في ليل العراق البهيم والطويل كانت ثمة بروق وصواعق تنير الطريق وتبهر العيون وتشعل الذاكرة التي أدمنت النوم، والمتصفح لتاريخ العراق يجد كماً كبيراً من الأقمار العراقية المشعة والمتألقة دوماً والحاضرة في كل زمان، وفي ليل العراق الحالك كان ثمة ضوء يعادل ضوء القمر ويتشابه مع حزمات الشمس التموزية، وحين كنا نفتقد الحكمة في الزمن البعثي البغيض ونسأل ان كانت لم تزل متجددة وتحل في ضمائر الرجال، كنا نحلم بأنسان عراقي معجون بطيــنة أور ومرسوماً على حجارة آشور، صلباً كالخزف البابلي، صريحاً وقوياً صلداً كما صخور كردستان، حكيماً أسمه هادي العلوي.
الجرأة التي تتحلى بها ليس في صراحتها أو حقيقتها أو طقوسها، وانما تكمن في زمنها، فأنت تقول الحقيقة في الزمن العربي الأعور، وفي زمن عربي هش لم يعد يفرق بين المكابرة على الباطل والاعتراف بالحق وبين الأصرار على الظلم، بين الرذيلة وبين الفضيلة، بين العفة والأقتدار وبين سلطة الجبناء وأقتدار المرعوب، وبين أن تنتصر للأنسان وبين أن تبقى أسير الثقافات المليئة بالدجل والطائفية والشوفينية، وبين أن تنزع أدرانها عن جسدك وتتخلص من ارثها لتقول الحقيقة وانت غــير مثقل بكوابيسها أو تتلبسك أبدأً ن بين أن تكون جريئا وصوتك عالياً وبين أن تكون خنيثاً تتحدث بميوعة المتخنثين.
ياسيدي الحكيم لقد تبرأت من الطيار العربي الذي قصف الأطفال في كردستان بالغازات، او الذي نثر عليهم القنابل بدلاً من حلوى العيد أو رذاذ المطر، ومن الجندي الذي ركل الأطفال الكرد ثم رشقهم بزخة رصاص عربية شجاعة لتسكت خوفهم وجوعهم وشوقهم الى أمهاتهم اللواتي قبرن قبلهم دون صراخ.
ياسيدي الحكيم تذكرتك اليوم وأنت تتبرأ من كل هذا وتقول لنا :
(( أيها الطفل الكردي المحترق بالغاز في قريته الصغيرة، على فراشه، أو في ساحة لعبه، هذه براءتي من دمك أقدمها لك. معاهداً إياك، ألاّ أشرب نخب الأمجاد الوهمية، لجيوش العصر الحجري، أقدمها لك على استيحاءٍ، ينتابني شعورٌ بالخجل منك، ويجللني شعورٌ بالعار أمام الناس، أني أحمل نفس هوية الطيار الذي استبسل عليك. وليت الناس أراحوني منها، حتى يوفروا لي براءة حقيقية من دمك العزيز. أنا المفجوع بك. الباكي عليك في ظلمات ليلي الطويل. في زمن حكم الذئاب البشرية، لم نعد نملك فيه إلا البكاء.
اقبلْها مني، أيها المغدور، فهي براءتي إليك من هويتي )).
ياسيدي الحكيم لم تزل بعض الأعراب من الناس فينا حتى اليوم تشرب نخب الأمجاد الوهمية لجيش العروبة، ولم يزل العار الذي تكللت جباهنا به عنوان للعنفوان والشجاعة، ولم نزل منتصرين في الأذاعات ونحن منخورين ومهزومين حتى العظم، ولم يزل التباكي على وحدة الوطن من العصاة الأنفصاليين الذين يريدون سرقة وطننا العربي الكبير منا في غفلة من الزمن بعد أن كانوا دون وطن أو هوية، لم تزل الأسلحة الفارغة التي تختزنها العقول الباهتة ذخراً لأيامنا العربية القادمة،لم نزل نختزن الكيمياوي والعنقودي ونحتفظ بالألغام لنزرع بها حقول كردستان، لم يزل حتى اليوم ياسيدي العلوي من يفكر بعقلية الجندي الذي يركل والطيار الذي يقصف بالكيمياوي ومطلق النار خلف الرأس دون ان يعرف الضحية والقاتل بعضهما، ولم يزل حتى اليوم من يجد في هذا الأعتذار والبراءة التي تقدمت بها رجساً من عمل الشيطان.
ياسيدي الحكيم لقد تفتحت الأرض وأخرجت من باطنها رفات مئات الالاف من الكرد المدفونين بأياد عربية، ووشمت أجسادهم برصاصـات أشتروها من ثمن البترول العربي بدلاً من شراء خبز الفقراء، وتعددت المقابر حتى فاق عددها خيال وحساب الأنسان، فقد صار للكرد بين كل مقبرة مقبرة أخرى، كردستان العراق بلاد المقابر، وصارت أماكن قتلهم متاحف ومعارض وملاعب للأطفال ممنوع فيها دخول البعثيين، لكنهم لم يقرأوا الفاتحة على جثث ضحاياهم ولاأقاموا مآتم النواح، ولم يسمعوا من غيرك من يتبرأ من شناعة البطولة العربية في الزمن الأخرق.
ياسيدي الحكيم في فاجعة كربلاء التي قتل فيها الأمام الحسين تمادى القتلة وقتلوا طفلاً رضيعاً، لكنهم في كربلاءات كردستان دفنوا الأطفال الرضع دون ذبح فقد تم دفنهم أحياء وملأوا افواههم بالتراب دون ان يفكوا القماط، لم يتعرفوا حتى على قوميتهم أو اسمهم أو اسماء امهاتهم أو اجناسهم، لكنهم وجدوهم ملتصقين بأجساد الآخرين والتراب يملأ خياشيمهم.
لم تعرف النساء الكرديات المذبوحات بالرصاص العربي الشجاع الى اللحظة الأسباب التي أدت الى قتلهم بهذا الشكل المروع والجماعي والذي لم يهز ضمير العالم العربي ولاأبكى شيوخ الجوامع ولاتذكروهم بالرحمة في الدعاء الطويل الذي خصصوه للقائد الضرورة.
لم يحص الأكراد أعداد قتلاهم لحد اليوم ففي كل يوم يكتشفوا مقبرة لأهلهم حتى ضاع عدهم، هذا غير مقابرهم التي توزعت في الرمال العربية والمدن العربية التي لايعرفون والتي ستكتشف بعد حين أو التي لن تكتشف ابداً، لم يزل لحد اليوم بيننا من يعتبر الكرد هم الشوفينيين وانهم يستحقون مانالهم من الطاغــية والسلطات العربية القامعة التي سبقته، وأن عليهم أن يستجيبوا لقدرهم ويتقبلوا كون الله خلقنا لقيادتهم، وعم تحت رعايتنا فنحن السادة وهم الأتباع.
ياسيدي الحكيم قدمت برائتك من هويتك الى الطفل الكردستاني، ولم يتبعك أحد ولم يشايعك أصحاب الهويات، ولم يؤيدك أحد ماعدا بعض الأقمار العراقية التي بقيت تشع لنا بعدك، فهل هذا موقف عربي وأشارة تدل على الأصرار والمكابرة في أرتكاب فعل الجريمة بحق الأنسان الكردي والتباهي بالجرم المشهود ؟ وهل أن الجمع العربي لم يزل يريد ان يعود الطيار العربي والجندي الراكل واليد العربية التي تحفر الشقوق لتدفن الضحايا ليمارس عمله مرة أخرى في زمن بليد اختلطت فيه التعابير السياسية حتى صار للعواهر فينا تجمعات وأحزاب وقيم نحترمها ونلتزم بها ونستحي منها، بل وصار حثالات العرب وسقط المتاع محللين سياسيين في الفضائيات العربية يمنحون أنفسهم الحق بشتم من يريدون ويسقطون من يريدون في هذا الزمن العربي الأحول.
ياسيدي الحكيم في زماننا صار العرب يطلقون على أكثر البشر أنحطاطاً وخسة وسفالة شهداء، فالشهادة لم تعد قاصرة على من تتوفر فيه شروطها، تحولت الى صكوك تمنحها الجمعيات والأحزاب والشخصيات وفق ثمنها ووفق مصلحتها، والشهادة في زماننا صاريمنحها مختار المحلة والنشال في مواقف السيارات، وفي زماننا العربي صار العرب يطلقون على القاتل والسارق والسافل والغادر والجبان لقب رمز العرب، بالرغم من كونه حقاً رمزاً عربياً لهم في زمن بائس، فلم يعد للمباديء ذلك الثقل الذي كان في زمانك، ولم تعد القيم تلك التي كنت تؤمن بها فاعلة في هذا الزمان، صار في هذا الزمن العربي الأحول بأمكان الممسوح والمنسوخ والمثلوم ان يطعن في أي رمز عراقي وطني ويتطاول على الحقيقة ويزور التاريخ وسط تصفيق واهازيج عربية.
ياسيدي الحكيم برائتك من هويتك والتي لم يجاريك فيها الآخرين لم تكن كافية، مع انها خطوة جديرة أن تشعل الضمائر وتهز الشوارب وتعيد الصحوة للغافين من الأمة الواحدة، وبرائتك من الهوية التي قدمتها للطفل الكردي الممتليء بروائح الكيمياوي والخردل وثقوب الرصاص.
سأقف خلفك أردد برائتك من الهوية وأنحني أجلالا ومهابة لهذا الشعب النبيل، وأقف بخشوع وبتقديس أمام جثث الضحايا التي لم نعدها ونرتب عظامها لحد اليوم، وأقف بسكون وصمت مصحوب بدمع ساكت أمام صور الشهداء في حلبجة المدينة الشهيدة التي مات فيها الأنسان وشجر الآجاص وحمام البيوت وعصافير الحقول، واردد برائتي أمام كل مقبرة تم اكتشافها أو لم تنكشف لحد اليوم.
سأقف خلفك مهابة لك وأنا اتلمس طريقك الجريء حين صرخت بوجه الزمن العربي العاهر وتبرأت من هويتك أمام الطفل الكردي المحترق بالغاز في قريته الصغيرة بجرأة لم يكن يملكها سواك، وصرخة لم يسبقها سواك، وصراحة لم يكن يقولها سواك، مصحوبة بدموعك الغالية ايها الحكيم، فالحكماء قليلاً مايبكون، لكنك انفعلت أمام الغدر الذي حل بالطفولة وبالأنسان في كردستان، فأطلقت برائتك من الهوية أمام الضمائر العربية التي لم تزل ممسوحة ومشوهة الملامح.
خلفك سيدي الحكيم العلوي لن اعلن برائتي من الهوية فقط، وانما سأبقى منحنياً أمام طهارة الأجساد الكردية والصبر الكردي الطويل، ساكناً امام ( نرجس ) الطفلة الكردية ذات الأيام الثلاثة التي دفنها الجيش العربي قبل أن تموت، وامام نبل الأمة الكردية، لعل سكوني وأنحنائتي وبرائتي تثير البعض ليقف معنا بدلاً من رشقنا بحجارة الوطن الواحد والأمة الواحدة.
أضع شمعتي قرب قبرك الغريب في الزمن الغريب، ثم اعود لأعلن برائتي من هويتي أمام أطفال كردستان وشباب كردستان ونساء كردستان وشيوخ كردستان وعصافير كردستان التي سممها العقل العربي المريض، وأرتكب بحقها أقسى المجازر التي عمد الأعلام العربي وهو جزء من الأنحراف العربي في الزمن الاحول أن يتستر عليها، وأن يشطبها من ذاكرته ويتعامل معها بأعتبارها قضايا أعتيادية في الفعل العربي، او هي قضايا داخلية غير مهمة في عرف العقل الشوفيني.
أضع شمعتي وأعود لأنحني أجلالا لشعب كردستان، مع علمي ومعرفتي بأن لابرائتي ولاأنحنائتي ستعيد البهاء والمسرة لأرواح الشهداء والضحايا الذين حصدتهم الماكنة العربية، وأنا أعتقد انني لن أغير من الأمر شيئاً، لكننا نحاول فقط أن نقدم شيئاً مما نستطيع لحقيقة موجعة من حقائق الحياة العراقية، وأن نعطي لكردستان مايجود به المعدم، رمزية الموقف الأنساني الذي نملك.
أضع شمعتي قرب قبرك وأقف أجلالا لشعب كردستان متبرئاً من هويتي ولن استعيدها حتى يتقبل مني أهل قرى ومدن كردستان وأهل الشهداء والضحايا هذا الأعتذار، وهذه الوقفة، وأن يمسحوا دموع خجلي وأعتذاري، وأن يتقبلوا أن يجلسوني في بيوتهم الفقيرة أقرأ الفاتحة لأرواح الشهداء الذين قتلهم أبناء جلدتي وقوميتي في زماننا العربي البغيض .
اعلن برائتي ووقفتي أجلالا وأطالب كل الخيرين والطيبين من اهلي أن يقفوا خلفك سيدي الحكيم فقد تحملت الكثير منهم وانت تعلن برائتك، وهانحن نعرض ارواحنا نتبرء من هويتنا ونعلن وقوفاً أحتراماً وأجلالاً لهذه الأ{واح الطاهرة التي قد يجعلها تستقر وترتاح هذا التبرء وهذه الوقفة، ونحن نتلمس جرأتك في الموقف وصراحتك في التعبير ايها الحكيم العراقي والأنسان الممتليء بالطيب والحكمة.