حين كتبنا مقالنا "جنبلاط للرئاسة" لم نكن نتصوَّر أن يصل السيِّد جنبلاط إلى المزايدة على مَن هم في أقصى يمين "لقاء البرستول" عن الوجود السوري في لبنان. ونتكلَّم هنا تحديدًا عن طلب جنبلاط أن يتمَّ تبادل السفراء بين لبنان والجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة. لا نريد أن يُفهم من كلامنا أنَّه تخوين، إلاَّ أنَّه لا يسعنا سوى الإشارة إلى أنَّ هذا مطلب إسرائيلي دائم، طالبت به معظم الحكومات الإسرائيليَّة لا سيَّما إبَّان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وهذا الطلب هو في صميم استراتيجيَّة إسرائيل منذ قيامها، وسعيها لشرذمة بلاد الهلال الخصيب.
لعلَّ جنبلاط "قبض" فعلاً أنَّ المعارضة يمكن لها أن ترشِّحه للرئاسة، فراح في مزايدته إلى أقصى اليمين المعارض. ولكن كلامه أسقط آخر ورقة توت عن العروبة التي ينادي بها. فإذا كان لبنان والشام بحاجة إلى سفارات بينهما، فإنَّ مفهومه للعروبة ساقط من أساسه، كسقوط مفهومه للاشتراكيَّة، وهو الـ "بك" الإقطاعي، وكمفهومه للتقدميَّة، وهو المقدَّم الطائفي.
ليس جنبلاط وحده المسؤول عن مثل هذا التناقض، بل دمشق مسؤولة أيضًا، ومثلها باقي الدول العربيَّة. إنَّ دمشق التي قبلت بالأمس القريب أن يصار إلى تبادل سفارات بينها وبين السلطة الفلسطينيَّة، هي أيضًا تسهم في دفن مفهومها للعروبة، ناهيك عن مفهومنا لوحدة بلاد الشام. إنَّ دمشق، ومثلها عمَّان وبغداد وبيروت والكويت، وباقي العواصم العربيَّة تعيش حالة انفصام شخصيَّة، لأنَّه كلَّما ارتفع صوتها مناديًا بالوحدة العربيَّة، ارتفعت درجة تمثيلها الدبلوماسي بين بعضها بعضًا، وارتفع علوُّ الحواجز على حدود كلٍّ منها.
إنَّ في المطالبة بتبادل للسفراء بين لبنان والشام، وبين الشام وفلسطين خطر كبير. يحتِّم ذلك تباعًا أن تنظر كلٌّ من دمشق والقدس وبيروت على أنَّها ليست ثلاث مدن داخليَّة في بلد واحد، بل على أنَّها عواصم ثلاث لكيانات مستقلة الواحدة عن الأخرى استقلالاً تامًّا ولا علاقة بينها إلاَّ ما تحدِّده مصالحها "الخارجيَّة".
لا، ليس هناك "شعب لبناني" يختلف عن "شعب سوري" وعن "شعب فلسطيني" وعن "شعب أردني" وعن "شعب عراقي". إنَّنا شعب واحد فعلاً يعيش أزمة هويَّة سياسيَّة تنعكس على جميع شؤون حياته، وتتجلَّى كأخطر ما يكون في مفارقة أن تطلب الولايات المتَّحدة وإسرائيل من الجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة أن تمتنع عن التدخُّل في الشؤون الداخليَّة للعراق وفلسطين ولبنان، فيما تجثمان معًا على صدر العراق وفلسطين، وتهدِّدان معًا الشام وقلبها لبنان.
إنَّ تقسيمنا دولاً هامشيَّة في منطقة الهلال الخصيب قد سمح باستفرادنا واستباحتنا دوليًّا، ولن يتغيَّر هذا الواقع حتَّى تترسَّخ قناعتنا بأنَّ "فلسطين هي شأن لبناني في الصميم" وكذلك هو شأن الشام والعراق وشؤوننا جميعها.
نعود إلى جبنلاط، إنَّه من نسيج الطاقم السياسي اللبناني عينه، سواء منه الحاكم أم المعارض. وإذا كان قد حاول حتَّى أمس القريب أن يتمايز من المعارضة بتلُّون خطابه مماثلة بخطابها المنشَّى، فإنَّ خلافه مع "ضابط أمني" كما يصفه قد نسف مقولته عن العروبة، وأسقط مصداقيَّة "حرصه" على مصلحة سورية ولبنان وفلسطين. إنَّ جنبلاط اليوم يقف إلى أقصى يمين معارضة البرستول. ولا يقلُّ مرائيَّة في "حرصه على مصلحة سورية" - بعد دعوته لتبادل السفراء معها - عن مرائية المعارضة في "حرصها على مصلحة لبنان". إنَّهما مرائي وجد أخاه.