتل الرسول الكريم.
ثانياً: كيفيّة خروج النبي من البيت رغم الحصار المضروب عليه من قبل المتآمرين.
ثالثا ً: ملابسات صحبة أبي بكر.
رابعا ً: في الطريق إلى المدينة.
خامساً: في الغار.
وفي الوقت الّذي تسرد فيه المصادر هذه النقاط المركزيّة من قضية الهجرة نتلقي على صفحاتها مع الكثير من الأسماء ذات الأدوار البطوليّة، ومع الكثير من الاحداث ذات الطابع العادي والأعجازي، وفي الأثناء يثور أكثر من سؤال وأكثر من استفهام، فليس كل حدث مكتمل العناصر لا يثير غرابة، ولا يستفزّ الفكر، بل ربما تكامل ا لحدث في ظروف غريبة يكون مدعاةً أكثر من غيره لطرح السؤال وإ ثارة الإستفهام، وغياب السبب قد لا يكون أكثر غرابة من ذكره، إذا كان غريبا، فأن للعقل حقّه في التفسير وا لتعليل وحقّه بالقبول والرفض، والتفسير الطبيعي مقدَّم على التفسير الإ عجازي، وآن الآوان أن تأخذ الطبيعة مساحتها الاكبر الاشمل في فهم واستيعاب تاريخ النبي ا لكريم.
لقد عقد القريشيون العزم على التخلّص من النبي بعد أن تأكد لهم أصراره على مواصلة الدعوة، واتضح لزعمائهم أن الأتباع كثروا، بل وأنّه مُجمع على قتالهم، حيث سبقه أصحابه الى المدينة، فتشاور القوم في دار الندوة، وأجمعوا على قتله، فهو الحل الوحيد، وأختاروا يوم الأغتيال، ذلك اليوم الّذي يُسمّى يوم ( الزّمة )، وقد تحدثت مصادرنا عن أجواء المؤامرة ومجرياتها بالتفصيل، والاصل في الرواية هو إبن إ سحق والرواية في الطبري ( 2 / 447 ــ 450 ) وفي طبقات إبن سعد ( 2 / 101 ــ 104 ) وفي البداية و النهاية ( 3 / 173 ــ 175 ) وفي السيرة النبويّة لأبي الفداء الذي هو نفسه صاحب البداية والنهاية ( 2 / 226 ــ 229 ) وفي زاد المعاد لأبن القيّم الجوزية ( 3 / 50 ــ 51 ) ـ وغيرها من المصادر الأخرى، رغم وهن ا لسند وضعف محمّد بن إسحق عند بعض الرجاليين، فقد روى محمّد بن إسحق قضية المؤامرة عن شيخ مجهول [ قال إبن إسحق، حدّثني ممّن لا أتهم من أصحابنا، عن عبد الله بن أبي نجيع، عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج، وغيره، ممّن لا أتهم، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال... ( وساق القصّة بطولها ) ]ــ 1 السيرة الهشامية 2 / 124 ــ
أننّا نواجه هنا ثلاث مشاكل رئيسيّة بالرواية وهي: ــ
الاولى: ضعف إبن إسحق عند بعض الرجاليين، فقد كذّبه كل من مالك بن أنس وعروة بن الزبير وقال النسائي ليس بالقوي وغرهم ــ 2 الضعفاء لأبن الكامل 6 / 102 إلى 112 ــ كما أنّه أُتهم بالقدر والنقل عن الضعفاء والتشيّع وقول الشعر ــ 3 نفس المصدر و الصفحات ــ
الثانية: مجهوليّة المصدر بقوله ( حدّثني من لا أتهم ) كذلك العنصر المجهول المتوسّط بين أبي الحجاج ومصدر الرواية عبد الله بن عباس.
الثالث: كون الرواية عن عبد الله بن عباس المعروف بالارسال إذ كان له من العمر ثلاث عشر سنة وتوفي الرسول الكريم.

مجريات المؤامرة
رواية إ بن إ سحق
قال إبن أسحق (... لمّا أجمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم غدوا في اليوم الذي أتعدوا فيه، وكان ذلك اليوم يُسمّى يوم الزحمة، فاعرتضهم إبليس في هيئة شيخ جليل عليه ثبلّة، فوقف على باب الدار فلمّا رأوه واقفاً على بابها قالوا: منْ الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأياً ونصحاً، قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم، وقد أجتمع فيها أشراف قريش... ) ـ السيرة 2 / 124 ــ
يواصل إبن إسحق حديثه فيعرض الاراء التي طُرِحت في كيفيّة التخلص من النبي الكريم، وحسب الرواية كانت هناك ثلاث طروحات هي: ــ
الأطروحة الأولى: أن يُحبس النبي بالحديد ويُغلق عليه الباب حتى يصيبه ما أصاب أشباهه من الشعراء، ألاّ أنّ إبليس أو الشيخ النجدي لم يستحسن هذا الراي (... ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجنّ أمرُه من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم ثمّ يكاثروكم به حتى يغلبوا على أمركم ) ـ 5 المصدر 2 / 125 ــ
وقد إقتنع أشراف قريش بتحليل إبليس المتخفّي، وراحوا يستمعون إلى الأطروحة الثانية.
الأطروحة الثانية: أن يُنفى الرسول من بين أظهرهم، حيث يتخلصون من دعوته الكريمة وآثارها التي بدت تزعزع أوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن ابليس المتنكّر بيهئة الشيخ النجدي لم يرتض هذا الراي هو الأخر (... لا والله ماهذا لكم برأي، ألم تروا إلى حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما امنتم من أن يحلّ على حيّ من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثمّ يسير بهم إليكم حتى يطأكم بها في بلادكم، فياخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، ويروا فيه راياً غير هذا... ) ـ المصدر والصحفة ــ
وبالفعل، وكما تذكر الرواية أقتنع الأشراف بتحليل إبليس المتنكّر، وأضطروا أن يسمعوا إلى الاطروحة الثالثة.
الاطروحة الثالثة: وكانت لأبي جهل بن هشام حيث قال (... أرى أن نأخذ من كل قبيلة ثتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا، ثمّ نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثمّ يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه، فإنّهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمُه في القبائل جميعاً، فلم يقدر عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فرضوا منّا بالعقل فعقلناه لهم... فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي لا رأي غيره، فتفرّق القوم على ذلك وهم مُجمعون ) ـ 7 المصدر و الصفحة ــ


دقَّّة الدور الإبليسي
التدقيق في سسطور الرواية يكشف عن دور ريادي لأبليس، فهو الذي قام بعمليّة تقييم الأراء وتحليلها، وهو الذي شخّص الرأي السليم والمقبول، ومن الواضح ان المجتمعين رغم أنّهم من أشراف قريش ويمتعون بحنكة وتجربة، لأنّهم زعماء غير عاديين، إلا أنهم كانوا يستمعون إلى حكم إبليس ويذعنون له، ولم يجرؤ أحد على ردّه أو حتى منافشته، واستقرّت النتيجة على إ مضاءه وإختياره، ونلاحظ دقّة الفكر الأبليسي في تحديد العواقب وإكتشاف المستقبل، فقد كان موفّقاً جداً في قرن كل رأي بالمستحقات التي سوف تترتب عليه، ومن هذا نخرج بصورة تؤكد أن إبليس كان بطل القضية، خاصّة إذا أخذنا بنظر الإعتبار أنّه سبقهم إلى دار الندوة، حيث علم بالخبر وحولياته بدقة مفصَّلة، كما إستطاع الإ ندساس في صفوفهم بطريقة فنيّة فائقة، وممّأ يزيد هذا الواقع تأكيداً امران رئيسيان: ــ
الأول: تطابق رأي إبليس مع إقتراح أبي جهل، باعتبار أنّ هذا الاخير من ألدّ أعداء النبي الكريم، ومن أكثر خصومه عاملين عى الخلاص منه ومن دعوته، بل من العاملين على قتله.
الثاني: لقد تمثّل إبليس بهيئة شيخ نجدي وليس تهاميِّا، ذلك أن أهل تهامة كانوا يميلون إلى النبي الكريم، وقد تكرّرت هذه اللعبة الأبليسيِّة عندما بُنيت الكعبة، أو بالأحرى عندما أُعيد بناؤها، حيث إقترحوا أن يرفع الرسول الحجر، أذا تقول رواية تمثل إبليس بشيخ نجدي أيضاً، وصاح (... يا معشر قريش أقد رضيتم أن يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أسنانكم؟ ) ــ 8 المصدر الهامش ــ
أنّ ملاحظة عناصر التوليفة تكشف بوضوح عن بطولة إبليس في الحدث التاريخي.


معالجة في رواية
لم تستلم قضية إبليس من إختلاف في المضامين من مصدر لآخر، ففي السيرة الحلبيّة (... ثمّ أن إبليس جاء إليهم في صورة شيخ نجدي عليه طيلسان من خز... ووقف ذلك الشيخ عخلى الباب فقالوا له: من الشيخ " قال الشيخ: من أهل نجد سمع بالذي أجتمعتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لايعدمكم منه رأياً ونصحاً، قالوا: أجل، أين نعم، فدخل معهم، وإنّما قال لهم من أهل نجد لأن قريشا قالوا: لا يدخلنّ معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة، لأن هواهم كان مع محمّد صلى الله عليه وسلم قيل: كما سمعهم يقولون لا يدخل معكم اليوم إلاّ من هو معكم، قال لهم: لمّا سألوه، وقالوا له من أنت: قال شيخ من نجد وأنا أبن أُختكم، فقالوا: إبن إخت القوم منهم، وقيل: إنّ إبليس لمّأ دخل عليهم أنكروه، وقالوا له: من أنت؟ وما أ دخلك علينا في خلوتنا هذه بغير إ ذن؟ فقال: أنا رجل من أهل نجد، رأيتكم حسنة وجوهكم، طيبة ريحكم، فأحببت ان أجلس إليكم وأسمع كلامكم، فأن كرهتم ذلك خرجت عنكم، فقال بعضهم لبعض: هذا نجدي ولا عين عليكم منه، وفي لفظ: هذا من أهل نجد لا من مكّة فلا يضركم حضوره معكم ) ــ 9 السيرة الحلبية 2 / 25 ــ
إنّ هذه الاضافات هي جواب أوأجوبة على أسئلة كان لابد أن تُثار، أي هي إضافات شبه علاجيّة، فمن الطبيعي أن نتساءل عن سبب هذه الغفلة التي أصيب بها القوم المتآمر، ولا بد أن نتساءل عن موقف الذهنية العربيّة المحنّكة عن ملابسات الوافد ا لجديد، أو الوافد الذي إستبق القوم إلى دار الندوة، فإن صمت الموقف الذي أخبر به إبن إسحق غير معقول إطلاقاً، وذلك لأكثر من سبب، منها: دقّة المؤامرة وأهميتها، ومنها: نوع المؤتمرين، ومنها: سريّة القرار.
ومهما يكن من أمر، تبرز مرّة أخرى بطولة إبليس في الحدث، ولكن في إ طار من التساؤل المشروع...


المعالجة القرآنيِّة
قال تعالى ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكر الله والله خير الماكرين ).
قال في مجمع البيان [( ليثبتوك ) أي ليقيدوك في الوثاق... وقيل ليثبتوك في الحبس ].
[ ( أو يقتلوك أو يخرجوك ) من مكّة إلى طرف من أطراف الأرض، وقيل: ليخرجوك على بعير ويفردونه حتى يذهب وجهه ].
جو الأية مشحون بكل مايؤكد المؤامرة من المكر والاساليب المطروحة في تنفيذها، والنتيجة التي تنتظر المتأمرين، والطبيعة العقدية التي يحملونها ( الذين كفروا )، ونحن إذا قمنا بعملية تفكيك للنص القرآني سوف نصل إلى تشبّع الآية بالا حتمال، أي أن السجن والطرد والقتل نتائج مؤجّلة إلى حين الوقت المناسب، والقرار هو الخلاص من محمّد والله هو الحافظ.
يقول تعالى ( أم يقولون شاعر تتربّص به ريب المنون قل تربّصوا فإني معكم من المتربّصين ).
فإنّ جو التربص في الأية يشير إلى أحد العناصر المهمّة في المؤامرة، وربّما تُرقّم المرحلة الثانية من المؤامرة، اي بعد الاتفاق على إقتراح أبي جهل، فالاحتمال أنتفى بعد أن أُتخذ قرار القتل، وأن الآيتين الكريمتين تسجّلان بدقة مرحل القرار، هذا إذا صحّ أنّهما نزلتا في قضيّة واحدة.
السؤال المطروح: تُرى لماذا لم يشر القرآن الى موضوع إبليس المتنكّر؟ ونحسبها إشارة مهمّة بل في غاية الا همية، لان الكتاب الكريم حريص على إظهار دور الشيطان في الأعمال التخريبيّة، وأحدى أهم واخطر الإدانة لكثير من الاعمال والمواقف هو مدخليّة الشيطان ودوره فيها، فإن الافصاح عن دور الشيطان وبالشكل الذي يرويه إبن إسحق يعطي مجالاً واسعاً لتثبيت الجرم اكثر، ولأسباغ الطابع التدميري عليه، ذلك أن الموضوع يتعلّق بإعدام أكبر قيمة بشرية عرفها التاريخ الانساني، وسوف تبقى كذك، إنّه محمّد.
إنّ إبليس عنصر مفتعل، لا يقدم ولا يؤخر في الحدث، على أي صعيد من أصعدته، سواء القرار من حيث الاساس، أو إختيار الطريقة المثلى للقتل... فان المؤتمرين من صناديد قريش ومن عليّة القوم الذين قضوا شطراً كبيراً من أعمارهم بالغزوات والتحالفات والتجارة، وليس به حاجة للإغراء بالقتل لان النيّة قائمة في ضمائرهم ومتمكنة من وجدانهم قبل ان يندسّ إبليس في مجمعهم.


النجاة من المؤامرة
يواصل إبن إسحق حديثه عن مؤامرة قريش لقتل النبي الكريم فيقول [ فلمّا كانت عتمة الليل إجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي: نم على فراشي وتسجّ ببردي الحضرمي الأخضر 10، فنم فيه، فانه لن يخلص إليك شيئ تكرهه منهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في بردذه ذلك إذا نام، قال إبن إ سحق: فحدّثني يزيد بن زياد عن محمّد بن كعب القرضي قال: لما أجتمعوا له ومنهم أبو جهل بن هشام فقال وهم على بابه: أنّ محمّداً يزعم أنّكم أن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بُعثم بعد موتكم... قال: وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخذ حفنة من تراب في يده، ثمّ قال: أنا أقول ذلك أنت أحدهم، وأخذ الله على أ بصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر التراب على رؤوسهم، وهو يتلو الآيات ( يس والقرأن الحكيم أنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم )، الى قوله تعالى ( فأغشيناهم فهم لا يبصرون )، حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الآيات، ولم يبق منهم رجل إلاّ وقد وضع على رأسه ترابا، ثمّ إنصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فآتاهم أت ممّن لم يكن معهم فقال: ما تنظرون ها هنا؟ قالوا: محمّداً، قال: خيّبكم الله، قد والله خرج عليكم محمّد، ثمّ ما ترك منكم رجلاً إلاّ وقد وضع على رأسه تراباً، وأنطلق لحاجته أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثمّ جعلوا يتطلّعون فيرون عليّاً على الفراش متسجّياً ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: والله أنَّ هذا لمحمّد نائماً عليه ببر ده، فلم يبرحوا حتى أصبحوا، فقام عليّ رضي الله عنه عن الفراش، فقالوا: والله لقد كان صدقنا الّي حدّثنا ] ــ 11 السيرة 2 / 126 ــ
هذا النص الطويل نقله الطبري برواية إبن إسحق بسنده المذكور ( 2 / 450 ــ 451 ) وأبو الفدا في سيرته ( 2 / 230 ــ 231 )، وتاريخه ( 3 / 174 ــ 175 ) وغيرها من المصادر الأخرى، حيث يبقى سند إبن إ سحق هو المدخل الرئيسي للرواية المذكورة.
ليس ممّا يتناقض مع المنطق الديني ان يخبر الله رسوله بمؤامرة تهدف قتله، وليس ممّا يتناقض مع هذا المنطق أن يُخبر الله نبيه بتغيير مكانه خوفاً عليه من القتل، ولكن ليس من الضرورة الدينية أن تكون المعجزة حاضرة في كل وقت وأن تكون سبب الموقف والحدث دائما، بل المنطق الديني الحصيف يرجِّح التفسير الطبيعي على التفسير الإعجازي فيما توفّرت أبسط الدواعي والاسباب لذلك. أقول ذلك لأشير إلى دور البرد السحري الذي تهيله الرواية على بردة رسول الله ودورها في دفع الأذى عن علي بن أ بي طالب وهو قد تسجّى بها على فراش رسول لله لللإ يهام. ولقد كان في إ ستطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يحتمي بهذه البردة لردّ كيد الأعداء وشرّ نواياهم الشريرة، فلا نعتقد أن بركة البردة هذه تقف عند جسد علي بن أ بي طالب، على انّ هناك روايات أخرى تقول أن صناديد قريش أو المتآمرون كانوا يضربون عليِّا عليه السلام بالحجارة وهو يتلوّى من الالم!
يكشف النص عن إ صرار على توحيد الأجواء الغريبة للمفاصل الأساسية في الحدث، لقد مضى بنا موضوع إبليس المتنكّر في اللحظة التي قرّر بها الأشراف صناعة الموقف المطلوب في تصوهم من صاحب الدعوة، وهنا نلتقي مرّة أخرى ( بمصادفة ) شبيهة! أي ذلك الرجل الّذي أتى ليبلّغ القوم هروب النبي الكريم، وما صنع بهم من دالةٍ تشير إلى إخفاقهم وفشلهم، تُرى هل كان هذا الرجل نفسه إبليس المتنكّر؟ أم هو ملك صالح؟ يلوّح بل يصرّح صاحب السيرة الدحلانيّة أنّه الرجل النجدي ــ 12 سيرة دحلان 1 / 307 ــ وبذلك تتم عمليِّة التواصل الغيبي السحري بين نقطتي البداية والنهاية، إنّ هذا التواصل شاهد على الرغبة الجموحة في تسييد التفسير الإعجازي حتى إذا كانت الحاجة إليه منتفية.
لقد أغفل تماماً ردود فعل المتآمرين وهم يتلمّسون بأيدهم التراب على رؤوسهم، لقد كان علامة صارخة على شيئ خارق، ومخالف للمألوف على أقل تقدير، ومن الصعب القول بأنّ النفس الإ نسانية تتعامل بمثل هذا البرود مع مثل هذه الظواهر، خاصّة وأنّهم كانوا جماعة، ربما بغت المئة على بعض الروايات.
من الواضح البيّن أن الإعجاز يركّز بالنهاية على خروج رسول الله من الباب حيث كان الرهط المتآمر مجتمعاً عند الباب بالذات، يرصدون النبي الكريم، فقد جاء في طبقات إبن سعد ( وأجتمع أولئك النفر من قريش يتطلّعون من صير الباب ويرصدونه ) ــ الطبقات الكبرى 1 / 288 ــ.
إنّ جوهر الحدث في تصوري هو نجاة النبي الكريم من القتل، فهل يمكن تصوّر ذلك وفق المنظور العادي والمجريات الطبيعية؟ أنّ هناك جملة ممكنات في صالح هذه الإ تجاه.
لقد كان الرسول الكريم في بيته الشريف يحاور عليّأًَ في موضوع المؤامرة، وفي الأثناء تجمّع الرهط المتآمر، وذلك حول الباب يرقبونه ويترصّدونه، وهنا سؤال مهم، تُرى لماذا لم يقحموا الباب ويقتلوا النبيّ الكريم؟
لقد أجاب السهيلي على هذا السؤال الوجيه بقوله (... ويذكر بعض أهل التفسير المانع لهم من التقحّم عليه في ا لدار مع قصر الجدار، وأنّهم إنّما جاءوا لقتله، فذُكر في الخبر، أنّهم همّوا بالولوج عليه فصاحت أمرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: والله أنّها لسبّة في العرب أن يُتحدّث عنّا إنّا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا، فهذا الذي هو الذي أقامهم بالباب، أصحبوا ينتظرون خروجه ثمّ طُمست أبصارهم على من خرج ) ـ 14 سيرة دحلان بهامش السيرة الحلبية 1 / 308 ـ
أذن كان المتآمرون واقفين على الباب ينتظرون خروج الرسول الكريم، ويبدو أنّ بداية الإجتماع كان في الثلث الأول من الليل ( فلمّا كانت عتمة من الليل ) حيث بدأ يخطط الرسول للفرار، وهنا صورتان: ــ
الأولى: أمّا أن يخرج عليه السلام من الباب.
الثاني: وأمّا أن يتسور حائطاً من حيطان الدار بعيداً عن أنظارهم، خاصّة وأن الجدران ليست عالية كما هو نص الرواية.
الرسول الكريم كما تشير رواية إ بن إسحق خرج من الباب بطريقة إعجازية كما مرّ، ولكن هذا لا يعني أن الأحتمال الثاني يعدم دليلاً من السيرة، فقد جاء في الحلبية ( وقال في ا لنور وهذا يعارضه حديث ماريّة خادم النبي صلى الله عليه وسلم تكنّى أم الرباب، أنّها طأطأت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد حائطاً ليلة مرّ فرّ من المشركين ) ــ 15 الحلبيّة 2 / 28 ــ والنور هو كتاب ( نور الأبصار ) للشبلنجي، والجمعبين الخبرين صعب، وما قام به صاحب السيرة الحلبية واضح التكلّف (... أقول: التوفيق حاصل وهو أنّه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يحب أن يخرج عليهم من الباب فتسوّر الحائط التي نزل منها عليهم ) ـ 16 السيرة الحلبية 2 / 28 ـ
أنّ الصورة الثانية من الفرار تتمتع بتاييد المنطق والواقع والطبيعة، ومن المناسب القول أن المنحى الإعجازي في رواية إ بن إ سحق ( قضية الخروج من الباب وملابساتها ) لم ترد في كثير من كتب السيرة والحديث.
الذي نعتقده بأن مبرّرات التفسير الطبيعي لكيفية هروب رسول الله من البيت ليست معدومة، فهي تمتلك مبرّراتها من القناعة العقلية والأثرية، وإذا ما إحتج بعضهم بالاية الكريمة التي كان الرسول الكريم يتلوها، فإ ن من المسلّم به إنّها من إمضاءات الخطاب الديني الإسلامي للأستعانة على النجاة من المواقف الصعبة، ولكن ذلك لا يمنع من التخطيط المادي، بل من المؤكّد والمسنون، وكان رسول الله يخطّط فعلاً للفرار، وإلاّ لماذا إستغلّ الليل للتسلّل من البيت؟ ولماذا الإيهام والتمويه؟ وإذا كان هناك فرصة للهروب الطبيعي فلماذا المعجزة؟
أنّ العناصر الطبيعية في الحدث معروفة ومشهورة في كتب الحديث والتفسير والتاريخ، ونفي الحدث مسألة صعبة، ولكن إهمال النقاط الخارقة للقانون الكوني في الحدث ممكن، وهناك شواهد قويّة عليه، ولقد أشار القرآن الكريم إلى مبدأ التضحية الذي جسّده علي بن أ بي طالب عليه السلام ( البقرة ـ 227 ) على بعض الروايات المأثورة.
جاء الآن زمن فحص السند، سند رواية إبن اسحق ( قال محمّد بن إسحق: حدّثني يزيد بن زياد، عن محمّد بن كعب القرظي... ).
1: يزيد بن زياد، وثّقه النسائي وإبن حبّان، ولكن البخاري يقول ( لا يُتابع على حديثه ) ـ 17 تهذيب التهذيب 11 / 328 والميزان 4 / 426 ـ
2: محمّد بن كعب القرظي، ذكره العلماء في الموثوقين العارفين بالتفسير، ولكن رغم ذلك هناك ما يدعو الى الحذر والتامل في روايته، فقد قال الذهبي ( وهو يرسل كثيراً ويروي عمّن لم يُلقهم ) ــ 18 سير أعلام النبلاء 5 / 66 ـ وقد جاء في تهذيب التهذيب ( محمّد بن كعب... كان أبوه من سبي قريظة، سكن الكوفة ثمّ المدينة، روى عن إبن العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وإبن مسعود وعمرو بن العاص وأبي ذر وأبي الدرداء، يُقال: أن للجميع مرسل ) ـ 19 تهذيب التهذيب 9 / 420 ـ
إنّ كل ذلك يجعلنا في حلّ من التردّد، خاصّة إذا تعلّق الأمر بالقضايا الخارقة للطبيعة، والسلام والصلاة على رسول الرحمة والحب محمّد العزيز.